ـ 1 ـ
|
أطفأتُ مصباحي لأغفو
|
أيها الليلُ العتيقْ!
|
أطفات مصباحي..
|
أنا حزناً إلى حزنٍ
|
أضمُّ مصاحفي
|
وأغطُّ في نومٍ عميقْ.
|
نمْ هانئاً يا أيها الليل العتيقْ!
|
فأنا أقمتُ صلاةَ وقتي
|
وسكنتُ نوماً لا يفيقْ.
|
ـ 2 ـ
|
أجاهدُ في النفسِ حزناً قديماً
|
وأغلقُ بابيْ..
|
أنا كيفَ أعلنُ عن عزلتي
|
وعلى الباب يبكي غيابيْ؟
|
ـ 3 ـ
|
سكنتُ مع الليلِ
|
إذ سكنَ الليلُ أبكي عليّْ!
|
يدايَ على الصدرِ
|
تلمسُ رجعاً حزيناً،
|
ورأسي ينامُ يتيماً على ركبتيّْ!
|
ـ 4 ـ
|
متدلّياً كشجيرةِ صفراءَ فوق النهرِ
|
قبري تحت أغصاني
|
وأكفاني بقربي.
|
يا أيها الراعي
|
دعِ الأغنامَ ترعى
|
عشبَ أيامي وحبّي!
|
وانهضْ بحزنكَ يا رفيقَ الناي
|
واعزفْ لحنك البالي
|
على أطلالِ قلبي!
|
ـ 5 ـ
|
تعالَ لنصغي إلى الناي يا سامعي!
|
تعالَ لنصغي إلى صوتِ أيامنا الضائعِ!
|
ـ 6 ـ
|
قمري فرخُ حمامٍ ساهرٌ
|
والليلُ سطحٌ للهديلْ.
|
أيها الحبُّ
|
أنا الساهرُ أبكي لحبيبي..
|
وعلى السرو يناجيني الكناريُّ الجميلْ!
|
والشبابيكُ كتابُ العشقِ
|
قد أغلقتها
|
لطفاً بحزني أيها النايُ
|
فقلبي ثقّبتهُ زهرةُ الدمّ
|
وروحي جرّحتها الريح
|
والعشقُ مناديلُ رحيلْ!
|
يا حماماتُ ترفقّنَ بحبي
|
لا تطيري بالهديلْ!
|
ـ 7 ـ
|
وراءَ سياجِ الحديقة تجلسُ عاشقةٌ
|
من دموعٍ
|
لتنصتَ للريحِ تحتَ غصون
|
الخريفْ!
|
تحنُّ إلى الحبّ لكنهُ غائبٌ
|
وتحنُّ إلى الحزنِ
|
لكنه ساكنٌ في أعالي الحفيفْ!
|
وتنسى يديها على راحتيّ
|
إذا أسرفَ الحورُ بالهَدْيِ
|
تاركةً نحلةَ الحبِّ في شفتيَّ
|
تمصُّ رحيقَ النزيفْ!
|
وراءَ سياجِ الحديقةِ
|
طيّبتُ أحزانها بالغناءِ
|
وأهديتها ورقاً (أصفراً)
|
وجمعتُ بمنديلها الحلو
|
كلَّ بكاءِ الخريفْ!
|
ـ 8 ـ
|
يا ليلُ ما أكملتُ أغنيتي
|
ولا شاختْ على عمري المواويلُ!
|
قلبٌ كفيفُ الحزنِ يبكيني
|
إذا رحلوا
|
وفي روحي إذا غابوا
|
تجرّحني التراتيلُ.
|
حطَّ الحمامُ على نخيل الروحِ
|
نواحاً على ثكلٍ
|
فلا انصرفَ الخريفُ بحزنهِ عني،
|
ولا انقطعَ الهديلُ المرُّ عن حزني..
|
ولا مرّتْ على ليلى الأناجيلُ
|
-9-
|
عذراءُ من حزنٍ شفيفْ.
|
جلستْ كسنبلةٍ
|
تراقبُ من نوافذها الخريفْ.
