محمد أبو راشد المرصفي
ما زال يعترينا العجب من مواقف بعض الجماعات الثورية والحزبية. يصعب على الكثيرين فهم في أي إطار يتم محاولة هدم منصة الإخوان وطردهم من الميدان. فهل هي احتكاكات عشوائية أم أن هناك أمرًا ما؟ وكيف يتحول موقف بعض القوى السياسية من الإلحاح على الإخوان للمشاركة في الاحتجاجات على أحداث شارع محمد محمود، الذي وصل لدرجة التخوين والاتهام بالمتاجرة بدماء الشهداء في سبيل الكرسي - إلى رفض المشاركة وهدم المنصة؟
لا يستطيع أحد أن ينكر حقيقة أنه كان هناك الكثير من منتسبي الإخوان ومنهم قيادات في الميدان في فعاليات الاحتجاج على أحداث شارع محمد محمود، ولا أتجاوز إن قلت إنهم كالعادة كانوا يمثلون أغلبية من في الميدان، ولكن بدون منصة ولا قيادة ميدانية. فبعد أن رفعت هذه الجماعات عقيرتها بتخوين جماعة الإخوان، أعادت تقييم موقفها وراقت لها فكرة مشاركة شباب الإخوان بدون منصة ولا قيادة. فلما نزلت الجماعة هذه المرة بمنصة والتف حولها أبناؤها وجميع الإسلاميين تَغيَّر مركز ثقل الميدان لصالح منصة الإخوان، فثارت ثائرة هذه المجموعات؛ لأنها أحست أنها مكشوفة من حيث العدد، وأنها افتقدت الأعداد المطلوبة لتسويق أجندتها، وقيادة الحشود نحو التصادم مع الشرطة والجيش.
وربما أفشل التواجد الرسمي للجماعة افتعال بعض الأطراف (منها أمن الدولة) أحداث دموية، لكسب التعاطف المطلوب لإعطاء زخم لفكرة "الثورة الثانية" أو "استعادة الثورة" أو "جمعة الغضب" أو أيّ من هذه التسميات. وتمركز الحشد في الميدان حول منصة "عام على الثورة" و"البرلمان ينجز مطالب الثورة".
لنا مقال أثناء أحداث شارع محمد محمود لتحليل موقف جماعة الإخوان من فعاليات الاحتجاجات على الأحداث حين رفضت الجماعة الاستجابة لضغوط الجماعات السياسية والحزبية، وحتى من داخل الجماعة نفسها للمشاركة في الاعتصامات. عنونت لهذا المقال بـ"الإخوان جماعة تحت الطلب"، قلتُ: برغم إدراك هذه القوى أهمية وجود أكبر جماعة سياسية في البلاد في الميدان إلا أنها لم تستشرها في الفعاليات وتريد أن تطلب الجماعة للمشاركة فقط، وما على الإخوان إلا الاستجابة، وكأنه يحرم على الجماعة إعمال العقل والمنطق، وكل ما عليها أن تستجيب للطلب بدون تفكير!
ولاحقت الجماعة وقتها اتهامات الخيانة والمتاجرة بدماء الشهداء، وألحقوا بالجماعة كل نقيصة. وخوفوها بخسارة الانتخابات، ولكن كما قلت في آخر المقال: "الصندوق أصدق أنباء من الإعلام"، وقد كان.
جماعة بالريموت كنترول:
ليس هناك شك أن الجميع يعلم أن جماعة الإخوان هي أكبر فصيل سياسي في مصر، وأن حزب الحرية والعدالة هو الحزب الحاصل على أعلى الأصوات يليه حزب النور السلفي بنصف عدد مقاعد الحرية والعدالة، ثم حزبا الوفد وتحالف الكتلة المصرية بأقل من تسع (إي والله واحد على تسعة) من عدد مقاعد حزب الحرية والعدالة. ومع ذلك ما زالت القوى السياسية تتعامل مع الإخوان بمنطق غريب جدًّا. فهم يعلمون جيدًا أنها الجماعة الوحيدة القادرة على الحشد الكبير في ميدان التحرير، وحتى عندما تتخذ الجماعة قرارًا بعدم النزول مراعاةً للمصلحة وحقنًا للدماء، أو أن لديها تخوفات باستهدافها هي شخصيًّا من الأحداث (كما في حالة أحداث شارع محمد محمود)، فإن بعض منتسبيها يشاركون كأفراد وأطباء.
وعليه فهذه القوى السياسية تريد من الجماعة أن تنزل وقتما يقرر أحدهم، وتخرج من الميدان متى يُطلب منها ذلك، أو الأفضل (من الآخر كما نقول نحن المصريين) يريدون الحشد الكبير للجماعة (سواء بإرادة القيادة أو بدون)، ويتحكمون هم في الحشود. أما التواجد الرسمي فمرفوض. باختصار المطلوب أن تسلِّم الجماعة "الريموت كنترول" الذي يتحكم فيها لهذه المجموعات، لتتحكم في أعضائها كما تشاء.
النتيجة التي خلصت لها بعض المجموعات الثورية من مشاركة أفراد الإخوان في فعاليات الاحتجاجات على أحداث محمد محمود: أنه يمكن استقطاب شباب التيارات الإسلامية بدون وجود رسمي للجماعة. فلم تجد هذه الجماعات فائدة من الإلحاح على الجماعة للمشاركة في فعاليات "الثورة الثانية" إذا كانت الفكرة ستجتذب الشباب الإسلامي!!! بل على العكس تمامًا ستنفرد هذه الجماعات بقيادة حشود التحرير من كافة الاتجاهات لتمرير أجندتها الخاصة، دون الحاجة للحوار مع قيادات الجماعة.
