قصة حقيقية حدثت في بداية الستينيات من القرن الماضي
في إحدى الجامعات في بلاد الغربة (في مصر) ، إلتقى شاب ريفي وسيم ملتزم وفقير الحال، متفوق بدراسته، وعلى قدر عالٍ من الثقافة، وكان في سنة التخرج من قسم الهندسة المدنية , ويحوز سنوياً على مرتبة الشرف الآولى على الدفعة مع فتاة مدنيّة (من المدينة ) جميلة ومنفتحة ومن عائلة معروفة وغنية، وكانت في السنة الثالثة بكلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية، وينتسبان الى نفس القطر العربي، ورمق الشاب الفتاة بنظرة إعجاب مثقلة بالحياء والتمني الصعب على التحقيق، وبادلته النظرة بجرأة اكثر منه، وكانت قد تابعت كتاباته في جريدة الجامعة، واختزنت صورته بمخيلتها نظراً لتأثره بفكره المنفتح، وعاودا اللقاء أكثر من مرة تجمعهما محاضرات في مادة اختيارية، وتحول الإعجاب الى حب خجول من طرف الشاب الذي كان يحمر وجهه ويتصبب جبينه عرقاً عندما يصادفها ويتحدث معها حديثاً ينم عن الجبن المتوارث من العادات والتقاليد في اظهار ما لديه من مشاعر تجاهها وقلة خبرة في التعامل مع الجنس اللطيف. ومرت الأيام والفتاة تنتظره لكي يبادر بالحديث معها، ولكن لا حياة لمن تنادي، تتعمد ملاقاته وجهاً لوجه، وتحتك فيه بالأسئلة عن مساق المادة، وتستعير دفتره الذي كان يدون فيه المحاضرات، وتحجز له مقعدا بجانبها بوضع دفتره المستعار بالمقعد المجاور لها، ولكنه يختار أن يجلس بعيداً عنها وفي نفسه أن يجلس بقربها، وكان يفهم ايمائتها له بالإعجاب ولكنه يتهرب عند اللحظة الحاسمة، وتقاطع النظرة بالنظرة فينكسر نظره في سماء عينيها خوفاً من المواجهة والمصارحة.
ولاحظ زملاؤه من نفس بلده الإستلطاف المتبادل بينه وبينها، ووصفوه بالغباء، إذ كيف يتهرب من أجمل فتيات الجامعة التي تبحث عنه وتركض وراءه، وصارحوه بذلك، وبدوره صارحهم بحبه لها وعدم قدرته على مصارحتها بما يكنه لها من حب. ولكنهم شجعوه بنصائحهم من واقع خبرتهم وأوصلوا له رسالة تفيد بأن الطريق اليها ممهد ويسير لأنهم لاحظوا استلطافها له. وساعدوه ورسموا له خارطة طريق للوصول الى ما يريد.
وقال لهم: والله يا جماعة، بصراحة أنا اريد فتاة جريئة لتصطادني، ولا أقدر على اصطياد الفتيات وليس لدي سنارة ولم اتدرب على صيد السمك. وأنا بصراحة تامة جبان في هذه المعارك، ولا اجيد التسلح لها، وهذا ما أراه صعب المنال، فكلما أردت الكلام معها بتطاير مني الكلام، ولا أعرف ماذا أريد، وأهرب من الموقف، وبعدين يا جماعة أين أنا النكرة من قاع الريف النائي بجوانب الوطن وأين هي العلم من رأس المدينة العاصمة، فدعوني من هذا الأمر الصعب الله يرحم والديكم. ورحم الله امرؤاً عرف قدر نفسه ووقاها شر التوهان والتمني بالمعجزات والمنزلقات الخطرة.
ونصحوه بأن يبوح بما يختزن صدره المثقل من لواعج الحب المعذب والملوع والمحروم من التواصل، والذي اختار له سكناً في صحراء قاحلة لا تمطر. وأصروا والحوا عليه بالمحاولة، فإن نجحت كان به وإن لم تنجح فلا جناح عليه لأن قصده شريف ولا يريد التلاعب بعواطفها، بل يريد الإرتباط بها على سنة الله ورسوله، وأخيراً أقنعوه بخوض التجربة ووعدوه بالدعم والمساندة.
وكانت لحظة الحقيقة والصدام مع الواقع الذي يخشاه عندما التقاها بمكتبة الجامعة، ولم يكن لقاءً بمحض الصدفة، ولكنه كان مرسوماً مع سبق الإصرار والترصد والتخطيط بناء على توصية الزملاء، وفي المكتبة استجمع قواه الذهنية ورتب أفكاره وتسلسل حديثه معها مسبقاً، وأوصلته ساقاه المترددتين بخطوات متجاذبة ومتقاطعة تارة ومتنافرة ومتباعدة تارة اخرى اليها بين أرفف المكتبة المكتظة بالكتب، وطرح عليها التحية، وردت عليه بأحسن منها مقرونة بابتسامة مشجعة، وطلب منها أن يتحدث اليها على انفراد في قاعة المكتبة إن سمحت له بذلك، وردت عليه والإبتسامة تزين محياها بأنها مشغولة الآن، ولديها محاضرة، وضربت له موعداً بعد المحاضرة في مقصف الجامعة. فتبخر الكلام الذي رتبه وطار من ذاكرته، ليعيد مراجعته وترتيبه وتنسيقه وتطويره للأفضل عند اللقاء المؤجل المنتظر. فظل ينتظر اللقاء تتقاذفه غيوم المخاوف والظنون، ويبعث فيه الأمل المتهالك في وجدانه بصيصاً من النور الخافت والقادم من سراج يكاد ينفذ منه الوقود وتصارعه رياح الشك.
