سقراط (469 ـ 399 ق.م)
أبا الفلسفة الغربية
فيلسوف ومعلم يوناني جعلت منه حياته وآراؤه وطريقة موته الشجاعة، أحد أشهر الشخصيات التي نالت الإعجاب في التاريخ. صرف سقراط حياته تمامًا للبحث عن الحقيقة والخير. لم يترك أن سقراط أية مؤلفات، وقد عُرِفت معظم المعلومات عن حياته وتعاليمه من تلميذيه المؤرخ زينفون والفيلسوف أفلاطون، بالإضافة إلى ما كتبه عنه أريسطوفانيس وأرسطو. وُلد سقراط وعاش في أثينا. وكان ملبسه بسيطًا. وعُرف عنه تواضعه في المأكل والمشرب. وزوجا متواضعا و له أبناء ، حرفته صناعة الصخور و بناء الجدران ، إلا أن سقراط زهد بكل ذلك و سخّر جلّ وقته لدراسة ما حوله
لابد لنا من معرفة السبب الذي جعل سقراط يتجه إلى بحر الفلسفة العاصف و يبحر فيه ربّاناً زاهدا قويا في معترك الرياح.
كانت اليونان في ذلك الزمان دولة يعبٌد أهلها الشمس و القمر و السماء و البحر و غير ذلك من آلهة ، و كان هنالك عرّافة تقطن في معبد إله الشمس و الحكمة و يعتبرها الناس أصدق مصدر لمعرفة الماضي و الحاضر و حتى المستقبل ، و في يوم من الأيام زار أحد أصدقاء سقراط هذه العرافة و سألها : من أحكم الناس ؟ فأجابته العرافة بأن أحكم الناس هو سقراط في حين لم يكن سقراط حينئذ إلا رجلا بسيطا كباقي الرجال ، متزوج و له أبناء و يعمل على بناء الجدران.
عندما وصلت سقراط نبؤه العرافة تفاجئ و قال : كيف أكون أحكم الناس و أنا لا أعلم شيئا غير تكسير الصخور وبناء الجدران .. سأذهب لأتيقن من نبؤه العرافة.
زهد سقراط تَبعاً لذلك في الدنيا مكرسا معظم وقته للتجول في الأسواق بحثا عمن يدعي الحكمة ، فإذا وجد أحدا متقمصا المعرفة سأله سقراط عنها ، فعلى سبيل المثال يلتقي سقراط بقاضي فيسأله عن عمله ، فيجيب القاضي أن عمله هو الحكم بالعدل بين الناس ، فسرعان ما يقول سقراط : إذن لا بد أنك تعرف ما هو العدل ! فيجيب القاضي و كيف لا .... لكن و للأسف ، عندما يأخذ سقراط في سؤال القاضي عن العدل و حقيقته و عن ماهيته ، يعجز القاضي في النهاية بالإجابة عن الأسئلة و يكتشف الإثنان أن كلاهما لا يعرف عن العدل شيئا.
تكررت هذه الحكاية مع الفنان لما سُئل عن الجمال ، و مع القسّيس عندما سئل عن التقوى ، حتى اكتشف سقراط في النهاية لماذا هو أحكم الناس ، كل الناس يدّعون الحكمة و هم لا يملكونها ، إلا سقراط فإنه الوحيد ( الذي يعلم أنه لا يعلم )....
فلسفة سقراط تعتمد على التساؤل عن المعطيات ، خصوصا التشريعات الموروثة في الأعراف و الكتب المقدسة ، على سبيل المثال أحد الأسئلة التي طرحها سقراط كان لماذا المقدسات مقدسات ؟ هل لأنها ذكرت في الدين ؟ أم هل ذكرها الدين لأنها مقدسة بذاتها ؟
أودت هذه الفلسفة بحياة سقراط ، إذ أن الدولة لم تطق عليه صبرا ، فقبض عليه و حكم عليه بالإعدام سُمٍّا
محاكمة سقراط
خمسمائة قاض وقاض جلسوا ، الواحد بجانب الآخر ، على المدرج ذي المقاعد الخشبية المغطاة بالحصر ، وفي مواجهتهم ، رئيس المحكمة محاطاً بكاتبه والحرس . وفي أسفل المدرج وضع الصندوق الذي سيضع فيه القضاة أحكامهم بعد انتهاء المحاكمة . الجلسة علنية . ولا يسمح فيها لغير الرجال بالحضور . أما الطقس ، فقد كان جميلاً ، مما ادخل الارتياح إلى نفوس الجميع وجعلهم يأملون بجلسة كاملة لا يربك مجراها مطر يهطل على الرؤوس أو برد يعطل تواصل الأفكار . وإذا بدا لنا أن انعقاد محكمة في الهواء الطلق أمر مستغرب بل وطريف ، اليوم ، فلنتذكر إننا في أثينا ، في صباح من ربيع عام 399 قبل الميلاد .