أجندة الإخوان في الذكرى الأولى للثورة (الثورة مستمرة):
يعلم الجميع أن الثورة لها إنجازات يجب أن نفخر بها، وعلى رأس هذه الإنجازات البرلمان الذي أنيط به إنجاز مطالب الثورة، وتحويلها إلى قوانين. وعلى ذلك خرجت الجماعة كأغلبية الشعب المصري للاحتفال بالعيد الأول للثورة (ليس معنى ذلك أنها اكتملت)، والتصميم على استكمالها عبر البرلمان المنتخب. أي أن "الثورة مستمرة" من خلال المؤسسات المنتخبة، على رأسها البرلمان.
أجندة بعض المجموعات الثورية (استمرار الحالة الثورية):
رفعت هذه المجموعات عناوين ثورية تمثل الخط الذي لا تحيد عنه، ألا وهو "استمرار الحالة الثورية" وليس "الثورة مستمرة"، والفارق كبير. فاستمرار الحالة الثورية يعني استمرار الاحتجاجات والاضطرابات والاعتصامات التي يمكن أن تصل إلى خلع المجلس العسكري أو تنحيه، كما أنجزت الثورة الأولى. هناك طبعًا جماعات متطرفة تدعو إلى هدم الدولة بالكامل؛ ليتسنى بناء الدولة الجديدة من عدم.
وباستبعاد هذه التيارات المتطرفة وللإنصاف سنركز على التيار الوسطي في هذه المجموعات، والتي تستهوي أفكارها أيضًا الشباب الإسلامي. فمطالب هذه المجموعات هي أن يقوم المجلس العسكري بتسليم السلطة فورًا الآن، وبدون إبطاء إلى مجلس رئاسي مؤقت، ثم تطورت الفكرة أخيرًا إلى رئيس مؤقت. وكما في الأحداث السابقة (محمد محمود والقصر العيني) تزيد الاحتجاجات بشدة، ثم تظهر ورقة الإنقاذ التي يوجد بها اسم الرئيس المؤقت الذي يختاره البرلمان.
دور منصة الإخوان في الذكرى الأولى (الثورة مستمرة):
لعبت منصة الإخوان دور الأم التي يلتف حولها أبناؤها، فتجمع حولها ليس شباب الجماعة فقط، ولكن أيضًا شباب الإسلاميين من كافة المشارب. فما هو دور منصة الإخوان في الذكرى الأولى للثورة؟
- مركز ثقل الميدان:
جذبت أكبر تجمع للمتظاهرين في الميدان، وظهر ما هو معلوم من له التواجد الأكبر، ومن يستطيع تقديم أكبر حشد؛ فطاشت كفة المنصات الأخرى، وتسلل لأصحابها الإحساس بعدم وجود الدعم الكافي لتقديم أجندتها.
- مصيدة التسلل (بلغة الكرة) ضد الشرعية:
لما كان مركز المتظاهرين أو المحتفلين هو الميدان، فإن أي خروج من الميدان والاتجاه إلى شارع محمد محمود أو القصر العيني سيصبح مكشوفًا شرعيًّا (تسلل بلغة الكرة). فلا نزعم أن الإخوان كان لهم سيطرة أمنية لمنع من تسول له نفسه لاستفزاز الشرطة أو ضرب الجيش، ولكن وجودهم في الميدان سيكشف وينزع الشرعية عن أي خروج من الميدان.
- درس لشباب الإخوان والتيار الإسلامي:
لا يغرنكم حماس الشباب ولا العاطفة الوطنية عن محاولة قراءة أسباب ومسببات قرارات القيادات، فهذه الطاقات الشبابية في حاجة دائمًا لحكمة الشيوخ، وتغليب العقل على العاطفة. وها قد رأيتم أن البعض لا يرضى عنكم إلا إذا اتبعتم أجندتهم بالكامل، ولا يقبلون منكم أنصاف الحلول، والحل عندهم رفع الأحذية والشتائم وليس الحوار.
- تدشين مرحلة الثورة مستمرة بدلاً من استمرار الحالة الثورية:
باحتمال الجماعة الأذى والإهانة والحفاظ على سلمية ميدان التحرير، ساهمت الجماعة بنقل الثورة من مرحلة "الحالة الثورية" غير المستقرة إلى مرحلة "الثورة مستمرة" عبر المؤسسات المنتخبة، ودعم استقرار الدولة. وأول مؤشراتها المكاسب الضخمة التي حققتها البورصة لمجرد عقد البرلمان، فما بالنا بزيادة الاستقرار.
الخلاصة:
إن جماعة الإخوان كعهد الشعب المصري بها تتحمل الأذى دائمًا في سبيل إنقاذ الوطن من الشرور، فكما كان موقفها في أحداث محمد محمود بعدم المشاركة في فعاليات الاحتجاجات مانعًا لاستمرارها والتهابها، كان أيضًا مشاركتها في فعاليات السنة الأولى للثورة للتأكيد على الانتقال من "الحالة الثورية" إلى حالة "الثورة مستمرة" عبر المؤسسات ودعم استقرار الدولة..
وتحملت الجماعة وعندها الاستعداد لتحمُّل (وإن عدتم عدنا) اتهامات التخوين والإهانة في سبيل الله، ثم مصلحة الوطن.
بقلم: محمد أبو راشد المرصفي[1]