وفي مقصف الجامعة كان اللقاء الأول من أجل حديث مهم. وسألها ماذا تريد أن تشرب، فردت عليه بأريحية واضحة على معالمها، وبصراحتها المعهودة أنها جائعة وتريد أن تتغدى قبل أن تشرب، وهنا عاد بذاكرته الى محفظة النقود الخاوية على عروشها الاّ ما تبقى من مصروفة النزر بجيبه، فتذكر أنها لا تكفي للغداء والشراب، فلاحظت عليه الإرتباك والتوتر، ولمح بعينيه صديقه الذي كان يرصده عن بعد ليطمئن على سير الخطة، وطلب منها أن تنتظره قليلاً ليتحدث الى صديقه في موضوع هام، وفي قصده أن يكمل ثمن تكلفة الغداء لشخصين. وفهمت ما يدور بخلده وتركته يتصرف على رسله. وذهب مسرعاً الى صديقه يطلب النجدة والخروج من هذا المأزق ببياض الوجه خاصة بأول لقاء تكتيكي وهام سيترتب عليه استراتيجية هامة، ويطمح الى النجاح في الخطوة الآولى في هذا الطريق الصعب والوعر، ومهما كلفه من ثمن. وعاد اليها وقد افرغ جيب صديقه من النقود الاّ ما يعيده للبيت بوسائل المواصلات العامة المتاحة.
سألها ماذا تريد من طعام ليطلبه من الجرسون، حيث لم يحدث له أن جرب الغداء بالمقصف، فقد كان يشتري أحياناً ساندويشة فلافل من كفتيريا الكلية إن شعر بالجوع، وكانت ميزانية مصروفه اليومي تسمح بذلك، فردت عليه بثقة ومعرفة مسبقة بنظام المقصف:
هنا الخدمة يا صديقي ذاتية فلنذهب سوياً الى البوفيه ويتناول كل واحد منا ما يروق له من طعام. وبعد أن انتهيا من سكب الطعام بالصحون ووضعها على الصينية عادا الى مقعدهما بصالة المقصف. وبدءا بالأكل، وخلال تناولهما للطعام كان لا يبادر الى اكل اي نوع الا بعد يراها كيف تتناوله، وخاصة فيما يتعلق باستخدام الشوكة والسكين في تقطيع الأكل. سيما وأن اللحمة لم تكن بلدية ومن ذبيحة صغيرة بالسن، بل مجمدة وقاسية على التقطيع بالسكين المثلوم، وبعد أن انهيا تناول الطعام نظر الى قميصه فلمح عليه بقعاً من آثار الطعام الذي تراشق عليه من ضرب السكين باللحمة ومن تسربه من بين شفتيه نظراً لامتلاء الملعقة عند تناول الشوربة. وحاول أن يخفي البقع بيديه، ولاحظت عليه الإرتباك، وفهمت السبب. وحاولت أن تخرجه من المأزق فقالت له:
بتحصل كثير معلش انسى وما عليك روح جيب اثنين قهوة وبعدين هات لنشوف شو عندك.
وبعد أن احضر القهوة بادرها قائلاً:
هات ما عندك انت اولاً Ladies First
فردت عليه: هاي القاعدة ما بتنطبق بهالموقف، انت اليّ طلبت اللقاء على شان في عندك اشي بدك تحكيه وانا ما بعرفو، ولازم تبدأ من عندك، اسألني وانا برد عليك، وبعدين لا تنحرج من اي موضوع بخطر على بالك في حدود ولياقة أدبك المعروف، خليك على سجيتك وتكلم بكل اريحية وصراحة، احنا طلاب جامعة مش صغار.
قال وهو يلتفت يمنة ويسرة، ويمسح قطرات العرق المتصبب من جبينه خجلاً وخوفاً من الموقف الذي وضع نفسه به، وكان آنذاك يحاول اخراج كلمات تبعثرت في دماغه واستعصت على الخروج متسلسلة من بين شفتيه، وكان يبحث عنها ويلملمها كمن يبحث عن ابراة سقطت في كومة من القش، فقاطعته قائلة:
يا أخي ليه بتتلفت يسار ويمين، من ايش خايف، وعلى ايش عرقك بنزف، يا ابن الحلال انت مش شايف حالك، والله كأنك في زنقة كبيرة، الموضوع بسيط وسهل، هو انت بس شاطر تجاوب في الإمتحانات وتكتب مقالات في جريدة الجامعة، ولما بدك تحكي بتتلعثم، شو الحكاية، وبعدين إحنا ما بنعمل اشي غلط، طلع هالجواهر وتوكل على الله، اليّ بقع من السما بتتلقاه الأرض ولا تحسبها كثير أحسن تغلط بالحساب وبعدين كل حساباتك تروح ادراج الرياح.
قال لها بصوت خافت وهو يبلع بقايا ريقه الذي بدا جافاً وشحيحاً على شفتيه المرتجفتين: بصراحة .. أنا معجب ... فيك كثير ....وحابب نتعرف ...على بعض اكثر إذا ما عندك مانع، وقصدي.... والله قصدي شريف، لأني بتمنى ...نكون شركاء في هالحياة.... اذا فهمنا بعض وإذا ربنا بكتب النا نصيب.
فبعد أن انهى كلامه المتقطع، صفقت له وقالت بصوت عالٍ برافووووو....، ونظر من حوله فإذا كل من كان بالمقصف يلتفتون اليهما مبتسمين وبعضهم ضاحكين.
فقالت له: طيب ليه بتهمس وخايف تحكي عادي، يا زلمة احنا بنتصرف تحت الشمس مش في الظلام. طيب شو عاجبك فيني. انت شايفني بحكي مع كل الشباب، وبسيطة وصريحة ودايماً بضحك وصوتي طالع وبدفش بالدراسة والأمور ماشية والحمد لله. وبعدين كاشفة شعري وبلبس عالموضة.