أثينا هذه التي قدمت الديمقراطية للعالم ، تعيش فترة عصيبة ، لقد هزمتها إسبارطة في حرب دامت بينهما سبعاً وعشرين سنة ، وفرضت عليها شروطاً قاسية . منها نظام "الثلاثين مستبداً " بقيادة احد أبنائها ، (كرينياس) الذي تخلص منه الأثنيون منذ وقت ليس ببعيد . في هذا الجو من القنوط الوطني . كثرت الأحقاد وتعددت حوادث تصفية الحسابات لكن العدالة ظلت تعمل والقضاة في أثينا ، وعددهم ستة الاف ، مواطنون متطوعون يجري إخبارهم سنوياً بشكل عشوائي . وهم يوزعون ، بعد الاختيار، في اثنتي عشرة محكمة في كل واحدة منها خمسمائة قاض وقاض .
متهم اليوم شيخ ذو لحية بيضاء وثياب رثة . انه ابن النحات (سوفرونيسك) والقابلة (فيلا ريت) وهو الملقب (بسقراط ).
لكن ما هي التهمة التي سيحاكم اليوم على أساسها؟ لقد اتهمه احد المواطنين ، ويدعى (مليتوس) ، بالكفر بالآلهة وبإدخال شياطين جديدة إلى المدينة وإفساد الشبيه . وهي تهمة تستحق عقوبة الموت .
ومن هو سقراط هذا ؟ انه رجل بلغ السبعين من عمره ، قبيح المنظر بعينية الجاحظين وانفعه الأفطس ووجهة الممتلئ ناهيك عن ثيابه المهملة والمكونة من معطف صوفي لا أزرار له ولا حزام . وفوق كل ذلك ، فأنه لا يمشي إلا حافي القدمين ، في الصيف كما في الشتاء .
في بدء الجلسة ، ولم يكن في نظام المحاكمات آنذاك ما يسمى اليوم بالادعاء العام ، وقف المدعي الأول (مليتوس) يتكلم عن مفاسد سقراط في المجتمع . وأعقبه مدعيان آخران (ليكون وانيتوس) وكلهم طلبوا الحكم بالإعدام على " العجوز الشرير " . (ولانيتوس) هذا مبرر آخر للادعاء على سقراط فقد كان ابنه تلميذا من تلاميذ الفيلسوف و " مضللاً به " وهذا ما يفسر انشغاله عن صنعه أبيه وهي الاتجار بالجلود . يضاف إلى ذلك أن سقراط تهكم عليه مرة أمام الناس خلال مناقشة ظهر فيها الجاهل وحديث النعمة على قدر كبير من السخف . ومن سوء طالع العجوز أيضا ، أن (كرينياس) ، المستبد الدموي والعميل لإسبارطة ، كان من بين تلاميذه ، في فترة من فترات حياته . اتخاذه كريتياس وآخرين غيره ممقوتين في مجتمعهم تلامذة له هو من قبيل انفتاحه على الجميع ودون النظر إلى أرائهم السياسية والفلسفة أو إلى نمط الحياة التي يعيشون . وإذا توخينا الاختصار ، قلنا إن سقراط ، بأفكاره ومناقشاته ، بدأ يصبح شخصاً مزعجاً ، ليس للسلطات فقط ، بل للآباء الذين رأى بعضهم أبناءه يخرجون عن طاعته ويلحقون بالمعلم.
بعد انتهاء المدعين الثلاثة من كلامهم ، جاء دور المتهم . ومن إجراءات المحاكمة الأثينية في ذلك العصر أن يتولى المتهم شخصياً الدفاع عن نفسه . وإذا كان غير قادر ، فان محترفاً يقوم بتلقينه الدفاع وتحفيظه إياه عن ظهر قلب . ويجب أن يستغرق الوقت الذي استغرقه الادعاء لا أكثر .
بدأ سقراط دفاعه برد التهم ومن ثم ، بالانتقال إلى الهجوم ، قال إن من يدعي العلم ، من بين كل من ناقشت وحاورت ، إنما هم جهلة ولا يفقهون من العلم شيئاً والحقيقة هي إني أعلم الناس . ذلك لان الناس يعتقدون إنهم يعرفون شيئاً وهم، في الواقع، لا يعرفون أي شيء. أما أنا فأني اعرف إني لا اعرف.
