الناظر للمشهد المصري في الوقت الراهن، يلاحظ ثمة سموم أصبحت توجهها الأقلية في البلاد ضد الأغلبية، بعدما كشرت الأولى عن أنيابها ضد الثانية ، خاصة بعد الاستحقاق الانتخابي الذي حصده الإسلاميون بمختلف فصائلهم، الأمر الذي يعيد إلى الأذهان ذلك الاستبداد السياسي الذي عاشه المصريون ردحا من الزمن حتى حررتهم الثورة، إلى أن كانوا على وقع استبداد آخر ، ومن لون متشابه، وهو استبداد الأقلية بهيمنة ثقافية ودعاية إعلامية.
هذا الاستبداد أصبح جليا أيضا في ذلك الاستبداد الفكري الذي أصبحت تمارسه الأقلية على نطاق واسع، وهى الأقلية التي تمثلها الشريحة العلمانية والليبرالية ودعاة التغريب في مصر بحق الأغلبية الإسلامية في البلاد، على نحو ما صار يبدو في مناقشات مجلس الشعب"البرلمان"، والحنق العلماني على الأغلبية الإسلامية تحت قبة هذا "البرلمان"، والصرخات المتواصلة خلف أسواره بإسقاط جماعة الإخوان المسلمين، وتشويه التيار السلفي، واللذان يمثلان معا أغلبية مجلس الشعب.
توصيف الإسلاميين بالأغلبية، والآخرين بالأقلية أمر لم يتصنعه المنحازون للتيار الإسلامي، بل جسده الشعب المصري بانحيازه للإسلاميين والتصويت لهم، وعزز ذلك على مدى ثلاث جولات متتالية من انتخابات مجلس الشعب، وهو الاستحقاق الذي جسده الإسلاميون أيضا في انتخابات مجلس الشورى، والتي ستنتهي جولتها الثانية والأخيرة يوم 22 فبراير الجاري، علاوة على الاستجابة الواضحة من الرأي العام في الموافقة على التعديلات الدستورية، والتي قاد تأييدها السواد الأعظم من الإسلاميين.
وعلى الرغم من أن الليبراليين ومؤيدي التغريب ودعاة الاستنارة ظلوا في كنف النظام السابق برعايته لهم، والإغداق عليهم حتى قبل نظام الرئيس المخلوع حسني مبارك، ما يجعل الكنف الذي عاشوا فيه بمؤسسات الدولة وبأموال الشعب المصري يمتد إلى أربعة عقود، وربما تصل هذه الرعاية إلى نظام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر للتيار القومي، إلى أن كان الانقسام في داخل هذا التيار، والذي عمل الرئيس الراحل أنور السادات على إذكاء روح الخلاف في داخله، حتى قام الرئيس المخلوع حسني مبارك بدوره في جمع شتات هذا التيار بالإغداق عليه، وجعله مهيمنا على صناعة القرار في البلاد، ما دام ذلك يقف بالمخالفة لكل ما هو إسلامي، أو يمكن أن يعمل على تقويض الانتشار الإسلامي في داخل المجتمع.
وبعد الثورة، ووقت أن استرد المصريون حرياتهم ، كانوا على وقع قول آخر لتكون كلمتهم موجهة لاختيار الإسلاميين، وهو ما أثار دعاة التغريب والتخريب في آن ، فحشدوا كل قواهم من أجل إعادة البناء ، وليس البناء هنا، بإعادة بناء مفاصل الدولة التي شاركوا مبارك في هدمها، ولكن بإعادة البناء وتنظيم الصفوف فيما بينهم، بهدف السعي في المقابل لهدم مؤسسات الدولة، على نحو ما يجرى حاليا بإسقاط الدولة المصرية، وتقويض مفاصل وزارتي الداخلية والشرطة وتدمير مؤسستي القضاء والإعلام. وعلى الرغم من المطالبات بإعادة منظومة كل هذه القطاعات، لتواكب الثورة بجميع أهدافها ومبادئها. إلا أن المطالبات الأخرى تصب في ما يسمونه بالتطهير، وهو المصطلح الفاشي، الذي يعني الإقصاء بكل المقاييس، الأمر الذي جعلهم يطلقون مصطلح التطهير ليصبح مرادفا للاستبداد السياسي الذي شجعوا النظام المخلوع على ممارسته ، فعاشوا في كنفوا وتربوا في أحضانه، حتى ضاقوا به فانقلبوا عليه ، في إطار الحملة الشعبية التي ثارت على مبارك ونظامه .
