اقترب موعد أذان المغرب، وأخذت الأم تعدّ طعام الإفطار الذي كان يجب أن يكون طعام السحور، ولكنها آثرت أن تخبئ طعام السحور لصغيرها.
ولم تأكل منه لقمة واحدة..
طلب منها ابنها الصغير أن تتناول طعام السحور، ولكنها رفضت بحجة أنها ليست جائعة..
فقد انتهى الطعام المدّخر عندها، ولم يستطع زوجها الخروج كي يأتي بالخبز أو أي طعام كان..
فالقصف والاشتباكات لم تهدأ ساعة واحدة.
والقناص يتربص فوق العمارة بكل شخص يمرّ، وأكثر ما يغيظ القناص شخص يحمل ربطة خبز، وكأنه يحمل سلاحاً في وجهه القميء.
حضّرت الأم الطعام، وانتظرت أذان المغرب، كي تفطر على الماء فقط..
ذهبت الأم إلى المطبخ كي تحضر الماء..
وإذا ببرميل الموت الذي يحمل أطناناً من المتفجرات، يسقط على المبنى.
ولحسن الحظ سقط البرميل على جانب المبنى فقط، فانهار جزء كبير منه..
تراكض الناس كي يُحصوا شهداءهم كالعادة، فقد صارت براميل الموت جزءاً من حياتهم اليومية في شهر رمضان المبارك، في مدينة أبي فراس الحمداني مدينة حلب الشهباء..
وبعد جهد جهيد وُجدت الأم ملقاة مضرجة بدمائها الزكية، ورائحة الصوم والموت تفوح من فمها معطراً بدم الشهادة..
بكاها الزوج والصغير بكاءاً مرّاً،
وبعد حين انتبه الزوج لبكاء صغيره المرير، فتمالك نفسه، وقال لصغيره معزياً نفسه وولده:
-يا صغيري الماما في الجنة الآن، علينا أن نفرح لها وندعو الله أن يجمعنا بها..
قال الصغير بصوت متحشرج دامٍ:
-يا بابا.. أنا حزين لأن ماما ماتت وهي صائمة..
قال الأب وهو يداري دمعه:
-هنيئاً لها الشهادة وهي صائمة..
قال الصغير بحرقة:
-ولكن يا بابا ماما ماتت وهي جائعة لم تتسحر..
حضن الأب ابنه الصغير، وقلبه يقطر حزناً وألماً على زوجة كانت نِعْمَ الزوجة الصابرة المصابرة، وعلى وليد صغير محتاج لحب وحنان الأم الرؤوم..
كان نحيب الصغير يقطع نياط القلب القاسي، فكيف بقلب أب مكلوم..
صاح الصغير بحرقة:
-يعني ماتت ماما وهي جوعانة ..أنا لهيك زعلان يا بابا
مسح الأب دموع صغيره، وهو يطمئنه على أمه الغالية:
-يا حبيبي.. الماما الآن في الجنة تأكل أطيب الطعام، افرح لها يا حبيبي..
هدأ الصغير قليلاً، ومسح دموعه بكفيه الرقيقتين، ثم رفعهما إلى السماء، ودعا الله بصوت طفولي حزين:
-يا رب طعمي ماما متل ما كانت تطعميني .. الله يرحمك يا أمي يا غالية .
ــــــــــ
بقلم : غرناطة عبد الله الطنطاوي