وانتهى سقراط بتحذير القضاة من الحكم عليه بالموت . وأن فعلوا فإنهم لن يجدوا مثله وسيغرقهم الإله والاثنيين في سبات ابدي . أما إذا لم يفعلوا فسيعود إلى نشر أفكاره كما فعل دائماً وكما أوحى له ضميره.
لم يستدر سقراط عطف القضاة كما يفعل عادة المتهمون الماثلون أمام مثل هذه المحكمة . لقد قال ما قاله وجلس دون أي انفعال. أما القضاة ، فقد بدأوا ينزلون المدرج ليضع كل واحد منهم حكمة في الصندوق . هذا الاقتراع هو أولي . انه ينحصر في تقرير تجريم أو عدم تجريم المتهم.
قضت نتيجة التصويت بتجريم سقراط بفارق بسيط في الأصوات : 281 صوتاً ضد 220 . ويقتضى القانون الأثيني ، في هذه الحال ، أن يعين المتهم نفسه العقوبة التي يراها هو مناسبة له . وقف سقراط وأعلن انه يسره أن تتعهده( البريتانية ).... وتعالى الصخب وصياح الاستنكار من الحضور الذين رأوا في كلامه تهكماً وسخرية من هيئة المحكمة ومن كل الموجودين . ذلك لان البريتانية مؤسسة أثينية تتعهد عظام الرجال وتتولى تأمين معيشتهم بشكل لائق وكريم .
ما أن سمع القضاة كلام سقراط ، حتى قرروا أن يصوتوا بأنفسهم على نوع العقوبة ومستواها . نزلوا ثانية إلى حيث الصندوق وصوتوا على أن يكون الحكم بالإعدام هو الجزاء الذي يجب أن يناله سقراط وذلك بأغلبية كبيرة . لقد أوقع الرجل نفسه في التهلكة بعد أن كان يمكنه أن ينقذها بتصرف آخر. فقد أكد للجميع انه يسعى للموت بكل رغبة وحماس .
مضى شهر على صدور الحكم . أما طريقة التنفيذ فهي الأسهل من بين لائحة لا يخلو بعض بنودها من العنف :
تجرع كمية من سم يحضر خصيصاً للمناسبة .
خلال هذا الشهر . جاءه (كريتون ) احد تلامذته المخلصين ، عرض عليه أن يقبل الهرب من السجن ، بعد أن يتدبر كريتون أمر رشوة الحراس ، فرفض سقراط قائلاً بوجوب احترام العدالة وقوانينها ، حتى ولو كانت هذه القوانين جائزة .
هذا الشهر الذي فصل بين صدور الحكم وتنفيذه ، أمضاه سقراط بهدوء أدهش المتصلين به من حراس ونزلاء . أما لماذا ابقي شهراً كاملاً ينتظر مصيره ، فهذا يعود إلى أن تنفيذ أحكام الإعدام لم يكن مسموحاً به في الشرائع الدينية آنذاك إلا بعد عودة الكهنة من جزيرة ديلوس .
وفي اليوم التالي لهذه العودة ، تجمهر تلامذته في السجن ووصلت زوجته . وما أن رأته والحراس يفكون أصفاده تمهيداً للإعدام، حتى أجهشت بالبكاء ونتفت شعرها ومزقت ثيابها:
-آه يا زوجي ! هذه أخر مرة تتكلم وأخر مرة ترى فيها أصدقاءك ! .. تأثر سقراط وطلب إليها أن تذهب . ثم التفت نحو أصدقائه وبدأ يحدثهم ويتناقش وإياهم في مواضيع مختلفة في الفن والموت والروح .... وبينما هو كذلك ، إذ بالجلاد يقاطعه :
-لا تتحرك كثيراً يا سقراط ، وإلا يفقد السم مفعوله وللمرة الأولى ينفعل سقراط ويقول للجلاد:
-لماذا لا تضع كمية مضاعفة ؟ هذه مهنتك .
وعاد إلى التحدث مع تلامذته الذين لم يتمكنوا من إخفاء إعجابهم ودهشتهم . لقد استطاع هذا الإنسان أن ينتصر على غرائزه وعلى مخاوفه . وعندما اقترب الوقت المخصص لتجرع السم ، دخل سقراط غرفة مجاورة ليستحم وهو يقول :
-أريد أن أوفر على النساء تنظيف جثة ميت . طال الاستحمام والجلاد ينتظر على الباب . ولما خرج سقراط ، اقترب منه الجلاد وفي يده كأس السم . قدمه إليه وقال له :
-سقراط اعرف انك لن تشتمني كما يفعل الآخرون . أنت عاقل وتستطيع أن تتحمل قدرك .
