في الربيعِ فتحتُ عيوني
|
كصبحٍ فتيّ الرموشِ إلى الشمسِ
|
أنهلُ من نهدها المشتهى كالرضيعِ
|
وقد ضمّدت جسدي
|
بقماطِ الطفولةِ أمّي
|
وراحت تهزُّ جماليَ في المهدِ
|
مثلَ اهتزازِ المراجيح ِتحت َغصون ِالشجرْ .
|
..
|
لم يكد صوتُ ترنيمةِ المهد ِ
|
يُسكرني بالموسيقى
|
ويسحرُ سمعي غناء ُالعصافيرِ
|
حتى تدلّتْ على ناظريَّ الثريات ُ
|
صافية َالنورِ
|
واستغرقتني سماء ٌمن الزقزقاتِ
|
فأزهرَ قلبي كبرعم ِلوزٍ وسُرْ .
|
..
|
كانَ نهر ُروائح َيرحلُ بي فائح َالعطرِ
|
بين روابي الطفولة ِ
|
حيثُ الشموسُ التي طلعت ْ شهوتي
|
من صباحاتها كالطيورِ
|
ولونُ السماء الحليبيّ
|
صافٍ كماء ِالبحيراتِ
|
تسلبُ ألوانهُ الزرقُ شمسَ البصرْ .
|
..
|
لم تكن بعد ُرؤياي َغير عصافيرَ
|
تزقو على الغصنِ
|
ما نبتتْ في يديَّ البراعمُ
|
كي أشتهي القطفَ
|
لكنَّ تفاحةَ المشمشِ المشتهى في النهودِ
|
استدارت لعينيْ
|
كما يستديرُ لناظرِ طفلٍ
|
جمال ُالقمرْ .
|
..
|
فرأيتُ عناقيدَ أينعها الصهد ُ،
|
سكرى ، على أمِّها في التشهي
|
تسقسقُ تحت غصونِ الأنوثةِ
|
فاندلعَ اللوزُ في جسدي كالوحام ِ،
|
وراحت ثعالبُ أوردتي
|
تتراكضُ زرقاءَ فوق المروجِ
|
التي رعرعتني بأنسامها كالربيعِ
|
إلى أن تلاشى انحلالُ الشموسِ بماء ِالمطرْ .
|
..
|
وسمعتُ احتكاكَ الجذوعِ بناهدِ ريحٍ
|
تراهق ُ مثل غزال ِالينابيعِ
|
فارتعشت نشوتي كالنوافيرِ
|
في الأمسياتِ
|
وراحت تعضُُّ على رغبتي
|
خوخة ُالنهد ِتاركة ً
|
نقطة َالعسل ِالعذب في شفتي القانيه .
|
..
|
فجأةً طاشَ قلبي كالقشعريرةِ
|
بين الشرايين
|
حين تنزّلَ فوقي زقاءُ النهودِ
|
التي ضوّأتها الأنوثة ُمثل القناديل ِ
|
فاستسلمتْ شهواتي لتفاحِ زهرِ الصدورِ
|
إلى أن غدوتُ ضريراًً لمرآهُ
|
وهو يطيرُ كغيمة ِصيف ٍمورّدة اللونِ
|
فوق جوانح ِنَهرْ .
|
..
|
فانحنيتُ أعبُّ ُالنبيذَ من النبعِ عبّا ،
|
وأرضعُ من ثدي والدتي الأرض سرَّ الحياةِ
|
ولكنني ما ارتويت ُ
|
فرحتُ حزينَ الرؤى أتأمّلُ أسرارها
|
مثلما يتأمّلُ سكران ُ
|
سرَّ النبيذ ِالمعتّقِ في الخابيه
|
..
|
وكما يستحمُّ ُجمال ٌبجدولِ أنثاهُ
|
فوقَ بحيرة ِصبحٍ
|
سمائي استحمّتْ بزرقتها المشتهاةِ
|
وقد عطَّرتْ جسدي بالرياحينِ
|
رائحةُ الخلق ِ عابقة ً ..
|
وتقوّسَ فوقي بسبعِ شموع ٍملوّنة النورِ
|
قوسُ المطرْ .
