بتـــــاريخ : 4/16/2012 11:30:08 AM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 881 0

    موضوعات متعلقة

    بلاش العناد

    البعد عن الطعن والتجريح للمخالفين

    الناقل : elmasry | العمر :42 | الكاتب الأصلى : د. يوسف القرضاوي | المصدر : www.onislam.net

    كلمات مفتاحية  :

    د. يوسف القرضاوي
    من أسباب التواصل والتقارب: ترك الطعن والتجريح للمخالف، والتماس العذر له، وإن كان مخطئا في ظنك.
    وذلك لأنه قد يكون مصيبا وأنت المخطئ، إذ لا يقين في الاجتهادات بصواب أحد القولين، كل ما تملك في هذا المجال هو الترجيح، والترجيح لا يعني القطع واليقين.
    كما أن المخطئ في هذه القضايا لا يجوز الطعن عليه بحال، لأنه معذور في خطئه، بل مأجور عليه بنص الحديث النبوي الشريف.
    فكيف يجرح أن يطعن عليه في أمر هو مأجور عليه من الله تعالى، وإن كان أجرا واحدا غير مضاعف، ولكن يكفي أنه مثاب ومأجور غير مأزور؟
    وهذا هو نهج السلف في اختلافهم في الاجتهاد، فلم يجرح بعضهم بعضا، بل أثنى بعضهم على بعض برغم ما اختلفوا فيه.
    نموذج من أدب كبار العلماء مع مخالفيهم:
    ولعل من أفضل وأحسن أمثلة أدب الاختلاف: تلك الرسالة العلمية الرائعة، التي بعث بها فقيه مصر وإمامها وعالمها الليث بن سعد إلى الإمام مالك، يعرض عليه فيها وجهة نظره في أدب جم رفيع، حول كثير مما كان الإمام مالك يذهب إليه، ويخالفه فيه الليث بن سعد، ونظرا لطول الرسالة نقتطف منها ما يشير إلى ذلك الأدب الرفيع، الذي اختلف في ظله سلف هذه الأمة، وكرام علمائها، يقول الليث بن سعد:
    (...  سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد: عافانا الله وإياك، وأحسن لنا العاقبة في الدنيا والآخرة، قد بلغني كتابك تذكر فيه من صلاح حالكم الذي يسرني، فأدام الله ذلك لكم، وأتمه بالعون على شكره، والزيادة من إحسانه.. ثم يقول: وأنه بلغك أني أفتي الناس بأشياء مخالفة لما عليه الناس عندكم، وأني يحق علي الخوف على نفسي لاعتماد من قبلي على ما أفتيهم به، وأن الناس تبع لأهل المدينة التي كانت إليها الهجرة، وبها نزل القرآن، وقد أصبت بالذي كتبت به من ذلك ـ إن شاء الله تعالى ـ ووقع مني بالموقع الذي تحب، وما أجد أحدا ينسب إليه العلم أكره لشواذ الفتيا، ولا أشد تفضيلا لعلماء أهل المدينة الذين مضوا، ولا آخذ لفتياهم فيما اتفقوا عليه مني، والحمد لله رب العالمين لا شريك له).
    ثم يمضي الإمام الليث بن سعد في رسالته موردا أوجه الاختلاف بينه وبين الإمام مالك رحمهما الله تعالى حول حجية عمل أهل المدينة مبينا أن كثيرا من السابقين الأولين الذين تخرجوا في مدرسة النبوة حملوا إلى مشارق الأرض ومغاربها، وهم يجاهدون، ما تعلموه من كتاب الله وسنة نبيه، وبين أن التابعين قد اختلفوا في أشياء وكذلك من أتى بعدهم من أمثال: ربيعة بن أبي عبد الرحمن حيث يذكر بعض مآخذه عليه، ثم يقول: (ومع ذلك ـ بحمد الله ـ عند ربيعة خير كثير، وعقل أصيل، ولسان بليغ، وفضل مستبين، وطريقة حسنة في الإسلام ومودة صادقة لإخوانه عامة، ولنا خاصة، رحمه الله وغفر له وجزاه بأحسن ما عمله)، ثم يذكر من أمثلة الاختلاف بينه وبين الإمام مالك قضايا عديدة مثل: الجمع ليلة المطر ـ والقضاء بشاهد ويمين ـ ومؤخر الصداق لا يقبض إلا عند الفراق ـ وتقديم الصلاة على الخطبة في الاستسقاء.. وقضايا خلافية أخرى، ثم قال في نهاية الرسالة: (وقد تركت أشياء كثيرة من أشباه هذا، وأنا أحب توفيق الله إياك، وطول بقائك، لما أرجو للناس في ذلك من المنفعة، وما أخاف من الضيعة إذا ذهب مثلك، مع استئناسي بمكانك وإن نأت الدار، فهذه منزلتك عندي، ورأيي فيك، فاستيقنه، ولا تترك الكتاب إلي بخبرك وحالك وحال ولدك وأهلك، وحاجة إن كانت لك، أو لأحد يوصل بك، فإني أسر بذلك، كتبت إليك ونحن صالحون معافون والحمد لله، نسأل الله أن يرزقنا وإياكم شكر ما أولانا، وتمام ما أنعم به علينا، والسلام عليكم ورحمة الله).
