صباح جديد يعبر إلى شارع النصر الذي ما زال يحافظ على منظره الكلاسيكي من عقد الستينات؛المحلات بواجهاتها الحديدية القديمة ، وكراسي خشبية صغيرة يجلس عليها رجال يتمتعون بأشعة الشمس الربيعية الرقيقة.
جلسة قهوة صباحية تجمع نساء الزقاق كل يوم في بيت من بيوته،ولكن الجلسة انتقلت بشكل دائم إلى بيت أم زهران، بعد أن صار التنقل عليها صعبا بسبب المرض والهرم.
جلسات يومية عادية الأحاديث ؛مشاكل الرجال المادية وهموم الحياة ،ومشكلات الأقارب.
في يوم السبت تختلف الأحاديث، حيث تأتي فتيات الحارة من الطالبات الجامعيات اللواتي يغبن طوال الأسبوع في السكن الجامعي.
سلمى ابنة أم زهران تشكل قضيتها محور الأحاديث منذ شهرين؛فهي على وشك الطلاق بعد سنتين من حياة زوجية مليئة بالمشاكل،سلمى تبكي حظها ،كلما عادت لسرد الذكريات القديمة تبكي معها النساء والفتيات؛ لأنهن عرفن سلمى قبل الزواج الفتاة الحالمة المرهفة الحس كثيرة الكلام عن الحب وعن الحياة الجميلة.
وجدان الجارة العزباء التي تخطت سن الأربعين “تقرقر” بأرجيلتها الصغيرة، بعدما ملت من تكرار نفس الأحاديث،وتكرار نصائح النساء المعادة وتخبر النساء أنها تحمد الله على أنها مرتاحةٌ من عالم الرجال ومشاكلهم، وفي داخلها تتمنى من الله أن يجمعها برجل مهما كانت طبيعته.
سلمى تسمع النصائح المتناقضة منهن، أم سمير تطلب منها الصبر !وأم أسعد تحرضها على الخلاص منه ، ومي طالبة الحقوق تشجعها على رفع قضية “نفقة” وأن تعاقبه بالقانون .
أم زهران يمزقها الندم لأنها تعجلت في زواج سلمى ولم تترك لها فترة خطبة كافية كان من الممكن أن تتعرف حقيقة شخصية زوجها. فالزواج تم بسرعة دون روية.
بعد ساعة تأتي الفتاة الجامعية سوزان ، الكل يرحب بها فهي لم تحضر أي جلسة صباحية منذ أسابيع بسبب صعوبة دراستها التي ترغمها على البقاء في السكن الجامعي حتى خلال أيام العطلة.
سوزان بعد أن تحيي النساء وتُقدم باقة من الأعذار إلى الجالسات. تبدأ بالحديث عن الكمبيوتر وتطوره السريع والدائم، وعن صعوبة دراستها التي عزلتها عن مجتمع الزقاق إلى عالم الأرقام ، وتحدثهم عن شباب عرب وفتيات من الغرب يتحدثون من خلال شبكة ”الانترنت” بما يسمى” بالتشات” لتزيد من ذهول الجالسات اللواتي يطلبن إعادة معظم الجمل، وتقديم شرح مفصل لهذا الكلام العجيب الغريب على أذانهن.
قبل الظهيرة تخرج النسوة والفتيات لإعداد الغداء لأزواجهن، تمسك سلمى بيد سوزان قبل أن تهم بالخروج طالبة منها البقاء لتشاركها الغداء، فسلمى ستعد لغداء اليوم وجبة ”الكوسا المحشي” وتعرف بأن سوزان تحب هذه الأكلة، تضحك سوزان موافقة على ما سمته بالعرض المغري مشترطة على سلمى مساعدتها في المطبخ.
بعد قضاء وقت سريع تحدثت فيها الفتاتان بمواضيع منوعة، طلبت سلمى من سوزان أن تحدثها أكثر عن الانترنت ؛بعد الغذاء بدأت سوزان درسها الأول، مصطلحات غريبة تسمعها سلمى مثل “ويب وتشات وايميل ” اليوم التالي تذهبان للتطبيق العملي في مركز”انترنت”.
استوعبت سلمى دروس سوزان كلها بسرعة، وفي بداية الأمر، راسلت سلمى صارت سلمى تقضي وقتاً طويلاً في غرف المحادثة عبر محادثات سريعة تنتهي في اليوم نفسه، لكنها لم ترق لها؛تريد صديقاً يشعرها بوجودها في هذا العالم الغريب الذي لم يعطها أدنى تلبية لحلم المراهقة الذي يراودها بشاب يخطف قلبها ؛ يقلب حياتها ومشاعرها ويفجر عواطفها المدفونة مثل كنوز سليمان، حبيب يشعرها بحرارة الرجولة ويصهر أنوثتها المجمدة بين ثلوج الحياة يمتلك لسان يعزف كقيثارة أسبانية .