-مرحى لك ! هيا . ماذا علي أن افعل ؟
-لا شيء سوى خطوات قليلة بعد التجرع . وعندما تشعر بثقل في ساقيك ، عليك أن تستلقي والباقي يتولاه السم نفسه .
وتناول سقراط الكأس وتجرعه دفعة واحدة بكل هدوء . لم يتمالك تلامذته مشاعرهم فانفجروا يجهشون بالبكاء مثيرين غضب المعلم:
-ماذا تفعلون ؟ لقد أمرت زوجتي بالرحيل حتى لا أرى ما يشبه مظاهر الضعف هذه أريد أن أموت بصمت الخشوع . فتمالكوا مشاعركم .
وصمت الجميع فوراً . بعدها استلقى سقراط كما أشار جلاده . وجاء الجلاد يقيد رجليه ويقول له :
-هل تشعر بشيء؟
-كلا
وطفق الجلاد يشرح للحاضرين أن الموت يصل إلى القلب بعد أن تبلغ البرودة الرجلين والبطن.
وعندما شعر سقراط بهذه البرودة تصل إلى بطنه ، أشار إلى تلميذه المخلص كريتون بالاقتراب ليقول له بصوت ضعيف :
-كريتون ، في ذمتنا (ديك لا يسكولاب) . ادفع له ثمنه دون نقاش .
-حاضر يا سيدي . هل تريد شيئاً آخر ؟
لم يجب سقراط . لقد أغمضت عيناه ...
" ديك لايسكولاب " إنها لا شك عبارة أراد بها سقراط التهكم على اله الطب . لم يوفر سخرياته على الآلهة ، حتى وهو على وشك أن يموت ! وما الموت بالنسبة له ؟ اليس هو التحرر ؟ اليس الشفاء من مرض هو الحياة ، كما كان يردد دائماً ؟
هذه الجملة التي قالها سقراط قبل موته ، والتي تمثل التشاؤم الهادئ والساخر بأبرز معانيه ، كانت عبارة رسالة من أول رجل أعدم في التاريخ بسبب أفكاره .
ومازال سقراط الذي يمكن اعتباره أبا الفلسفة الغربية، شخصية يكتنفها الغموض بشكل عام؛ وذلك عائد، ربما، إلى أنه لم يترك لنا أي أثر مكتوب. فقد عرفناه إما من خلال المشنعين عليه (كأرستوفانس) في كتابه (السحب الجشاء Les Nuées)، الذين صوروه كشخص مثير للسخرية أو كسفسطائي خطير، أو من خلال أتباعه المتحمسين (ككسينوفانس وأفلاطون وأرسطو)، الذين صوروه، وفق المنقول المعروف، كـموقظ استثنائي للنفوس وللضمائر. لذلك نرى أفلاطون (الذي كان تلميذه) طارحًا عقيدته على لسانه؛ فسقراط كان بطل معظم حوارات هذا الأخير. من تلك الحوارات الأفلاطونية نذكر تحديدًا بـدفاع (سقراط وفيذون) اللذين ترد فيهما كل المعلومات المتعلقة بحياة أب الفلسفة وموته. ونتذكر هنا، للطرافة، ما جاء على لسان (ألكبياذس )في نهاية محاورة المأدبة، حين قارن بين قبح سحنة سقراط العجوز وبين جمال أخلاقه، مشبهًا إياه بالتمثال المضحك لسيليني الذي كان يتوارى خلفه أحد الآلهة.
كلود دي فال
اللص الشهم
رغم ذكاءه الشديد، لم يعتن والده بتعليمه ومن هنا آثر (كلود دي فال ) أن يعتمد علي نفسه، ويكسب قوته من عمل يده وهو في سن الثالثة عشرة من عمره، فسافر إلي ( روان ) عاصمة (نورماندي ) حيث اشتغل ببعض الأمور البسيطة، ولكن سرعان ما راودته فكرة السفر إلي انجلترا، وكان قد أصبح في الثامنة عشرة من عمره حيث التحق بالعمل كرئيس للخدم عند أحد السادة الانجليز، وكان ذلك في عام 1660م. وهو الوقت الذي عاد فيه الملك شارل الثاني ملكا علي انجلترا، وكانت هناك الكثير من الاحتفالات بهذه المناسبة، مما دفعه للمشاركة فيها عن طريق ارتياد بعض الحانات حيث تعرف علي بعض المقامرين واللصوص الذين أعجبوا بذكائه، واقترحوا عليه أن يترك وظيفته ويشتغل قاطع طريق، فهذه المهنة ستدر عليه الكثير من المال بلا تعب....