رد عليها: مهو هذا اليّ عاجبني فيك، متحررة لكن ضمن خطوط حمرا ما حد بيقدر يتجاوزها، جريئة وما عندك قيود ولا عقد. ودايماً وشك بيضحك ما شاءالله عليك.
وبعد حديث دام ساعة تقريباً كان يدير فيه حديثاً مبعثراً وفاقداً للتسلسل والتنسيق ، ويستطرد في فتح المواضيع هرباً من بعضها الذي كانت تحشره بها في الزاوية، وافترقا على موعد غير محدد للقاء آخر وحسب ما ترسمه الظروف والأقدار.
وتوالت اللقاءات وتحرر تدريجياً من قيوده التي كانت تكبله، وخرج من قمقم العزلة الذي حشرته فيه العادات والتقاليد والفقر الى الخبرة في التعامل مع الجنس اللطيف. ولكنه أعجبها باستقامته وأمانته وعفويته وطيبته وفكره وذكائه وثقافته. ولكنها رأت انه بحاجة الى تطوير في اسلوبه في التعامل، ولمست من الحديث معه أنه كان متناقضاً في كثير من الأحيان مع النظريات الإجتماعية مشدوداً بالعادات والتقاليد في الريف. وحسبت ذلك مرضاً يسهل عليها علاجه، ووجدت فيه خامة صالحة للإستثمار كزوج للمستقبل، سيما وهي ابنة مقاول بناء ووحيدة الأسرة، والوريث الشرعي الوحيد لوالديها. وأن تخصصه مناسب لمجال عمل والدها الذي اقترب من سن التقاعد، وتحول الإعجاب المتبادل بينهما الى حب من كلا الطرفين بعد أن بدأ يتحرر من التكبيل والتصفيد بحبال التقاليد وانفتح عليها بعفويته وعلى سجيته وانكسر الحاجز الذي كان يمنعه من الإنطلاق.
وتخرج الشاب والتحق بالعمل في أحدى شركات المقاولات المحلية في بلده، وبقي على اتصال مع الفتاة وهي ما زالت تدرس بالجامعة، وجاءه عقد عمل في الخارج ، وهنا قابل الفتاة بعد تخرجها وعملها بسلك التدريس، وأخبرها بأنه ينوي التقدم لخطبتها، ورحبت بذلك على الرغم من اعلامه لها بأن احوالهم المادية ليست كفيلة بنفقات الزواج والعيش بنفس المستوى التي كانت تعيشه، وأخبرته أن ينتظر منها رداً بعد مفاتحة والديها بالموضوع. ولما طرحت الفكرة على والدتها أولاً أبدت الأم تحفظاً لأن الشاب ريفي وقالت لها:
هنالك فوارق كثيرة في العادات والتقاليد وطريقة الحياة ويجب أن تفهمي ذلك قبل أن نفاتح والدك ويدخل الموضوع في مراحل الجد. وهنا قالت الفتاة:
يا أمي إنه شاب مثالي في كل شيء ، في علمه وثقافته وأصالته وأدبه ورجولته ووسامته وبصراحة إنني أحبه.
فردت عليها الأم : يا إبنتي في هذه المراحل لا يظهر الشخص على حقيقته ويتظاهر بالمثالية كل من الشاب والفتاة أمام الآخر. وكثيراً من الزيجات انفرط عقدها من اختلاف الطبائع والموروثات والتقاليد بالرغم من توافر كل عوامل النجاح لها.
فردت عليها الفتاة: يا أمي نحن شعب واحد وتقاليدنا وعاداتنا واحدة وتراثنا واحد ولا صعوبة في تطبيع علاقاتنا بالرغم من اختلاف تصنيفاتنا.
فقالت الأم: في النهاية انت حرة يا بنتي لكن انا وعيتك وفهمتك، وليس لدي أي مانع يا إبنتي إن رأيته مناسباً وأوكد عليك بأنك متعلمة ومثقفة وجميلة ويتمناك أي شاب، ولكن تنقصك الخبرة في الحياة والتي وضحتها لك. وما على الرسول الا البلاغ المبين.
وتمت مفاتحة الأب بالموضوع ،
فقال الأب: ما دام الشاب متعلماً ومتفوقاً ومتديناً فلا بأس وأما الفقر فعلاجه بسيط والمستقبل مفتوح أمامه. وهو مهندس والبلد بحاجة الى المهندسين وهم ما زالوا ندرة بالبلد. وتمت الخطوبة وسافر الشاب للإلتحاق بعمله بالخارج. وظل الشاب والفتاة على اتصال طوال عام برسائل الحب ، ينتقون أرق العبارات ، ويكتبون أجمل المقطوعات البلاغية ويرسمون فيها الأحلام الوردية. وبعد عام عاد الشاب الى الوطن في إجازة للزواج ، وتم الزواج وعاد مع زوجته الى بلد عمله في الإغتراب.