علاقات كثيرة مع ذكور وإناث مرت مع سلمى عبر “الانترنت” تنتهي بسرعة مع إغلاق الجهاز في ذلك اليوم ،إلا علاقة واحدة منذ فترة مع شاب اسمه المستعار الوردة الحزينة، أعجبها الاسم؛ لأنها كانت قد زرعت وردة ياسمين في بيتها الزوجي وكانت تسميها الوردة الحزينة. الشاب صاحب ذلك لاسم المستعار ، كان يشارك في الواقع بآراء مثالية ورومانسية تغلبها مشاعر حزينة، كلامه يدل على أنه يحمل كثيرا من الصفات التي تحبها سلمى في الرجل،وكأنه وردة حقا.
ولحسن حظها انه من البلدة نفسها التي تعيش فيها، وسنه يقارب من سنها،أعزب و شاب هادئ يُقدس العلاقة الزوجية ويحرر المرأة من الأسلاك الشائكة التي أسرها بها تاريخ التقاليد، ويؤمن بحضورها كامرأة في البيت والعمل والحياة كلها ، ويعشق المرح مع الزوجة ومغازلتها مثل حبيبة تتجدد في كل صباح، هكذا كانت الآراء التي يطرحها في الغرف الرقمية مما شجع سلمى على مراسلته ليكون صديقاً لها بل ووضعت عنوانه في موقعها لتظل طوال الوقت في الاتصال معه.
الوردة الحزينة رجل جاء من كوكب الحب إلى سلمى؛ ليخلصها من زوجها الجلف عصام الذي لم يقدرها في يوم من الأيام ولم يحاول أن يعاملها كحبيبة،كزوجة ،كأنثى في أبسط الحالات.
سوزان هي أول المكتشفات لتلك المشاعر القادمة عبر الأسلاك، التي غيرت من يأس سلمى وأعادتها إلى طبيعتها المرحة الرائعة، ولكنها ظلت تحذر سلمى كثيراً من الانجراف وراء علاقة صداقة انترنت من الممكن أن تكون خادعة مثلما يحدث غالبا في العالم الرقمي.
ومن يستطيع الآن إبعاد سلمى من أمام الكمبيوتر الذي يشكل لها نبع الوله والعشق الملتهب ، ويقتلع منها هموم الحياة ويحولها إلى موج بحر لا يهمه مد ولا جزر ، فلطالما انتظرت سلمى مثل هذا الحب وهي تنظر في صغرها إلى شباب الزقاق يقبلون حبيباتهن ، وكيف تلتهم عيون الفتيات رسائل الحب وهي لم تعرف سوى ورقة زواجها.
شهور مضت والعلاقة العاطفية تنمو وتزداد بين ابنة الظلام والوردة الحزينة . استطاعت الأسلاك نقل الكثير من الكلام لسلمى، لكنها لم تستطع تفسير معنى لقبلة، ولا حتى حرارة دمعة لها، فهي لم تره ولم يرها حتى الآن، علاقة تحدها الحروف المكتوبة وعالمها شاشة صغيرة وكلمات تأتي من موقع ما!
سلمى والشاب قررا أن يلتقيا شخصياً، ليبدأ خطوتهما الأولى نحو الزواج.
تم تحديد الميعاد المنتظر بمطعم مشهور يوم الثلاثاء التالي.
في يوم الثلاثاء تصطحب سلمى سوزان إلى المطعم الذي ستلتقي به الحبيب القادم ، سوزان تشعر بفرح لهذه العلاقة الرقمية التي تنتهي بهذه النهاية السعيدة وتشعر بمشاهدة ولادة علاقة زوجية تخلص سلمى من ماضيها الحزين.
تجلس الفتاتان على الطاولة تنتظران الحبيب، تعرف سلمى اللباس الذي سيدخل به “الوردة الحزينة” إلى المطعم، ولون ثيابه التي سيرتديها.
لم يحد نظرها عن باب المطعم ولو للحظة واحدة، وكأنها قناص حربي، حتى دخل الشاب الذي لا تظهر ملامحه من بعيد، فنور الشمس وراءه تصنع منه نيجاتيف لصورة الفارس المنقذ الذي طالما انتظرته وها هي لحظة اللقاء تحين لها، فهو يقترب منها وتبدأ ملامحه بالظهور.
تقف سلمى عاجزة عن أي تعبير بينما تضرب سوزان رأسها بالطاولة، تصرخ سلمى مشيرة إليه بإصبعها الذي تمنت في تلك اللحظة لو كان سكّينا تمزق نفسها فيها.فقد تبين أن صاحب اللقب المستعار”الوردة الحزينة”الملتهب عشقا؛ هو زوجها السابق عصام!!!!.