ليست صدفة هي حالة افتقار المكتبات العربية ومواقع الانترنت من المقال المهني والمادة العلمية التي تعنى بالاطر المالية والهيكلية القانونية والتجارية المتعلقة بمشاريع إستثمار النفط والغاز، علماً ان منطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا تـُعد المستودع الاكبر للخزين الهايدروكاربوني في العالم.
لقد عمد الفكر العربي على مجانبة رفد قطاع النفط لما يحتاجه من دعم لوجستي وعلمي، مُكـَرسا آلة القلم في تدوين نظريات المؤامرة المحيطة بهذه المادة الاحفورية التي باتت نقمة على اهلها وان كانت نعمة في أصلها، لا لشيء سوى لأن المراهنات السياسية المحيطة بحيثياتها لم تعد أهدافها التقدم الاقتصادي والمنفعة العامة، بل التركيز على المظلومية التي طالت الشعوب العربية قبل عصر التأميم. فترى الباحث يبتديء بالشك ولا ينتهي باليقين مستلهماً أفكاره من أنظمة اقتصادية عفا عليها الزمن ولم يعد العمل فيها بين الانظمة العالمية في صناعة البترول. كل هذا والكاتب العربي يستقتل وطنية في الدفاع عن آراء منقرضة لا يقربها الا الغالبية الساذجة من المحيط العربي، ويعينه على توطيد هكذا أفكار، جهات خارجية وأياد خفية مدفوعة الأجر لغرض إيقاف عجلة التقدم الاقتصادي، متحكمة ً بمشاعر الناس من خلال مؤسسات تتحرك تحت غطاء إنساني ومدني.
هذا ويقابل التكتل العربي المتشنج، الفكر الغربي الذي أبدع في تطوير الانظمة القانونية والمالية والتجارية ليغني مكتباته بالأطر العملية والهيكلية التي تضمن استمرار عجلة التطور ليس في مجال البترول فحسب، بل في البحث العلمي لإيجاد بدائل للطاقة والتنمية المستدامة وحماية البيئة وحقوق الانسان في مجال العمالة.
إن العالم الغربي دأب على مراجعة الفكر الاقتصادي بواقعية بناءة ورسم استراتيجية طويلة الأمد تتناسب مع المد البشري والتطور الفكري في أقطار معمورته، ولحق بهذا النهج، المجتمعات الاسيوية لاسيما اليابان وماليزيا والصين والهند والتي أصبحت مؤسساتها الصناعية والتجارية منافسة لنظيراتها في العالم، بل وغازية للأسواق العالمية لا سيما غرب أوربا وأمريكا مما جعل الامبراطوريات التجارية الغربية تفرض ضرائب مضنية على الشركات والسوق الاسيوية دعماً لإقتصادها المحلي. هذا ولم تجدي هذه الاخيرة نفعاً في أحتواء الغزوالاسيوي للأسواق الرأسمالية، حتى جعلت الغرب يراجع إستراتيجياته في إحتواء الازمات الاقتصادية بآلية العمل المشترك والتعاون التجاري والصناعي مع البلدان الآسيوية متبنية بذلك المقولة الانجليزية: (if you can't beat them, join them)ولتفتتح كبرى الشركات الغربية فروعاً لها في الهند والصين مستفيدة من كفاءات تلك البلدان، بل قامت باستقدامهم واستخدامهم في مشاريعها العالمية عاملة بمبدأ التنوع والاحتواء (Diversity & Inclusiveness) ليكون نسيج ملاك الشركات الرأسمالية العالمية متعدد المواهب والثقافات والخبرة في زمن ما زال فيه العالم العربي يعيش في عتمة الشك ويرى في المظلومية ملاذاً وواقعاً إجتماعياً.