ووافق علي هذه الفكرة بلا تردد. فمهنة اللصوصية تحتاج إلي ذكاء وهو لا ينقصه الذكاء، وتحتاج إلي روح المغامرة وهو لا تنقصه هذه الروح...
وكانت له بعض المغامرات التي تتسم بالطرافة ،فهو يحب الموسيقي والرقص، ويعجب بالجمال.
فقد علم أن أحد النبلاء الانجليز سوف يسافر مع زوجته الجميلة ومعه أربعمائة جنيها ذهبيا، ورسم الخطة لمهاجمة هذا النبيل وزوجته وسرقة ما معهما من الأموال....
واصطحب معه خمسة من عصابته من الرجال الأقوياء وتربصوا بالعربة التي تحمل النبيل وزوجته، وما أن وصلت العربة حتى أوقفوها وأحاطوا بها من جميع النواحي.
تماسكت زوجة النبيل الجميلة، وتظاهرت بأنها لا تخشي هؤلاء اللصوص، وأخرجت (الناي) وأخذت تعزف عليه.....
وكان (دي فال) محبا للعزف علي هذه الآلة، بل أنه يحملها معه في كل مكان، وما كاد يسمع الموسيقي المنبعثة من العربة، حتى أخرج هو الآخر (الناي) وأخذ يعزف عليه، ثم تقدم للعربة وقال للنبيل.
إن زوجتك تعزف علي الناي بمهارة، واعتقد أنها تجيد الرقص أيضا، فهلا سمحت لها بالترجل من العربة ومنحي شرف الرقص معها. وافق النبيل خوفا من العصابة، ورقصت السيدة مع اللص تحت ضوء القمر.
وعندما انتهيا من أداء الرقصة، ذهبت السيدة إلي العربة، وأمسك اللص بذراع زوجها قائلا له.
لقد استمتعت بلا شك بالموسيقي وأرجو أن تدفع ثمن هذا الاستمتاع..
وافق الزوج وأعطاه مائة جنيه من الذهب ،وابتسم اللص الظريف وقال للنبيل:
لقد أنقذت بهذا المبلغ المال الذي معك، والذي تحتفظ به تحت مقعدك، وودعهما اللص بعد ذلك.
ويروي عنه أنه كان في انتظار العربات التي تمر بأحدي الطرق، وكان قد قسم عصابته إلي جماعات تراقب الطريق، وجدت أن أحد هذه الجماعات استوقفت عربة، وكان بالعربة سيدة وطفلها الرضيع، وقد أخذ زعيم العصابة (بزارة) الطفل ولم يأبه لصراخ الطفل وتوسلات الأم، وعندما علم بذلك (دي فال) تقدم إلي الرجل وصفعه علي وجهه، وأخذ منه (البزازة) ووضعها في فم الطفل بحنان، واعتذر لأمه ، وما أكثر الحكايات التي كان بطلها هذا اللص الظريف....
مرت الأيام.. وإذا به يشاهد خادم الملك في غابة (وندسور) الذي يدعي (روبر).. وكان (روبر) هذا قريبا من الملك شارل الثاني. ولكن (دي فال) قرر أن يسرق ما معه من نقود وأن يسرق ملابسه أيضا، مما جعل القصر الملكي يهتم بهذه الحادثة، وصدر الأمر الملكي بالقبض علي هذا اللص بأية وسيلة، مما جعل (دي فال) وقد وجد أن هذا الأمر في غاية الجدية، وأنه سوف يقبض عليه ويقدم للمحاكمة، وآثر الهرب من انجلترا، إلي فرنسا وطنه الأصلي.
وفي فرنسا قرر أن يمارس النصب. وأن يبتعد عن ممارسة عمله كقاطع طريق، حيث أن هذا الأمر يبدو صعبا في فرنسا.