وهنا بدأ كل طرف يتكشف للطرف الآخر في عاداته وتقاليده وموروثاته من البيئة التي عاش فيها. وكان الشاب من الطراز الجدي ، لا يعرف لغة المجاملة وخاصة في تعامله مع زوجته ، يخرج من عمله ولا يقبل زوجته أو يطرح عليها تحية الوداع ، ولا يتذكرها وهو في العمل الا في أمور جادة وضرورية ، ويعود من عمله مقطب الجبين حاملاً هموم العمل الى البيت ويطرح السلام بصوت خافت مقتضب (إسسسس) والفتاة تعودت على غير ذلك من أمها وأبيها ، ولا يحب الأكل بالشوكة والسكين ، ويحب الخبز ولا يحب الرز ، وحتى الملفوف والمحشي كان يأكله مع الخبز ، يأكل بسرعة وكأنه يؤدي واجباً مستحقا وفاته تنفيذه، ولا يستمتع بالأكل ويتذوقه، ويتراشق الأكل على ملابسه ، ولا يقول لها بعد الأكل يسلموا ايديك أو يبدي إعجابه بالأكل ، ولا يتطيب عند نومه أو خروجه للعمل، , وكان لا يستحم الاّ لطهرٍ جنابة، ولا يقدم للعلاقة الزوجية بعبارات الغزل والمحبة قبل مباشرتها. وكانت تغير من شكلها وتسريحة شعرها ولا تثير انتباهه أو يشعرها بإعجابه بهذا التغيير والمظهر التجدد لها، وكأن شيئاً لم يكن، وكذلك كانت تغير في ديكور البيت ولما يدخل من عمله لا يلفت نظره التغيير، فتتعجب وتستغرب من هذا الأمر، والزوجة تحاول أن تلفت نظره لذلك ، ولا يبالي، وكانت تلفت نظره قبل خروجه من البيت الى عدم تناسق ملابسه، ولا يأبه بذلك ويصر على رأيه ، وفي أحد الأيام عاد من عمله بعد خروجه بساعة فقد اكتشف زملاؤه أنه يلبس حذاءً بفردتين مختلفتين، ومرة أخرى وقد انفرط بنطاله من الخلف، واستعار جاكيتاً طويلاً من زميله وعاد للبيت ليغيره.
ولكنه كان كريماً في بيته ولا يبخل عليها بشيء، وخلوقاً ومتديناَ محافظاً على الصلوات وشهماً، ولا يغيب عن البيت في أوقات فراغه، مخلصاً لبيته ولزوجته وغاضاً لبصره، ومحافظاً على المواعيد، إذ تتوفر فيه خامة الرجل وتحتاج الى صقل بتعديل لجوانب في طريقة التعامل مع المرأة ومع المظهر الشخصي وعلى بعض التصرفات المزعجة. مثال ذلك أنه كان يمر عيد ميلادها وعيد زواجهما دون أن يتذكرهما أو يقدم لها هدية بذلك أو حتى يبارك لها.
وهنا وبعد أن طفح الكيل، وضاقت ذرعاً من هذه التصرفات التي تزعجها، قررت الزوجة أن تفاتح زوجها بهذه الأمور الشكلية ولتشرح له قيمتها في نفسها ، وتأثيرها على عطائها وتفننها في إسعاد زوجها مقابل تلك الممارسات والملاطفات. وفكرت أن تلقي عليه الموضوع بشكل غير مباشر لكي لا تثير حساسية لديه، فبدأت تقص عليه كيف كان والدها يتعامل مع والدتها، وهنا انتفض بعقلية الريفي قائلاً:
أنا مش أبوك، أنا عندي شخصيتي المستقلة، وبعدين ما كنت يتيم، وعندي أب وأم وأفتخر فيهم وبعاداتهم وتقاليدهم ، ما تشوفي حالك علي إذا إنت مدنية وأبوك شخصية معروفة بالبلد.
وفي هذه اللحظة استغربت الزوجة جوابه وردت عليه بعصبية:
"اسمع بابا تاج راسك، لا تفكر إنك توصل لمستواه في يوم من الأيام، الزم حدودك واعرف أنا بنت مين.
وهنا شعر الزوج بالغضب وخاف من ردة الفعل وانسحب من النقاش خوفاً من أن يلجأ الى اسلوب يمقته ويكرهه.
ومرت حياتهما على هذا الحال ، بين مد وجزر يومي ، وكلما بدءا بنقاش موضوع يجرهما الحديث الى خلاف، من أنا ومن أنت؟ ومن والدي ومن والدك؟، وحياة الريف وحياة المدينة، ومن عائلتي ومن عائلتك؟. ومن هو الأصل ومن هو الفرع، وانقلبت الحياة الى جحيم ، وكانت لحظات السعادة تمر عليهما كمر السحاب المدفوع بالرياح الشديدة والعواصف العاتية.
وكانا إذا صفت بينهما الأمور لحظات ، يعبر كل طرف عن حبه العميق للآخر وتمسكه به وإخلاصه له بأعمق وأرق عبارات الغزل والحب. فهو يكن لها الحب والإحترام لأهلها بداخله ولكنه لا يعبّر عنه صراحة، وهي تكن له الحب كذلك. إذن ما السر؟ وما هذا النحس.
ورزقا بطفل ، وعادا في اجازة للوطن وهما في لحظات ود وحب ، ونزلا عند أهله في قريته، وهنا بدأ فصل آخر من لحظات النحس،
كان لا يقيم لها وزناً عند أهله، وإن تكلم معها لا يتكلم إلا كلاماً رسمياً كأنه في حفل رسمي، ولا يتجرؤ بالمزاح معها أو ملاطفتها، وإن تحدث مع أهله لا يلتفت إليها أو يشعرها بوجودها، وشعرت بعدم انسجام مع الأحاديث التي تدور عن أهل القرية ولا تعلم عنها شيئاً. خلافات عائلية ،وشكوى الأخ من أخيه، والأخت من زوجها والعمة من ابنها وهكذا. وضجرت وملت من الوضع ، وطلبت منه أمام أهله أن تذهب لأهلها، فردت عليها حماتها:
"بدنا نشوف إبنا وابن إبنا" وعلى ايش مستعجله، وبعدين إذا رحتي عند أهلك روحي لحالك وخلي الولد الصغير عندنا. لاحسن يصير يحكي مدني (آلو وألنا). إحنا بدنا اياه يقول (كالوا وكلنا).
فضاق ذرعها وانفجرت بالبكاء قائلة:
إنني أشعر كأنني جسم غريب هنا ، تهمسون مع ابنكم أحاديث لا أفهمها وتخفون عني كل شيء، وكل هالإجازة عزايم ومناسف، عايزين نشوف وجه ربنا في الإجازة ، طول السنة محشورين. بين أربع حيطان، ومثل ما بدكم انتو تشوفوا ابنكم أهلي بدهم يشوفوني ويشوفوا ابني، وإلاّ مش من حقهم دخيل الله شو ظالمين. أنا ما شفت بشر مثل هيك.مش لهالدرجة الجهل والتخلف.