|
عينانِ تنكمشانِ كالعصفورِ
|
في غضنٍ حزينٍ
|
و(أصابع) بيضاءُ
|
تغزلُ في الغروبِ حكايةً من ياسمينْ!
|
عذراءُ يغفو قربها نهرٌ،
|
ويذبلُ في حقيبتها الخريفْ!
|
- 10-
|
على شاطئ البحر عند الغروبِ.
|
تنامُ الحكاياتُ متعبةً
|
ويصيرُ على الموج أن يتأمّلَ مرآته ويذوبْ.
|
يصيرُ على الغيم أن يترحّلَ
|
مثل التماثيلِ بيضاءَ
|
نحو كنيسةِ حقلِ النصوبْ.
|
يصيرُ على الشمسِ
|
أن تستضيء بماساتها الحمرِ
|
والأرجوانِ العتيقِ
|
لتفتحَ محرابها للغروبْ!
|
-11-
|
على مفرقِ الليل تبكي الربابةُ
|
من وحشةِ الناس يائسةً
|
وتدقُ على حائطِ الموتِ:
|
يا أبتي الموتُ
|
لم يبق إلا القليلُ القليلْ!
|
وتعولُ ريحٌ على شجرِ الحورِ مرّ العويلْ.
|
-12-
|
يقعدُ النايُ في الليل مستوحشاً وكئيبْ!
|
يقعدُ الناي في معبدِ الليلِ
|
فرداً سلبياً
|
يجمّعُ كلَّ أغانيهِ من حولهِ
|
كاليتامى
|
ويبكونَ حولَ ضريح الغريبْ!
|
-13-
|
حينَ ماتَ المغنّي
|
بكينا كلانا
|
أنا والربابةُ أختي
|
بكيتُ عليها، تباكتْ عليَّ
|
بكينا على الناي منفرداً في الأغاني!
|
بكينا على جدّنا الشيخ
|
ماتَ وخلّفنا نائحينَ..
|
نغني ككهّانِ ليلٍ عتيقٍ
|
فأختي اعتراها الخريفُ
|
وأيلولُ بالاصفرار اعتراني.
|
-14-
|
على وجهها يا غريبْ:
|
شموعٌ من الآسِ
|
يذرفُ دمعاتها الليلُ
|
فوق كتابِ المغيبْ!
|
ولو كانَ عمري طويلاً
|
لعمّرتُ من هدهداتِ ضفائرها السودِ
|
كوخاً على شجر الكينياءْ!
|
ولو كانَ قلبي حزيناً
|
لمشّطتُ شَعْرَ البكاءْ!
|
وقلتُ تعالي إلى وحشتي
|
يا صغيرةُ
|
إن كلامَ الرياحِ على الحورِ مُبْكٍ!،
|
وأسدلتُ فوق مسائي قميصَ الغريبْ!
|
ولو أن روحي تعزفُ بالناي
|
كوّرتُ من عشبِ روحي عشّاً
|
ليسكنهُ العندليبْ.
|
-15-
|
وما كانَ حزنكَ؟
|
هذا مساءٌ محرّمْ.
|
تدلّتْ عناقيدُ ما كنتُ تهوى
|
وجاءتْ جرارٌ من الخمرِ
|
عتَّقها أنها من تواقٍ مندّمْ.
|
وما كانَ..
|
لو أخذَ النومُ هذا الكرى
|
بمعاقدِ أجفانها سنةً أن تفيقَ
|
فقبركَ كلُّ الفضاءِ
|
وكونٌ من الفضّةِ واللازورد المذّهبِ
|
يرتادهُ الفقراءُ
|
وأعلاه بدرٌ جميلٌ كمريمْ.
|
ولو أنتَ تدري
|
رأيتكَ تحملُ قبريَ،
|
فاحتارَ من أمركَ اليوم أمري..
|
وفاضَ على شفقِ الروحِ
|
شيءٌ من السكرِ حتى الندمْ.
|
وما كانَ حزنكَ أنني
|
من فرقتي أتألّمْ!
|
-16-
|
بكى صاحبي
|
حين أمسك بالناي بعد فراقٍ طويلْ!