وعلم أن أحد القساوسة الجزويت مقرب إلي ملك فرنسا، وله منزلة كبيرة عنده، ولا يرد له طلبا، كما علم أن هذا القسيس شديد البخل، وأنه حريص علي جمع المال.. ومن هنا فقد أخذ (دي فال) يفكر في طريقة يأخذ بها أموال هذا القسيس، وهداه تفكيره إلي أن يدعي بأنه درس علم الكيمياء، وباستطاعته تحويل النحاس إلي ذهب ، بواسطة مسحوق لا يعرف سر تركيبه غيره، وأنه درس علم الكيمياء في روما وفينيسيا.
وقال له القسيس: إن الملك في حاجة إلي هذا الاكتشاف بشرط أن يري بعينيه هذه التجربة ، ووافق النصاب علي ذلك، بأن يحضر إلي منزل القس، ويقوم أمامه بالتجربة.
أحضر النصاب بوتقة ألقي فيها ببعض قطع من النحاس بعد أن فحصها القسيس جيدا، ووضعها علي النار، وكان (دي فال) قد أحضر عصا طويلة مجوفة، ووضع بداخلها بعض القطع الذهبية، وأخذ يحرك النحاس لإذابته بالعصا، ولشدة الحرارة ذاب الذهب الذي بالعصا، وسال منها علي البوتقة، وظل يحرك السائل بعصاه، وبعد وقت انصهر النحاس فلم يبق منه إلا رواسب لا تكاد تذكر، بينما سال الذهب المخبأ في العصا المجوفة إلي حبيبات ذهبية صغيرة تلمع في البوتقة....
ويقول مؤلف كتاب (من أشهر المحاكمات التاريخية):
كان سرور القس بنجاح التجربة لا يقدر، وأخذ يقبل (دي فال) ويحتضنه، فقد اقتنع الآن تماما بأنه قد اكتشف السر الأعظم (تحويل المعادن الرخيصة إلي ذهب).. ولم يكن يسمح له بالغياب عن نظره لحظة واحدة وأخذ في التودد إليه، والتقرب منه حتى أنه أطلعه علي جميع ما يحويه منزله من كنوز وأموال وتحف وجواهر....
وتظاهر (دي فال) بالوفاء الشديد للقس، وكان في دخيلة نفسه يفكر في الطريقة التي يستولي بها علي ماله ومجوهراته بعد أن نجح في خداعه.
وذات يوم نام القسيس بمعمل (دي فال)، وما أن استغرق في سباته حتى تقدم (دي فال) نحوه وكمم فاه، وأوثق يديه، ولم يترك له فرصة للاستغاثة أو المقاومة، ثم استولي علي مفتاح خزانته حيث جمع ما فيها من مال ومصوغات وفر هاربا من المنزل.
وبعد يومين استقل مركبا عاد بها إلي انجلترا، وكانت عودته إلي هذه البلاد من أكبر الأخطاء التي ارتكبها، إذ أن البحث عنه كان لا يزال جاريا.. وقد امتلأت الجدران بأوصافه، وبالإعلان عن جائزة مالية لمن يرشد عنه، فقبض عليه بعد شهر من وصوله إلي لندن في حانة (هول).. وحقق معه، وقدم للمحاكمة فقضت بإعدامه، وأعدم في 21 من يناير سنة 1679....
محاكمة جاليليو
تقدم للمحاكمة وسجن لأنة قال ( أن الأرض تدور حول الشمس )
كان جاليليو أحد كبار علماء الفلك والفيزياء.. وحقق العديد من الاكتشافات الفلكية الهامة، عندما اخترع التليسكوب الإنكساري، ومن خلاله اكتشف أربعة أقمار تدور حول المشتري، كما أنه اكتشف قانون الأجسام الساقطة الذي يقول ( أن جميع الأجسام تسقط بنفس السرعة بغض النظر عن كتلتها..)
وقد درس جاليليو بجانب الفلك الطب والرياضيات مما أهله لأن يكون أعظم عالم في القرن السادس عشر الميلادي.
ومع ذلك فإن هذا العالم الكبير قدم للمحاكمة، وعرف ظلام السجن، وخاف من التعذيب، فأنكر ما قاله علي أن الشمس هي محور الكون، وليس الأرض، وأن الأرض تدور حول الشمس، وهذا يخالف رأي الكنيسة التي أتهمته بالهرطقة ومحاكمته....
وقد قال عنه أحد من أرخ له: في يوم واحد مشهود غرب نجم من ألمع النجوم في سماء الفن، وأشرق آخر في سماء العلم، نجمان قدر لهما أن ينيرا العالم بشعاعين ساطعين متعادلين.