وهنا انفجرت الحماة قائلة:
يي يي يا كشلك (قشلك) يا لطيفة، طلِّكههههها يمّه طلّكها ، سامع شو بتحتشي علينا، يا كبرتي (قبرتي) عزّتش (عزك) يا لطيفة جوزتي ابنك من بنت سوسو وحمادة (سعاد ومحمد) من يوم ما رحنا نطلبها وسمعت أمها بتنادي أبوها يا حبيبي يا حماده طار ظبان مخي، واحتشي (واحكي) يوم العرس على اللوج لمّا خلوك تبوس ايدها يا ابن المشحرة، والله يومها كأنك نحرتني بسكين وانا شايفك بتبوس ايدها، من يومها عرفت إنك مش رح تشكمها والجماعة مش من ثوبنا. وكلبي نكزني (قلبي نقزني) من هالنسب، ولفوك وسحروك وسيطروا عليك، مهو انت مهندز كد الدنيا، لو كنت بدك بنت السلطان اخذتها على علمك وزينك، صيده وصادوها، يا حسرتي عليك يا بنيي، رحت من بين ايدي يا حبيبي، والله يمه من الصبح بجوزك يمه. هي بنت خالك العبد بطلت عن خطيبها، وهيها معلمة والكل بدو اياها، والله نفسي فيها من زمان. هذي مش من ثوبنا ولا بتمشي معانا. لكن ابوك بدو يناسبهم، عجبتوا يا حبيبي من ثم (فم) سوسو، صارت شواربو تتركوس لما سمع هالهرج. وبعدها المتعوس راح تجوز علي، وهو طول عمره ما ناداني الاّ يا مره، ويا حرمه، ويا وليّه حتى ما كان يناديني يا أم السعيد الا يوم ما كان يحتاجني وتعن على بالو هالشغلة.
فردت الزوجة: انا دخليك يا ابنها يا حبيبها ويا صيده صدناها، من شان الله ترد عليها وتطلقني، انا ما عدت اتحمل، طفشت وضاقت بوجهي الدنيا على وسعها، الله يخليك ترد على امك وتطلقني هلا وخليها تزوجك من الصبح، اعطيني ورقتي وخليني اروح لأهلي من شاااان الله، على ايش بدي اتأسف، على هالهنا والعز الي عايشة فيه. والله من يوم ما طلعت من عند اهلي ما شفت يوم اتأسف عليه. ولا عرفت الحب والحنان والمودة والرحمة والإحترام.وما شفت الا قلة القيمة والإهمال، كأني قطعة أثاث في البيت.
وهنا امتقع وجه الزوج ، واشتد غضبه من كلام أمه على زوجته ومن رد زوجته عليها. ومن هذا النقاش الصاخب، فهو رجل مسالم يحب العمل ولا يحب المشاكل ويميل الى الإستقامة والمثالية. يحب زوجته ويريدها، ويحترم أمه ولا يغضبها، فالمعادلة لا تستقيم بهذه الحدود الرخوة في العلاقات.
ومضت الإجازة في مد وجزر يومي ، وعادا الى مقر عمله ، واستمر الحال على ما هو عليه ، ورزقا بطفلة ، وتوالت الإجازات والمناكفات ومضى على زواجهما عشر سنين ، وصار معهما ثلاثة أبناء وما زالت حياتهما غير مستقرة..وكانت تربطهما طيلة هذه الفترة شعرة معاوية التي تتمثل في وجود الأبناء.
وفي الذكرى العاشرة لزواجهما والذي كان يمر بدون احتفال ، وفي مراجعة للنفس من الزوج، وفي ليلة رمضانية، فاجأها بهدية ثمينة في عيد زواجهما واقترح عليها رحلة ايمانية ووافقته، ذهبا ومعهما الأبناء الى مكة المكرمة لأداء العمرة، ومن ثم الى المدينة المنورة لزيارة قبر النبي والصحابة، والصلاة في مسجده، وتحدثا بهدوء بعد أداء العمرة وزيارة قبر النبي في المدينة المنورة، وبدأ حديثه قائلاً:
إنا أحبك ، وأنت تحبينني والإنسان قلبه دليله، ونحن الإثنان نحب أولادنا ، وكلما اقتربنا من لحظة الفراق اجتمعنا ثانية رغماً عنا، وتواترت علينا الأيام والسنون على هذا المنوال، وكل واحد منا كان يحلم ببيت زوجية سعيد وهانيء ومستقر، وأخلاقنا حسنة ، ومقاصدنا شريفة، ونعبد الله ، ونؤمن به ونسلم له. فلنتحدث بتجرد ، ويحدد كل طرف منا مطالبه من الآخر لكي تستقيم الأمور، هنالك حلان أمامنا لا ثالث لهما للخروج من هذا المأزق:
الأول: وهو أبغض الحلال الى الله (الطلاق)، وبهذا نهدم بيتاً وأسرة ، ونشرد أبناءنا الذين لا ذنب لهم أن يخرجوا للحياة أيتاماً ووالداهما أحياء. فنهدم لبنة في جدار الوطن ويتصدع هذا الجدار ويسهل اختراقه من الأعداء ، وأنا لا أستغني عن الأولاد وأنت كذلك ، فلو كنا زوجين بدون أولاد ، كان هذا الخيار سهلاً رغم صعوبته عليك أكثر مني انطلاقاً من نظرة المجتمع. أما الآن فأمامنا مصلحة عليا يجب أن تكون الأساس لأي اتفاق بيننا ، ويجب على كل طرف أن يقدم تنازلات للآخر حتى نحافظ على هذه الأسرة وكيانها. ونلتقي في منتصف المسافة لنؤدي رسالتنا في هذه الحياة بكل حب وإخلاص. فإن مرت عشر سنوات من عدم الإستقرار فما زال أمامنا بقية بإرادة الله ، وما فقدناه من سعادة يمكن أن يعوضه أبناؤنا في مقتبل شبابهم، وستكون سعادتنا كمن زرع شجرة ، واخضرت وأزهرت وأثمرت وأظلتنا بظلالها.