    وإن من المؤسف اليوم أن نجد من بين المشتغلين بالدعوة إلى الإسلام من يشهر سيف الذم والتجريح لكل من يخالفه، متهما إياه بقلة الدين، أو باتباع الهوى أو بالابتداع والانحراف، أو بالنفاق، وربما بالكفر!
    وكثير من هؤلاء لا يقتصرون في الحكم على الظواهر، بل يتهمون النيات والسرائر، التي لا يعلم حقيقة ما فيها إلا الله سبحانه، كأنما شقوا عن قلوب العباد واطلعوا على دخائلها!
    ولم يكد يسلم من ألسنة هؤلاء أحد من القدامى، أو المحدثين، أو المعاصرين ممن لا يقول بقولهم في قضايا معينة، حتى وجدنا من يسب بعض الأئمة الأربعة في الفقه، ومن يسب بعض أئمة السلوك والزهد.
    هذا مع أن حملة العلم قد عدلهم النبي صلى الله عليه وسلم وزكاهم، بقوله: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله".
    وهذه من المزالق التي يتورط فيها كثير من المنتسبين إلى التيار الديني: الطعن والتجريح، فيمن يخالف وجهتهم، أو مذهبهم في الاعتقاد أو الفقه أو السلوك.
    فتجد بعض المنتمين إلى مذهب يطعنون في المذهب الآخر وإمامه.
    ومن ينتمون إلى الحديث أو السلف يطعنون في الفقهاء كالأئمة الأربعة وكبار أتباعهم ممن لا يشك أحد في علمهم واجتهادهم ودينهم وورعهم.
    أو يطعنون في كبار الصوفية الذين أثنى عليهم الربانيون والعلماء المحققون من خيار الأمة، وربما طعنوا في الصوفية جميعا.
    وكذلك قد يطعنون في كبار علماء الأشاعرة ويجرحونهم تجريحا منكرا، وهم من لهم منزلة وفضلا في الذب عن هذا الدين، وعن الكتاب والسنة.
    وانظر إلى موقف الإمام ابن القيم من شيخ الإسلام الهروي الأنصاري صاحب كتاب (منازل السائرين إلى مقامات "إياك نعبد وإياك نستعين") الذي شرحه ابن القيم بكتابه (مدارج السالكين) فكثيرا ما خالف الشارح (صاحب المدارج) المؤلف (صاحب المنازل) وبين خطأه فيما ذهب إليه، وذلك حين لا يجد أي مجال لتأويل كلامه وحمله على أحسن الوجوه الممكنة، ومع ذلك يلتمس له العذر بعد العذر، ويثني عليه وعلى علمه وفضله ومنزلته.
    خذ مثلا لذلك ما قاله الهروي في حقائق التوبة، حيث جعل منها (طلب أعذار الخليقة) على نحو ما يقوله كثير من الصوفية أن من نظر إلى الخلق بعين الحقيقة عذرهم، على حين أن من نظر إليهم بعين الشريعة لامهم.
    وقد بين ابن القيم أنه لا وجه لعذر العصاة بالقدر، وليس عذرهم من التوبة في شيء، فلا هم معذورون، ولا طلب عذرهم من حقائق التوبة.
    قال: لا سيما أنه يدخل في هذا عذر عباد الأصنام والأوثان، وقتلة الأنبياء وفرعون وهامان، ونمرود بن كنعان، وأبي جهل وأصحابه، وكل كافر وظالم، ومتعد حدود الله، ومنتهك محارم الله، فإنهم كلهم تحت القدر، وهم من الخليقة أفيكون عذر هؤلاء من حقيقة التوبة؟
    ثم يقول ابن القيم: ولا توجب هذه الزلة من شيخ الإسلام إهدار محاسنه وإساءة الظن به، فمحله من العلم والإمامة والمعرفة والتقدم في طريق السلوك المحل الذي لا يجهل. وكل أحد فمأخوذ من قوله ومترك إلا المعصوم، صلوات الله وسلامه عليه. والكامل من عد خطؤه. ولا سيما في مثل هذا المجال الضنك، والمعترك الصعب، الذي زلت فيه أقدام. وضلت فيه أفهام. وافترقت بالسالكين فيه الطرقات، وأشرفوا ـ إلا أقلهم ـ على أودية الهلكات.
    ومن الخطأ الذي يقع فيه بعض المتدينين: أنهم لا يسمحون للشخص الذي يثقون بمنزلته في العلم أو في الدين، بأي زلة تزلها قدمه في الفكر أو في السلوك، وتراهم بمنزلة واحدة يهدمون جهاد إنسان وجهوده طوال عمره، ويهيلون التراب على تاريخه كله.
    ولو عامل الله عباده كما يعامل هؤلاء غيرهم، ما نجا أحد ـ بعد الأنبياء ـ من الهلاك في الدنيا ولا من العذاب في الآخرة، ولكنه تعالى خاطب المكلفين بقوله: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم، ويعفو عن كثير) (سورة الشورى: 30).