ففي الثامن عشر من فبراير 1964م توفي مايكل أنجلو بوناردتي في روما، وولد ( جاليليو جاليلي ) في ( بيزا)
وكان جاليليو البكر بين خمسة أولاد، وعلمه والده أن يعزف العود والأرغن، وظهرت براعته في الرسم والشعر، واللغتين اللاتينية واليونانية ثم اتجه إلي دراسة الطب والرياضيات ولكن لوحظ أنه لا يتفق مع كل أراء أرسطو التي كانت تعتبر أرائه مقدسة في هذه الحقبة الزمنية. وبدأت مواهبه العلمية تبرز للعيان، وبدأ الناس يتحدثون عن اختراعاته وخاصة التليسكوب الانكساري الذي كان بإمكانه رؤية السفن البعيدة، والفضاء الخارجي وقد وجد أن سطح القمر جبلي، وأن المجرة تتألف من عدد هائل من النجوم مزروعة معا في تكتلات وأن كوكبه الجبار (أو الصياد) تشمل ما يزيد علي الخمسمائة نجم لا سبعة فحسب، وأكتشف سنة 1610م أقمار المشتري الأربعة الكبيرة، ولاحظ أنها تلف حوله، وخلال السنة نفسها اكتشف حلقة زحل ووجوه الزهرة وكلف الشمس.
وبدلا من أن يصفق علماء عصره له، اتهموا تليسكوبه بأنه يري أشياء لا وجود لها.
كتب أحدهم:
ومن السخف حقا أن يقال أربعة كواكب (أقمار المشتري) تتبع بعضها البعض الآخر حول كوكب كبير. إن الملائكة هي التي تجعل زحل والمشتري والشمس تدور. ولو كانت الأرض تدور لكانت بحاجة إلي ملاك في المركز ليحركها، فلو كانت الشياطين هي التي تعيش هناك فحسب لنتج عن ذلك أن شيطانا رجيما يكسب الأرض حركتها.
إن الكواكب والشمس والنجوم الثوابت كلها من نوع واحد يعني من نوع النجوم ولذا فإما أن تكون في حركة كلها أو في سكون كلها.. يتضح من ذلك أنه من الخطأ الفادح أن نعتبر الأرض، وهي حضيض من الفساد، واحدا من الأجرام السماوية التي هي كائنات إلهية طاهرة!!'
وهكذا استطاع جاليليو أن يحرك ركود الحياة العلمية، محاولا أن يحرر العلم من سطوة الكنيسة، ولكن الوضع كان أكبر منه، خاصة عندما ألف كتابا عن الأجسام الكافية، والكلف البادي علي سطح الشمس، وحديث في المد والجزر.. كل ذلك أثار الناس ضده، حتى أنه سافر إلي روما ليقدم التماسا بالاعتراف بالنظام الكوبرنيكي ، وليدافع عن أرائه التي تعارضها الكنيسة الكاثوليكية: قائلا: 'إنني أميل إلي الاعتقاد بأن القصد من سلطة الكتاب المقدس هو إقناع الملأ بالحق الضروري لخلاصهم، هذا الحق الذي يسمو كثيرا فوق إدراك البشر، فلا يمكن أن يزيد أي تعليم في إمكان التصديق به، ولا يتم ذلك إلا بوحي من الروح القدس ولكن يبدو لي أنني غير مدعو لأن أومن بأن الإله نفسه الذي منحنا الحواس والعقل والإدراك لا يسمح لنا أن نستعملها، وأنه يرغب في أن يعرفنا بأية طريقة أخري مثل تلك المعرفة التي بمقدورنا أن نصل إلي معرفتها بأنفسنا عن طريق ما منحنا إياه من قوي. وخاصة في تلك العلوم التي لا تشمل الكتب المقدسة إلا النذر اليسير والأقوال المتباينة عنها. إن هذا هو الحال مع علم الفلك، إذ لا يوجد عنه إلا القليل النادر حتى أن الكواكب لم تذكر بكاملها.
ولكن الكنيسة لم تأبه له. ومنعت الكتب التي تقول بصحة النظام الكوبرنيكي (الشمس لا الأرض هي مركز النظام الشمسي، وأن الأرض تدور حول محورها وهذا يسبب الليل والنهار، ودوراتها حول الشمس هم السبب في تغير الفصول).