|
..
|
فشببتُ كغصنٍ شجيِّ الحفيفِ على جانحِ الريحِ
|
أوّلُ شتوةِ غيم ٍ تبللتُ في دمعها أغرقتني
|
وقد راحتِ الروحُ ترفعُ أفواهها كالرضيعةِ
|
نحو غماماتها العاليه .
|
..
|
وبأوّلِ طلعةِ صبحٍ
|
رأيتُ ابيضاضَ الوجوهِ
|
التي سالَ قلبي على زهرها كالحليبِ
|
رأيتُ الفناجين َمثل رؤوسِ البلابلِ
|
بين شفاهِ النساءِ المدمّاةِ كالوردِ ..
|
والرشفاتُ تأوّهُ ماءِ النوافيرِ
|
في مشهدِ الغيمةِ الباكيه .
|
..
|
زهرةً .. زهرةً
|
كان قلبي ينبتُ بين الشتولِ
|
وباصرتي تستديرُ كعبّاد ِشمس ٍ إلى النورِ
|
طيرانِ طفلانِ كانا على كتفيّ يهزّان ِكالوترينِ
|
أغاني الصباح
|
فتسقط ُفوقي الحروفُ الصغيرةُ
|
مثل الحصى
|
والقصيدةُ تعلو عليّ
|
كما يتعالى هلالٌ صبيٌّ على ساقيه .
|
..
|
حينها انسابَ خيط ُ نسيم ٍ رقيقِ الأسى
|
عبر صدغيْ ،
|
وبصّرني الثلجُ ما يُشتهى في النساءِ
|
وما يتنزّلُ في سلّةٍ من سحابٍ عليّ
|
إذا أسكرتني نهودُ امرأهْ ..
|
وبريحانها حملتني كعطرٍ إلى أول الرابيهْ
|
* * *
|
آخر الصيفِ
|
رحتُ كطفل ٍشقي ٍّ أذوقُ الثمارَ التي طعمها طابَ ..
|
ألعقُ ما يتحلّب ُمن عسل ِالتينِ
|
كانت خدودُ العناقيدِ ناضجة ً
|
تتلألأ ُتحت دوالي الغروبِ
|
وخمرتها نقطةً نقطة ً
|
تتعتّق ُفي الخابيه .
|
..
|
كنتُ أعتصرُ الخوخَ كالنهدِ في راحتيّ
|
فأشعرُ رائحةَ العشب ِترشحُ من جسدي
|
كشميمِ الصنوبرِ في الحرشِ
|
أشعرُ أنّ الزهورَ استحالت إلى سربةٍ من بلابلَ
|
أنّ السنونو استحالت إلى زقزقاتٍ
|
ومن فرحي نبتت ليَ أجنحة ٌ
|
خافيه .
|
..
|
ذلكَ اليوم لم أدرك ِالصيفَ
|
غيرَ حساسين َسكرى بأصواتها في الغصونِ
|
ولكن رأيتُ الغدائرَ سارحةً في مهبِّ الأنوثةِ كالهدهداتِ
|
رأيت ُالسفرجل َأبيض َفوق حقولِ الطفولةِ ،
|
والأرض َضاحكةً
|
تستحم ُّ على حجرِ الصبحِ مثل الصبيّة ِ
|
تاركة ًشعرها ليسيلَ سنابلَ في آخرِ الأوديه .
|
* * *
|
في الخريفِ جلست ُكحطّابِ حزنٍ
|
على بابِ بيت ٍقديمٍ
|
أراقبُ أرضَ الحصيد ِالحزينةَ
|
ساكنة ًفي أفول ِالشموس ِالكئيبْ !
|
..
|
صارَ ماءُ الجداولِ دمعاً لتفسيرِ حزن العيونِ
|
وصوتُ الرياح ِموسيقى معذبةَ القلبِ
|
تبكي على شجرِ الحورِ
|
صارت زهورُ الحديقة ِأجراسَ نعيٍٍ
|
ترن ُّبرجع ٍكئيب ْ !
|
ها هي اليوم ترحلُ عني الطيورُ الرواحلُ
|
وهي تصفّقُ يائسةً كأغاني الوداعِ ..