لذلك لاينسى أمثال هؤلاء ما تجذر في نفوسهم من قمع فكري واستبداد سياسي، حتى إذا صعد غيرهم أطلقوا عليه سموم ماكيناتهم الإعلامية وأثاروا ضده مؤسساتهم الثقافية، التي استفادوا منها على مدى العقود الماضية، ولم يعد يتصورون أنهم يمكن أن يعيشوا بمنأى عنها، حتى صار ينطبق عليهم وصف ديكتاتورية الأقلية، والتي معها أصبحوا يعززون هذا المصطلح برفضهم لمشاركة الأغلبية في صنع القرار ، غير مكتفين بذلك بل وتعطيلهم لكل ما يمكن أن يساهم في إنجاح التجربة الإسلامية، وهى على وشك التطبيق في مصر، على نحو ما ظهر من إثارتهم لأشكال عدة من الصخب تحت قبة البرلمان، بل والهتاف ضد أعضائه والحكم عليهم بالفشل ، على الرغم من أنه لم يمض على تشكيله أكثر من شهر.
خلاف ذلك ، فإن ماكينة التضليل الإعلامي راحت تسابق الليل قبل النهار في برامج سطحية تسعى إلى إفشال الروح التي سادت بين المصريين إبان الأيام الثمانية عشر في ميدان التحرير، وهى الأيام الأولى لبدايات إطلاق شرارة الثورة، لتروج هذه الماكينة لحملات مغرضة ضد الإسلاميين، وإثارة الأباطيل حولهم، وهى التي لا أساس لها من الواقع، على نحو بأن الدولة المصرية صارت على مفترق طرق بين الإسلاميين والعسكر، وأن هناك تحالف فيما بينهم يطيح بغيرهم في داخل الوطن.
هؤلاء أصبحوا كمن أطلقوا صيحة أو كذبة أو افتراء ، ثم راحوا يصدقونها ، بل ويعلمون بها يقومون بالبناء عليها، على الرغم من كونها تجافي الحقيقة والواقع في آن، فالناظر إلى كل قرارات المجلس الأعلى للقوات المسلحة، باعتباره الجهة التي تدير شؤون الحكم بمصر، يجده منحازا لغير الإسلاميين ، وخاصة في قرارته بتسكين مختلف الأعضاء بمختلف مؤسسات الدولة بلا استثناء، فقراره الأخير بتعيين 30 مرشحا للمجلس القومي للمرأة خلا من أي شخصية محسوبة على التيار الإسلامي.
علاوة على هذا ، فإن تشكيلات سابقة لمفاصل الدولة المصرية خلت من أنصار هذا التيار أو المحسوبين عليه، على نحو ما حدث في عضوية المجلس القومي لحقوق الإنسان ومجلس أمناء اتحاد الإذاعة والتلفزيون والمجلس الأعلى للثقافة والمجلس الأعلى للصحافة ، بل وتعيين النواب العشرة بمجلس الشعب، جميع هذه التشكيلات تم تغييب الإسلاميين عنها أو المحسوبين عليهم، إما لتعمد ، أو تجاهل ، الأمر الذي يصل بنتيجة إلى أن "العسكري" غير متحالف مع الإسلاميين، وان الدعاوى التي تصدر خلاف ذلك ما هى إلا ضجيج تطلقه ديكتاتورية الأقلية التي أصبحت تسيطر على مفاصل الدولة مدعومة بقرارات عسكرية وفوقية، غير أن القرار الذي يبدو أنه سيبقى حتى يأتي المصريون اليقين أن خيارهم أصبح واضحا، وهو اختيار الإسلاميين ولفظ غيرهم، وهو الرهان الأكبر الذي يراهن عليه الإسلاميون ، ليس طمعا في المناصب، فهم الزهاد فيها، ولكن ليكونوا على مستوى الأمانة التي حملهم إياها الشعب، على الرغم من الضجيج والصداع الدائم الذي صار يصدع به دعاة الديكتاتورية أوساط الرأي العام المصري، على الرغم من تغلغلهم في "دولاب" العمل الرسمي بالبلاد. ولذلك فإنه مع التأكيد بأن الرهان سيكون على الشعب، فإن هذه المؤسسات هى التي ستلفظ أمثال هؤلاء الأقلية ، بعدما عانت هذه المؤسسات وعانى المصريون منهم كثيرا وفشل تجاربهم، إلى أن صاروا قاب قوسين أو أدنى من استردادها كما استردوا وقت ثورتهم حرياتهم العامة.