الثاني: الإستمرار شريطة أن نتعايش ونتفهم بعضنا بعضاً ونكون قدوة حسنة لأولادنا، وأنا على استعداد لتقديم التنازلات لكلا الخيارين إن قررت أي منهما. يجب علينا الإصلاح والترميم لهذه العلاقة إن قررنا الإستمرار فيها ، وبشرط أن لا تمس المصلحة العليا وهي مصلحة الأبناء والبيت والأسرة. أن نعيش ونستمر على هذا الوضع ستكون النتيجة أسوأ من الخيار الأول إن بقينا على هذا الحال ، لأننا سننقل ونرحل مشاكلنا الى أبنائنا ونورثهم العقد والنكد، وسوف نسود أيامهم في مستقبلهم ونكرّههم بالحياة ، ونحرمهم من السعادة وقيمة الحياة ، وسوف يجنحون الى الكره للآخر وننتج مصائب للوطن. ونهدي الوطن جيلاً عدوانياً ناقماً على الحياة ، يستبيح القتل والإجرام ، وندمر أنفسنا وابناءنا وبالتالي وطننا الأكبر.
استغربت الزوجة طريقة الحوار التي بدأ بها زوجهاعلى غير عادته، ومن الهدية التي قدمها لها بعيد زواجهما، ولاحظت عليه تغيراً ايجابياً ولمحت فيه الهدوء وصفاء الوجه والإرتياح، فبعث في نفسها التفاؤل وقالت له:
إنني مع الخيار الثاني ولكن بشرط أن تلبي مطالبي كشريكة لك في هذا البيت وليست شيئاً ناقصاً في حياتك تريد أن تكمل به صورتك أمام المجتمع ، وأن تخبرني أنت عن مطالبك ، وأعتقد أنني غير مقصرة معك، محافظة على بيتك وعلى عرضك، ومخلصة لأولادك، ومتعايشة مع أهلك على الرغم من الفوارق، وعلينا أن نقيم الوضع ، وندرس التنازلات التي بستطيع كل طرف منا تقديمها من أجل بناء البيت والأسرة ومن أجل تعايش بناء وخلاق. ، وإن اختلفنا نحتكم الى حكيم محايد من اهلك يفقه بالدين، وحكيم يتقي الله ومحايد من أهلي ليحكموا بيننا ، ويقرروا بناء على حكمتهم التنازلات التي يجب على كل طرف التضحية بها.
فقال لها اتفقنا إذن فلتبدئي بمطالبك أولاً. فردت عليه:
إن مطالبي سهلة للغاية ، وميسورة التحقيق ، وقليلة التكاليف بأكثر مما تتوقع بكثير ،وما يمنعك من تحقيقها المكابرة والعناد والتمسك بعادات وتقاليد أصبحت بالية، أنا اقدر علمك وثقافتك ولكنني لا ألمس تأثيرهما علي لأستفيد من علمك وفكرك وثقافتك، لأنك تؤمن بها نظرياً وتعجز عن تطبيقها عملياً، وما زالت رسائلك ايام الخطوبة عندي، وكلها وعود ونظريات افرغتها من محتواها. فأخبرك مطالبي وستدرك مدى سهولة تحقيقها، لا بل هي واجب شرعي عليك.
أولاً: أن تعترف بي كزوجة وشريكة معك في كل شيء ، وأن تزيل الغموض الذي يغلف حياتك ، لا أعرف شيئاً عن دواخلك ، ولم أستطع تحديد ملامح شخصيتك ، لا تكلمني عن عملك ،ولا تحاورني في شتى المواضيع، اسمع منك جواباً على قدر السؤال، وحديثاً مقتضباً، وبصراحة لا أشعر بوجودك بالبيت، ولا اعرف كم راتبك، وكيف تصرف الفلوس وكم توفر منها، وكم تحول لأهلك، ولا اعرف عن أهلك شيئاً، وإن سألتك عنهم تحاول الهرب من الإجابة، وإن انتقدتهم على حق تهتز وتغضب وتدافع عنهم ظالمين ومظلومين، بعكسي أنا، فقد قصصت عليك كل قصص اهلي واسرارهم وخباياهم، وانتقد أمامك ما لا يعجبني بأهلي، ومطلوب منك أن تضع إطاراً من الإحترام لشخصيتي أمام اهلك، وأن تحدد خطوطاً حمراء للتدخل في شئوننا الخاصة وخاصة في شئوني انا. وأن ترسم لحياتنا خارطة مستقلة نتجول فيها بحرية بما يرضي الله ويرضينا بدون المساس بعلاقة كل واحد منا مع اهله.