وعندما ظهر كتابه (المحاورة) سنة 1632م، أثار حوله خصومه، واستدعي من قبل محكمة التفتيش للدفاع عن نفسه ضد اتهامه بالهرطقة وكان الرجل قد أقترب من السبعين من عمره، إنسان مهدم الجسم، محطم الروح، مرهق النفس، وكان يخشي هذه المحاكمة، لأنه يخشي السجن والتعذيب ، حتى أنه كتب لأحد أصدقائه يقول:
تزعجني هذه القضية لدرجة أنني أشتم الساعات التي صرفتها في هذه الدراسات التي جاهدت فيها، ورجوت منها أن أتجنب سلوك الطريق التي اعتاد أن يسلكها العلماء، ولست بالنادم فحسب علي أنني أعطيت للعالم بعض ما كتبت، ولكنني أشعر بالميل إلي التخلص ما لا يزال بين يدي منها فأرمي بها إلي النار لتحترق، فأشبع رغبات أعدائي الذين تضايقهم أفكاري لهذه الدرجة.
وذهب الرجل إلي روما محمولا علي نقالة وأودع السجن، حتى يمثل أمام محكمة التفتيش، وأمام المحكمة طلب أن تعامله المحكمة بالرأفة لمرضه وشيخوخته وقالت المحكمة أن القول بأن الشمس هي مركز العالم وبأنها لا تتحرك من مكانها أمر محال وهو فاسد فلسفيا، وهرطقي شكليا لأنه مخالف صراحة، للكتاب المقدس.. إلي أخر ما جاء في هذه المحكمة.. حكمت عليه المحكمة بالسجن الرسمي التابع لهذه الهيئة المقدسة لمدة وفق اختيارنا.. كما أننا نطلب منك علي سبيل التكفير المحمود أن تتلو (مزامير الندامة) مرة كل أسبوع في السنوات الثلاث القادمة.
وقد تبرأ جاليليو من أرائه قائلا:
'أنا المدعو جاليليو جاليلي، ابن المدعو فنشنزو جاليلي من سكان فلورنسه، في السبعين من عمري.. أقسم أنني قد آمنت دوما، وأنني بعون الله سأؤمن في المستقبل كذلك، بكل ما تعتقده الكنيسة الكاثوليكية الرسولية في روما، وبكل ما تعلمه وتبشر به.. وبكل قلب مخلص وإيمان لا يتزعزع أتبرأ من ا لأفكار والهرطقة المذكورة وألعنها وأمقتها، كما أعلن إنني آخذ الموقف نفسه تجاه أية أخطاء قد تقع أو طائفة أخري تخالف تعاليمها تعاليم الكنيسة المقدسة المذكورة، وأقسم بأنني سوف لن أصور في المستقبل شفويا أو كتابة عما قد يثير شبهة مماثلة في كما أنني أشهد أمام هذه الهيئة المقدسة علي كل هرطقي أو مشبوه إذا ما عرفت بمثل ذلك'
وعاش بعد ذلك في بيته سجينا، علي ألا يستقبل الأصدقاء، أو يسمح باجتماع الكثيرين في آن واحد'
وفقد الرجل بصره، وقال معبرا عن حالته تلك: إن هذا الكون، وهذه الأرض، وهذه السماء التي كبرت أبعادها مئات ألوف المرات أكثر مما اعتقده حكماء العصور السابقة، بفضل اكتشافاتي العجيبة وبراهيني الواضحة، قد بات مقصورا، بالنسبة لي، علي الفضاء الصغير التي تملؤه حواسي الجسيمة'.
يقول مؤلف كتاب (مشاهير العلم)
'كان جاليليو قد طلب الدفن في مقبرة العائلة في (سانتا كروتش ) في فلورنسه، وقد نادت البلدة فورا بإقامة جنازة رسميه ، وبتخصيص ثلاثة آلاف كرون لمدفن رخامي، ولكن الكنيسة في روما منعت ذلك خوفا من أن يقوي ذلك من عقيدة جاليليو، وقاموا بدفنه في ركن متواضع من (دل فوفيشيانو)، وهي كنيسة جانبية في (سانتا كروتش) ولكن في الثاني من آزار سنة 1737م أي بعد مضي قرن ، نقلت رفات جاليليو باحتفال عظيم، إلي مدفن جديد في سانتا كروتش، حيث دفن مع صديقه فيفياني، وشيد صرح ضخم فوق لحده، وأعترف بصحة معتقدات جاليليو ، وأن كتبه المنشورة في ستة عشر مجلدا ، لم تعد محرمة من قبل الكنيسة كما كانت في حياته'.
وهكذا تخلي أحد كبار علماء الفلك والفيزياء عن علمة وأرائه بل وتبرأ منها لأنة كان يخشي المحاكمة، ويخشي السجن والتعذيب....