وعوداً لفحوى المقال.. البـــتــرول والفرص الاقتصادية.. أقول، هل توجد بحوث عربية منشورة تشرح وتناقش طبيعة العقود والقوانين والانظمة الاقتصادية والمالية لهذه الصناعة التي يعتمد عليها العالم الغربي الرأسمالي كمستهلك أول، ويُمثل العالم العربي المصدر الرئيسي الاول لها؟ هل توجد أقلام عربية تكتب في النظام التجاري بطريقة علمية وعملية لتثقيف المجتمع العربي بعيداً عن لغة العاطفة والمشاعر الوطنية الزائفة؟ هل توجد ورشات عمل باللغة العربية لتطوير المهارات الاقتصادية والقانونية في العالم العربي؟ لماذا عندما تـُذكر عقود المشاركة في الانتاج (وليس في الخزين)، لا تناقش علمياً وبأمثلة حية بل تجابه بردة فعل تنطلق من فكر المؤامرة أي وكأن مبدأ المشاركة سوف يدخل في كل شيء حتى في الاولاد والاعراض؟ هل صحيح ان عقود المشاركة هي من بنات أفكار الشركات النفطية العالمية أم أن أصولها أندنوسية كما يروي الرواة؟ لماذا لا تـُذكر باقي الانظمة المالية المنتشر في العالم، شرقاً وغرباً، والتي تضم حتى عقود الامتياز (سيئة الصيت قبل عصر التأميم)؟ إذا كانت عقود الامتياز والمشاركة سيئة الى حد تخوين من يتحدث بها فلماذا يُعمل بها في أغلب بلدان العالم بل وحتى العربية منها؟ هل هناك أنظمة عقدية أخرى يُعمل بها عالمياً كعقود الخدمة والتطوير والمشاركة بالمخاطر؟ ما هي ميزات وسمات هذه العقود؟ لماذا لا ترغب الشركات الاجنبية في مشاركة الدول المضيفة بعلومها التكنولوجية (know how) في حال قبولها بعقود قصيرة الأمد؟ لماذا يتكلم الرجل العربي بصيغة الآمر للمستثمر الاجنبي آملا ً من الطاقات والشركات العالمية طرح خبراتها وخدماتها مقابل عقود قصيرة الامد؟ لوكنت أخي العربي في مكان المستثمر الاجنبي هل كنت تعطي سر مهنتك قربة لله وعقد خدمة ثلاث سنوات؟ لماذا يفكر العقل العربي بالعدوالمشترك ولا يرغب في المصالح المشتركة؟ الى متى يبقى الجهل المركب وضياع الفرص الاقتصادية هي السارق الاكبر لحظوظنا في حياة كريمة، لا المستثمر الاجنبي في زمن العولمة كما يتوهم البعض؟ الى متى يبقى البعير على التل ِ ؟ حتى المساء ... وهذه الاخيرة من جنجلوتية القراءة الخلدونية العراقية التي كانت تـُدَرَس في المراحل الابتدائية وأسطورة ساطع الحصري.
إنني لم أسلط الضوء على افتقار اللغة العربية للعلوم الحديثة جزافا ً، ولا أدري لماذا دأب الكتاب والمفكرون العرب على تحديد طاقات هذا الكنز اللغوي ليكون مختزلاً بمكنون قديم غير قابل للتجديد وجعله مادة لا تصلح الا للشعر والادب. نعم، لقد توقف زمن تطوير هذه اللغة من عهد ٍ بعيد لتحل محلها لغات أخرى وفي صدارتها الانجليزية في إحتواء المادة العلمية في كل مجالات العلوم الحديثة، علماً إن أكبر معضلة يواجهها فقهاء الترجمة هو إيجاد المرادف العلمي اللغوي الذي يتناغم مع المنطق العربي، وهذا ما تعاني منه الجامعات العربية التي تعمل بنظام التعريب مما سبب هوة وفراغ علمي قد مـُلأت فجوته بالجهل المركب والفكر المضاد والمناهض لمسيرة التطور الفكري ولتحل محلها أفكار الشك والمؤامرة كبدائل ثقافية تحاكي مظلومية الارث العربي الذي دأب على مشاطئة الماضي السحيق، فترى الكاتب العربي لا يبدأ الا متحاملا ً في قصده ولا يختم الا باليأس وغلق أبواب الحلول أي وكأن العالم وصل الى حتمية لا مفر منها.
إن ثورة تأميم النفط في العالم، والتي بدأت بوادرها في خمسينيات القرن الماضي لتستقر أوزار الحرب على الشركات العالمية في أواسط العقد السابع، كانت ثورة موفقة وضرورة إقتصادية لتحقيق العدالة في حينها، وكان من منافعها الرئيسية هواستثمار منشآتها كلبنة أساسية في بناء شركات النفط الوطنية في الشرق الاوسط، ولعل أفضلها وأعلاها شأناً كانت شركة النفط الوطنية العراقية التي حظيت بملاك فني وكادر اقتصادي من خريجين الدول الأوروبية، لا يرقى الى علمهم الا منتسبي الشركات العالمية حينها لأنهم كانوا محل إعتمادها في مشاريع الاستكشاف والاستخراج في عصر ما قبل التأميم.