وأن تلاطفني وتجاملني ، إنك بقليل من الكلام الناعم في مقامه ، سوف تحفز فيّ القدرات والإبداعات لإسعادك ، المرأة أنثى ، وأعز ما تملكه انوثتها ، وخاصة إذا كانت ربة بيت ، فأنت لك عملك ونجاحاتك فيه ، بمثابة الوقود الذي يدفعك للإنتاج والتفوق وحب الحياة، وماذا لي سوى بيتي الذي هو مملكتي، وعليك أن تكبر فيَّ أنوثتي ، وتحدثني عنها ، وتشعرني بها، وتمتعني بغزلك ، وأن تلاطفني على عملي في البيت بعبارات غير مكلفة ، يسلموا ايديكي ، شو هالحلاوة ، وأن تعتني بنظافتك أكثر وبهندامك ومظهرك، فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، انظر الى العصافير في القفص كيف تتناجى وكيف تتزاوج ، ألم تراها على الشجر في مواسم زواجها يوم زرنا قريتكم في البستان وكيف كانت تطربنا بأصواتها وغزل ذكورها بإناثها ومطاردتها لها بحثاً عن رضاها وكيف ينفش الذكر ريشه للأنثى تجملاً لها.،
وأن تشعرني بقيمتي أمام الناس ، وأمام أهلك بالأخص لكي أقدر على ملاطفتهم ومدارات بعض تصرفاتهم غير اللائقة والجارحة للنفس أحياناً بقصد وبدون قصد منهم، وأنا لا ألومهم في ذلك، فهم مكبلون بعادات وتقاليد عفى عليها الزمن، ولا يستطيعون الخروج منها، فقد فاتهم قطار الحضارة والتقدم والتطور، وسبق أن فاتهم قطار العلم والتنوير، وهذا ليس عيباً فيهم، ولكنه زمانهم وقدرهم، فزماننا وقدرنا غير زمانهم وقدرهم. وعليك أن تتذكرني بعملك ولو لثواني وتسأل عني. وتطلب مني ما تشتهيه من طعام، وصارت امنيتي أن تطلب مني شيئاً تحبه لكي أعمله لك كباقي الأزواج، أليس لك أصدقاء يحدثونك عن تعاملهم مع زوجاتهم. نفسي مرة تطلب فنجان قهوة نشربه مع بعض ونحكي مثلنا مثل هالبشر، يا رجل انت معيشني بصحرا.
ثانياً: انفتاحك علي من القلب، تماماً كما انا معك كتاب مفتوح، ومعاملتي كشريكة لك في الحياة ، ومجاملتي وملاطفتي وإشعاري بأنوثتي وجمالي ، وهذا لا ينتقص من رجولتك، بالعكس انه قمة الرجولة، وجرب ذلك وسترى مني الخضوع في القول، والإخلاص للبيت والتفاخر بك وبأهلك ، لا أريد مالاً ولا ذهباً ولا جاهاً، أريد الإحترام المتبادل، والتعايش التضامني التكافلي المنفتح، واحترام الرأي ، واللجوء الى الحوار والإقناع ، وعدم فرض الآراء. وإن غلبت رأيك في أحد المواضيع لمصلحة عليا وكان رأيي مخالفاً سوف أتبناه أمام الأولاد وأدافع عنه لكي نعلمهم اعتماد الحوار للإقناع والإلتزام بالأنظمة والقوانين على الرغم من عدم تطابقها مع الأهواء، وتقديم المصالح العليا العامة على المصالح الخاصة الضيقة. هذه هي مطالبي وهات ما عندك.
وهنا ردّ الزوج بعد إنصات بدون مقاطعة متيحاً لها إفراغ كل ما بداخلها وقال:
كم كنا أغبياء ، وضيعنا عقداً من السنوات من عمر الزواج في أنغماسنا بمشاكل من خارج حدود بيتنا ، وجلب النكد لأنفسنا نستورده من محيطنا الخارجي ، وأتحمل انا معظم المسئولية عن ذلك، منذ أن تعرفت عليك لم أشعر في يوم من الأيام بمثل هذا اليوم يا حبيبتي من الحب والتقدير تجاهك، حقاً انك جوهرة وتتحدثين الدرر والحكم، لم اكن اعرف سعة اطلاعك وثقافتك الى هذا الحد، وهنا تورد وجه الزوجة من الدماء التي تدفقت اليه ، ممزوجاً بابتسامة خفيفة الظل ، يزينها هالة من الخجل البريء وكأنهما عاشقين لا زوجين في وصال بعد طول جفاء. واستطرد الزوج يقول:
حقاً لقد كان العيب في طباعي ونفسيتي وعنادي ومكابرتي لك ولنفسي، لقد عشت في جلباب أبي، وطبقت اسلوبه مع والدتي التي كنت اتعاطف معها كثيراً نظراً لإهماله لها، وزواجه عليها بعد شقاء عمرها معه، وأسقطت التاريخ البطيء المتقادم على الحاضر السريع المتسارع ، وأصبحت أعيش في قيود الماضي ، تعلمت وقرأت وتثقفت ولكنني هزمت أمام الحاضر المتطور بعقلية الماضي البعيد الذي ذهب بحلوه ومرّه ، وكانت النتيجة أن تجرعت مرَّه في حاضري ، وضاعت علي حلاوة الحاضر. لقد اقتربت الإجازة ، ومن حق نفسينا علينا أن نروّحهما ، ولذلك قررت أن نذهب في سياحة في بداية الإجازة الى بلد جميل نتفق عليه، ونترك آخر أسبوع منها لزيارة أهلي وأهلك. كل الناس الذين يبثون همومهم وسمومهم علينا لينكدوا علينا حياتنا يعيشون في بيوتهم أفضل منا، لقد كنت غائباً ومغيباً بالإستماع لمشاكل الناس التي لا تنتهي والتأثر بها.
فردت عليه : ما زال أمامنا متسع من العمر بإذن الله، ولم يفتنا قطار العمر بعد، ربما فاتنا قطار عنفوان الشباب المتدفق بالعاطفة والحميمية، ولكن بإمكاننا أن نعوض ما فاتنا وأن نقتح صفحة جديدة في حياتنا، والشباب شباب القلب، وما زالت قلوبنا تنبض بالحب الذي كان نبضه خافتاً بالغلو في الشكليات، وبعدين انا قلت لك لا تقرر شيئاً يخصنا نحن الإثنين ويخص اولادنا لوحدك ، أين الشراكة في القرار التي حدثتك عنها، يا نور عيني في بداية الإجازة سيتزوج أخي وسنحضر زفافه، ويجب عليك الحضور قبلي ، وبعدها سنذهب سياحة في آخرالإجازة ، فما رأيك ، هز رأسه قائلاً:
إنت تأمر يا جميل. وذهبا في عناق طويل أنساهما الأطفال، وفوجئا بالأطفال يدخلون عليهما والزوج والزوجة وهما يتبادلان القبل على الجبين والخد. فانتفض الزوج مبديا انزعاجه وحرجه وابعد شفتيه عن جبينها يتظاهر بأنه كان يخرج من عينها شعرة.