    وقال: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما) (سورة النساء: 31).
    ووصف الذين أحسنوا من عباده بقوله: (الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم) (سورة النجم: 32).
    إن الله تعالى يحكم على الناس بغالب أعمالهم، فمن ثقلت موازينه فهو المفلح ومن خفت موازينه فقد خاب وخسر، مع أن الله تعالى ـ بفضله ورحمته ـ يضاعف الحسنات، ولا يضاعف السيئات (إن الله لا يظلم مثقال ذرة إن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما) (سورة النساء: 40).
    ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون".
    ويقول: "والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا، لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم".
    ومن المأثور:
    أن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك ما ألما؟
    ومن الوقائع التي لها دلالتها: ما وقع من حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه قبيل غزوة الفتح، حين أراد إرسال كتاب إلى أهل مكة، ينبئهم بتهيؤ الرسول لغزوهم، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم حريصا على أن يباغتهم فيجبرهم على التسليم بأقل ما يمكن من الخسائر والدماء.
    وقد بعث حاطب بالكتاب بالفعل مع امرأة مسافرة إلى مكة، واستطاع علي رضي الله عنه أن يستخرجه منها، وقال عمر رضي الله عنه، حين اكتشف هذا الأمر: دعني يا رسول الله أضرب عنقه (يعني حاطبا) فقد نافق! ولكن النبي الكريم أبي ذلك وقال: "وما يدريك يا عمر لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم".
    ومعنى هذا أن سوابق هذا الصحابي شفعت له، مع عظم الذ دنب الذي اقترفه مما يشبه أن يكون خيانة عظمى.
    ومن الكلمات الحكيمة هنا ما رواه أبو دواد في سننه عن الفقيه الجليل معاذ بن جبل رضي الله عنه، فقد قال: إياكم وما ابتدع فإن ما ابتدع ضلالة وأحذركم زيغة الحكيم، فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم وقد يقول المنافق كلمة الحق! قال يزيد بن عميرة، راوي الحديث، وهو من أصحاب معاذ: قلت لمعاذ: ما يدريني رحمك الله أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة وأن المنافق قد يقول كلمة الحق؟ قال: بلى، اجتنب من كلام الحكيم (المشتهرات) التي يقال لها: ما هذه؟ ولا يثنيك ذلك عنه، فإنه لعله أن يراجع، وتلق الحق إذا سمعته، فإن على الحق نورا.
    وفي رواية: (المشبهات) مكان (المشتهرات) وفسرها بقوله: ما تشابه عليك من قول الحكيم، حتى تقول: ما أراد بهذه الكلمة؟!
    والشاهد هنا قول معاذ بعد التحذير من زيغة الحكيم: ولا يثنينك ذلك عنه، فإنه لعله أن يراجع، فلا ينبغي أن يسقط المرء بسبب كلمة يزيغ فيها عن الحق.
    ومن القواعد المسلمة: أن الخطأ مرفوع عن هذه الأمة كالنسيان، وهو ما علمه الله للمؤمنين أن يدعوا به ختام سورة البقرة، وهو قوله تعالى: (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) (سورة البقرة:286) وقد صح في الحديث: أن الله تعالى قال: قد فعلت.
    وأكد هذا الحديث النبوي: "إن الله تجاوز لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه".
    وقال تعالى: (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به، ولكن ما تعمدت قلوبكم) (سورة الأحزاب: 59).
    يؤكد هذا قوله تعالى: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) (سورة البقرة: 286).
    ومن بذل جهده في معرفة الحق، فأخطأ الطريق إليه، لم يكن عليه جناح ولم يوجه إليه لوم، وإلا كلفناه ما لا طاقة له به، وهو منفي أيضا بما دلت عليه الآية السابقة (ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به).

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()