|
تذكّرُ مرَّ المواويل،
|
والعشقَ في أولِ العمرِ،
|
والفتيات اللواتي كذبنَ على قلبهِ القرويّ
|
وطيّرنَ قبل أوان الهديلْ!
|
بكى صاحبي!
|
قال: كنت أغازل أنثاي بالناي
|
عند الغروب
|
فعلّمتها وحشتي
|
وتعلّمتُ منها البكاءَ على من أحبُّ،
|
وحزنَ أغاني الرحيلْ!
|
وها قاربَ العمرُ أن ينتهي
|
والعيونُ الكليمةُ تعمى
|
وما زالَ ينحبُ في الروحِ نايُ الرحيلْ!
|
-17-
|
قمرٌ أبيضُ في شرفاتِ الليلِ
|
ونجمٌ يهبطُ أدراجَ الملكوتْ.
|
ما لي من كلِّ الناسِ
|
وروحي تقطفُ من شجرِ العزلةِ
|
أزهارَ الياقوتْ؟
|
-18-
|
سألتُ الحزينةَ عن اسمها
|
وسألتُ اسمها عن كلامٍ حزينْ!
|
***
|
سألتُ أصابعها عن خواتمَ ضائعةٍ،
|
وأساورَ من ذهبٍ وعقيقٍ،
|
فأجهشَ بين أناملها الخمس
|
صوتُ الرنينْ!
|
-19-
|
قمرٌ يغرقُ الليل في الروحِ
|
ثم يلاشيهِ عذبُ الغناءِ،
|
حنينُ الصبايا لأولِ زغرودةٍ
|
طيّر النايُ أنغامها في سماءِ الحماماتِ
|
أنتِ الصلاةُ إلى الأمّ
|
وهي تمسّدُ بالطَّيبِ حزنِ المسيحِ
|
وتشعلُ قنديلها لهلالِ محرّمْ!
|
***
|
أنتِ أيقونةُ الثكل
|
وهي تقطّرُ من فضّةِ الليلِ
|
دمعاتِ مريمْ!
|
***
|
وحساسينُ صبحٍ مغمّسةٌ بالدموعِ،
|
عصافيرُ داشرةٌ،
|
بلبلٌ في غصون الصدى يتألّمْ!
|
***
|
أنت ما يجعلُ الروحَ تبكي على عمرها،
|
والمحبُّ إذا ما قضى نحبهُ.. يتندّمْ.
|
-20-
|
الأفقُ أقمارٌ مفتّحةٌ
|
وحبرُ الليلِ منسكبٌ على حقلِ
|
القرنفلِ
|
والغروبُ يعبُّ من تبغِ الجبالِ بنشوةٍ
|
ويهزُّ فوقَ طفولةِ الريحانِ
|
أجراسَ النعاسْ.
|
***
|
نامتْ صبيّةُ حبيَ البيضاءُ
|
فاتكأتْ لتحرسَ نومها
|
من وحشةِ الحلمِ الغراسْ.
|
***
|
يا طائرَ الإنشادِ
|
لا ترسلْ غناءَ مسائكَ الشفافَ
|
فوقَ النبعِ
|
إن حبيبتي تغفو
|
ونومُ حبيبتي في المهدِ
|
درّاقٌ وآسْ!
|
-21-
|
نأينا عن الحبّ يوماً
|
فغابَ القطا، والحمامُ انتأى
|
والغمامُ على الساحلِ.
|
أأبقى حزيناً أطلّ كطائرِ صيفٍ
|
على جدولي؟
|
وتبقى السماءُ البعيدة أحلى على السفحِ
|
تبقى الأباريقُ سهرانةً في سطوح النبيذِ
|
وتبقى تحوك يداكِ رسومَ الوداعِ على المخملِ.
|
... أطرّزُ يوماً على ثوب عرسكِ
|
ما ضيّع الحبُّ من كلماتٍ
|
وألقي قميصي على الشوكِ
|
لا تحسبيني حزيناً من الحبّ
|
إني أحوكُ سوادَ الليالي
|
على مغزلي!