فقالت له: هذا الوضع الذي يفرح الأبناء، قبلني على خدي أمامهم، وسأرد لك قبلتك أمامهم. أنسيت اتفاقنا.
فعاد الى رشده وتذكر ما اتفقا عليه وقبلها امام ابنائه على جبينها وعلى خدها وردت له الصاع صاعين.
فصرخ الأبناء بصوت تعلوه الفرحة والسعادة: هيييي هههيييي عروس وعريس. احنا بنحبكم كثير يا بابا وماما، خليكو دايماً هيك.
فقال لأبنائه: طيب انا وماما قررنا نوخذكم على الألعاب، وبعدين نغديكم في المطعم، شو رايكم يا حبايبي الحلوين.
فهتفوا بصوت واحد: يعيش بابا ، تعيش ماما، احنا مبسوطين كثير. خليكو دايماً هيك، احنا طفشنا من بعدكم عن بعض، وكل ما كنتوا تحكوا مع بعض يطلع صوتكم.واحنا نقعد في غرفنا مثل الحزانا.
وبعد الحركة التصحيحية للعلاقة بين الزوجين وفي جلسة صفاء وأنس بينهما قالت لزوجها:
نحمد الله ونشكره أن جعل العصمة بيد الرجل فكانت بيدك أنت، فلو كانت العصمة بيدي أنا لطلقتك ثلاثين مرة.
هكذا كانت قصة الزوج مع الزوجة ، في ايام الخطوبة أخذ كل منهما يتظاهر بالمثالية أمام عشيقه ، إلى أن كان الزواج ، وتعرف كل طرف على حقيقة الآخر ، فلاقت الزوجة جفاءً وقسوة وجموداً من زوجها ، واستبداداً وخنقاً للرأي ، وعدم اعتراف بالشريك ، واستئثاراً بالقرار متجاهلاً الشراكة والمصلحة العامة ، ولاقت الزوجة غموضاً مستتراً في الأهداف من زوجها ، لا تستشرق أفقاً واضح المعالم ، ولم تشعر الزوجة بأي ملاطفة أو مغازلة أو مودة أو سكينة ، فالمرأة كالغزال ، إن لاطفته لاطفك ، وإن خاشنته هرب منك ولا تستطيع اللحاق به وتطويعه للعودة ، العلاقة الزوجية تحتاج الى تنازلات وتضحيات ، باتقاء العواصف والبراكين ، تحتاج الى الرفق واللين ، فإن كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك ، وكان الخلاف بين الزوجين بفعل حالة الإنكار وعدم الإعتراف من الزوج للزوجة بحقوقها في المودة والرحمة والمشاركة ، وكاد أن يكون الفراق والطلاق ، أبغض الحلال الى الله . فكم كانت الخلافات عسيرة في وقعها على الحياة ، في حين أنها لا ترقى الى عدم الإلتقاء والحوار بين الزوجين ، كانت تحتاج الى المصارحة والتجرد من التنافس الشخصي على السلطات وعلى حسن سيرة العائلتين، والنظر الى مصلحة الأسرة العامة ووضعها المعيار للتنازلات للوصول الى منتصف الطريق بينهما ، الإعتراف بالذنب فضيلة تنقي القلوب ، وتصفي الخواطر إن توافرت النوايا الحسنة ،فالكيِّس من دان نفسه ، والمحاصصة في الأدوار والسلطات تفسد للود قضية ، والعلاقة الزوجية ليست علاقة محاصصة أو قسمة السلطات، إنها علاقة تكاملية، فقد أكمل الله النواقص في آدم بأن خلق له حواء من نفسه مكملة لهذه النواقص. والإستئثار بالرأي يزيد المشاكل تعقيداً ، والتضحية بمصلحة شخصية من أجل مصلحة عامة فضيلة ، والباديءُ خير من المتردد.
حوار الزوجين بالنية الصادقة للإصلاح وانفتاح كل طرف على الآخر يزيل كل الخلافات والعقبات، بشرط أن يتوصل الحوار الى نتيجة بناءة وليس الحوار لتحقيق فوز طرف على الآخر، ليخرج احدهما منتصراً والآخر مهزوماً يبحث عن الثأر لهزيمته في موقعة جديدة من النزال، وتلك هي الطامة الكبرى في العلاقة الزوجية. ، فعندما صفت نفساهما بالحب والإيمان بالله بجوار البيت العتيق، وذلك بالإنفتاح والمصارحة واعتراف المخطيء بخطئه وتنازله عن عنده وكبره من أجل الصالح العام تمت السيطرة على كل المشاكل وحلها، هذه هي طرق الحوار على قاعدة النوايا الحسنة من أجل الأجيال القادمة ، صحيح علينا أن نتمتع بما قسمه الله لنا وأعطانا من نعم وخيرات ، شريطة أن لا ننسى أجيالنا القادمة ، ونترك لهم موروثاً يشكروننا عليه ، لا أن نغرق في تقاسم النعم والسلطات بيننا وإهدارها بالخلاف ، فنحن رعاة أبنائنا وأحفادنا ، ويجب أن تمتد أنظارنا لتكشف أمامنا وتنير المستقبل لأبنائنا أيضاً. فهم أمانة في أعناقنا الى يوم لقاء ربنا حيث سنسأل عن هذه الأمانة ونحاسب على عدم رعايتها.