|
وترجع نحوي الغيومُ الرواجعُ
|
ممطرةً من مراضعها
|
لبناً للغريب ْ !
|
..
|
غابتِ الشمس ُخلف سماءٍ مقمّطة ٍ بالدموعِ
|
ورانَ الأسى في الجبالِ
|
وقوسُ الهلالِ المقدّسِ تحت أساهُ السماويّ
|
يسبحُ مستغرقاً في سبيلِ المغيب ْ .
|
..
|
لم أرَ العمرَ إلا تعاقبَ فصلين ِ
|
شمسُهما دمعةٌ تتألّقُ في القلبِ ،
|
والأرضَ غيرَ معاطشَ أفواهُها
|
تتشقّقُ ظمآى
|
لتلقفَ كالقبرِ ثديَ الحياة الحبيبْ .
|
* * *
|
أوائلَ فصل ِالشتاءِ
|
شعرتُ بروحي تنحلُّ في مطرٍ دامعٍ
|
وتسيلُ كماءِ الميازيبِ صافيةً كالدموعِ
|
وقلبي استحالَ جداولَ مملوءة ًبالحليبِ
|
تخوّضُ في كلّ حقلٍ لريّ الربيعِ
|
ونفسي سكرى ، مؤنّثة ، تحت قوس القزحْ .
|
..
|
وشعرت ُبأنّ السحابَ المسافرَ يأخذني من يدي
|
إلى اللهِ
|
وهو يصب ُّعلى الكونِ ماءً قراحاً
|
ويجلسُ مبتهجاً في سماءِ الفرح ْ .
|
..
|
مشمسٌ جسدُ الصبح ِبين الينابيعِ كان ،
|
الطبيعةُ كأساً فكأساً
|
تصبُّ نقيعَ الغيوم ِعلى العشبِ
|
والصحو تضحكُ أقداحُهُ في فضاءِ المرحْ .
|
..
|
فأحسُّ بنفسي تذوب ُ
|
كقطعةِ ثلجٍ بماءِ القدحْ .
|
..
|
ناظراً نحو باصرةِ النورِ
|
في أفقٍ ماطرِ الغيمِ
|
أبصرتُ بقعةَ شمسٍ تزولُ وتظهرُ
|
عند انقشاع ِالغيومِ
|
كما طائر في المغيبِ بكى برهةً وصدحْ .
|
..
|
فجأةً صارَ لونُ الشتاءِ شديدَ الشحوبِ
|
وراحت غماماتُهُ تتلاحقُ ناعبةً في المغيبِ
|
فأدركت ُأنّي هرمت ُ
|
وأنّ المراكبَ تطلقُ أبواقها للرحيلْ !
|
..
|
فرجعتُ غريباً إلى الدارِ
|
يعتصرُ الحزنُ قلبي
|
وتدمعُ مني العيونُ
|
رأيتُ التصاويرَ تبكي التصاويرَ
|
والقبراتِ على أختها القبراتِ
|
رأيتُ الكمنجاتِ قد جوّفتها الليالي
|
وحزناً عميقاً يحدّبني فوق صدرِ الترابِ
|
وديدانهِ الجائعه .
|
..
|
فالحياةُ التي كنتُ أقطعُ أعوامها كالقطاراتِ ليلَ نهارَ
|
استحالت إلى سلحفاةْ
|
ولم يبقَ مني سوى رئةٍ
|
عشّشَ التبغُ فيها
|
وأعضاءَ مثخنة ٍبالجراحِ
|
وقلبٍ يجاهدُ مثلَ حصانٍ عجوزٍ
|
طريقَ الحياة الطويلْ .
|
..
|
ها أنا اليومَ أجلس ُقربَ سريري القديم
|
وقد رقدتْ قرب قلبي الحماماتُ ذابلةَ الريشِ
|
والحزنُ عمّرَ في داخلي
|
أتخيّلُ تلك الغيومَ سلالاتِ حزنٍ
|
مسافرةً كالملاءات ِفي أشهرِ الحزنِ
|
والسنواتِ العتيقةِ أوراقَ حبّ
|
ترفرفُ شاحبةً في حبالِ الأصيلْ
|