إلا إن حظوظ الشركات الوطنية في الشرق الاوسط وسير تقدمها كان متباينا ً، حيث تقدمت شركات الدول الخليجية لحظوتها بأنظمة سياسية مستقرة غير ثورية، بينما تراجعت المؤسسة البترولية العراقية فكرياً وعلمياً وعملياً لأسباب جلية متمثلة بالمغامرات الانقلابية التي قادتها الاحزاب الثورية والشمولية والتي أدت الى هجرة عقولها، وتقاعد الخبراء الاوائل عن مواصلة العمل، وحدوث فجوة فنية وإقتصادية بين الجيل المتقدم من الخبراء والمتأخر من بقايا زمن المغامرات، والتي لم تحظى بفرصة اكتساب العلوم الحديثة، وهذه الاخيرة وَلـَدت أثراً سلبياً في تحجيم المِلاك العلمي والفني لهذا القطاع الهام، عصب الدولة الاقتصادي.
علماً ان السلبية الاساسية التي طالت الشركات الوطنية (في الشرق الاوسط) ما بعد التأميم هو خلق فجوة فكرية بين الدول العربية والاستثمار الاجنبي في قطاع البترول سببه انتشار وباء نظرية المؤامرة في المجال العلمي والاقتصادي مما دفع بالاقتصاد بعيداً عن خطط الاستدامة في تأهيل الكوادر الوطنية الكفوءة، ومعتمداً إما على الكفاءات الذاتية حينها أوالخبرة الاجنبية المحدودة عند الحاجة، وهذا ما منع التواصل الفني والتقني والاقتصادي والذي جعل من عودة الشركات الى منطقة الشرق الاوسط أمراً مشوباً بسوء الظن وبعيداً عن التعاون المشترك والمنافع الستراتيجية. غير إن تشخيص هذه الحالة لم يدم طويلاً من قبل بعض قيادات الدول العربية، حيث دأبت بعض الدول في دعوة الشركات العالمية والدخول في عقود طويلة الامد متخذة من مبدأ المصالح المشتركة (common interests) نقطة الوصل بينها وبين القوى العالمية الصديقة لها لتنويع اقتصادها واستثماراتها ليس داخل بلدانها فحسب بل حتى خارجها (Diversifying investment & economic portfolio).فهل يعلم المواطن العربي ان عقود المشاركة موجودة بصورها المختلفة في قطر وعُمان ومصر واليمن وسوريا وليبيا والجزائر، وهل يعلم ان المملكة العربية السعودية في طور منح استثمارات للشركات الاجنبية في الربع الخالي، وهل يعلم ان الامارات العربية المتحدة قد نهجت هذا النهج وهل يعلم ان الكويت في صدد تغير قوانينها الداخلية لمنح عقود طويلة الامد تحت مسميات ظاهرها خدمة وباطنها مشاركة في الارباح وهذا ما تسعى اليه الجمهورية الاسلامية الايرانية أيضاً، وكل هذا لإستيقان هذه الدول إن التطوير يحتاج الى التزاوج المعرفي بين الأمم بعيداً عن العواطف الزائفة لإن المسألة في النهاية لا تعدوأن تكون بزنس. فلماذا هذا الصراخ والضجيج عندما يكون الحديث عن تطوير الاقتصاد العراقي وبناء مؤسسته البترولية والتي كانت عروس الشركات الوطنية في الشرق الاوسط منذ بداية القرن السالف وحتى وصول المد الثوري الارعن.
فيا ترى، هل ستقوم لشركة النفط الوطنية العراقية قائمة بعد هذا السبات الطويل، أم ان ارباب الفكر التآمري سيسهمون في تخديرها ووأد التجربة العراقية الواعدة في بناء الاقتصاد العراقي والذي بدونه لا تقوم للعملية السياسية قائمة. أم ان الاستثمارات الاجنبية والتقدم التكنلوجي حلال على الدول العربية وحرام على الشعب العراقي لأن دول المنطقة وشعوبها ترى في النفط العراقي كوبونا ً للفكر العربي ليكون وصيا ًعلى مظلوميتنا. فإذا كان أهل مكة أدرى بشعابها فإن أهل بغداد والبصرة وباقي مدن العراق أدرى بأزقتها - والحليم تكفيه الإشارة.