|
-22-
|
يا هديلُ التي مرَّ عمري على عمرها
|
كالحمامِ
|
وطرنا صغيرينِ في أولِ الحبِّ
|
حتى بلغنا الغيومَ
|
وصرنا بطاركةً عاشقينْ!
|
يا هديلُ التي ما ركضنا
|
مع الريحِ
|
إلا لنسبقَ أيامنا،
|
ونخلّفها نادمينْ!
|
يا هديلُ كبرنا!..
|
وها نحن كهلين في آخرِ العمرِ
|
نجلسُ قدّام بوابة البيتِ
|
منتظرينَ على مللٍ
|
ما تأخّرَ من كلِّ تلك السنينْ.
|
-23-
|
طولَ الليلِ تئنُ الريحُ المهجورةُ
|
في البيتِ
|
وتبكي في أرجاءِ العزلةِ
|
أجراسُ الموتِ،
|
ويحتضرُ النايْ!
|
وطوالَ الليل أدقُ على جدرانِ الصمت
|
لينهضَ من آبارِ الوحشةِ
|
جثمانُ أسايْ!
|
.. طول الليل ينوحُ غريبٌ
|
مكتهل الروحِ
|
ويجمعُ مبكاهُ إلى مبكايْ!
|
-24-
|
يا لابساً ورقَ الخريفِ،
|
وجبّة َ الوقتِ الجريحْ!
|
ستهبُّ ريحْ
|
ستهبّ ريحْ.
|
-25-
|
يا أيها الليلُ المهاجر
|
منذ آلاف السنينْ!
|
قد نامتِ الأبوابْ.
|
فاقطعْ بفأسكَ وحشتي
|
من جذعها المرّ الحزينْ!
|
بالله يا حطّابْ!
|
-26-
|
الكمانُ الصموتْ.
|
الكمانُ الذي كانَ أمَّ الأيتامِ روحي،
|
وأرضعني الدمعَ من ثديهِ المرّ
|
حتى رواني.
|
الكمانُ الذي رعرعَ الثكلُ
|
أيامه ورعاني..
|
وطيّرني كالعصافيرِ فوقَ سطوحِ البيوتْ.
|
الكمانُ الذي ذُرفتْ دمعاتُ
|
حياتي على صدرهِ
|
لا يموتْ!
|
-27-
|
سمعتُ بآخرةِ الليل أغنيتينِ
|
تدقّانِ بابي.
|
فأصغيتُ..
|
هذا صداي القديمُ يعاودُ حزني،
|
وذاكَ الغناءُ الأبحُّ من الريح
|
صوتُ غيابي.
|
-28-
|
هل أسمي الغماماتِ فوق سطوحِ الغروبِ
|
مناديلَ حبّ، وأوراقَ حزنٍ
|
تطيرها الريحُ فوق القرى
|
ورقهْ... ورقهْ.
|
***
|
هل أسمي البحيراتِ
|
حين تطيرُ الحماماتُ
|
فوقَ حقول الهديلِ غياباً
|
يلّونُ وجهَ المساءِ،
|
ويرمي على ليلنا أزرقهْ.
|
***
|
هل أسمي الصغيرةَ أمّاً لعائلةِ النحلِ
|
وهي تربّي الحساسينَ في شجرِ البّنّ
|
زقزقةً... زقزقهْ
|
-29-
|
ما انتبهتُ لحزنِ العصافيرِ
|
ديّارةَ المغربِ.
|
ما انتبهتُ..
|
تنهّدَ نايٌ بعيدٌ
|
على شجرِ الليل ما بيننا
|
والحمامةُ غنّتْ هديلاً على مذهبي!
|
يا هديلُ الصغيرةُ لا تجعليني حزيناً
|
فإني طرّزتُ حبّكِ في مخملِ الليلِ
|
حتى وجدتُ الحياةَ خيوطاً
|
من الوهمِ
|
تلعبُ بيْ!
|
وها أنذا كلما حُكْتُ ثوباً جديداً
|
بكفِّ الحريرِ
|
تلبّسني الحزنُ ديّارةَ المغربِ!
|