سيرة الأنبياء سيرة عطرة ذكية ما أحوجنا لاستنشاق عبيرها.. وهي كتربة خصبة تؤتي أُكلها كل حين لمن أراد قطف ثمارها.. ومن تلك الثمرات التي يطيب لنا تناولها وأخذ العبرة منها.. موقف إبراهيم عليه السلام مع زوجتَي ابنه إسماعيل عليه السلام.
ذلك الموقف الذي يبين لنا سلوك الزوجة كما يجب أن تكون، وكذلك يبين لنا ما يجره السلوك غير المسؤول للزوجة عليها في الدنيا والآخرة.
وقصة إبراهيم عليه السلام نبغ فيّاض بالخير لمن أراد أن ينهل منه؛ ففيه يجد الباحث مبتغاه في العديد من جوانب الحياة، في حسن العبادة والتمسك بالحق، وفي علاقة الأب بابنه وحرصه على مصلحة ابنه بمشاركته له في الخير حتى يشاركه الأجر والثواب، وفي الصبر على الابتلاء والثبات في المحن والشدائد، وكذلك موقفه مع زوجتَي ابنه؛ إذ بتأمل هذه القصة نحصد الكثير من العبر، وتظهر جلياً صفات الزوجة الصالحة من الطالحة...
فعندما زار إبراهيم بيت ابنه إسماعيل عليهما السلام لم يجده، ووجد امرأته، فسألها عنه فقالت: خرج يبتغي لنا أو يصيد لنا، ثم سألها عن عيشهم فقالت: نحن في ضيق وشدة، وشكت إليه... وهكذا أساءت لنفسها قبل أن تسيء لزوجها، فقد كشفت سر بيته، ولم تحفظه في غيبته، ثم إنها لم ترض بقدر الله -عز وجل- لها فالمشتكي معترضٌ على قدر الله... فما كان من إبراهيم عليه السلام إلاّ أن قال لها: أقرئي زوجك السلام وأبلغيه أن يغير عتبة داره.
وفعلاً عندما عاد إسماعيل عليه السلام روت له ما جرى، فأدرك أن هذا الشيخ الزائر هو أبوه، وقد رأى أن يفارق زوجته، فقال لها: الحقي بأهلك.
وما لبث إبراهيم عليه السلام، وعاد لزيارة بيت ابنه مرة ثانية حيث وجد امرأة غير الأولى، فسألها عن زوجها فقالت: خرج يبتغي لنا، فقال: كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم فقالت: نحن بخير وسعة، وأثنت على الله تعالى، فدعا لهما، وقال لها: أقرئي زوجك السلام، وأبلغيه أن يثبت عتبة داره.
وفعلاً عندما عاد إسماعيل عليه السلام روت له ما كان من هذا الشيخ فقال لها: هذا أبي أمرني أن أمسكك.
وبتأمل حال كلتا الزوجتين نجد أن الجزاء من جنس العمل، فمن رضيت وحمدت بقيت، ومن اشتكت حال بيتها حُرِمت من البقاء فيه، ورحلت إلى أهلها، وخسرت رفقة زوجها وأنيسها.. هذا في الدنيا، أما في الآخرة فالجزاء عظيم أيضاً...
فقد وصف الله -عز وجل- العلاقة الزوجيـة بأنهـا ميثاق غليظ، وأمانة وقد قال تعالى: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً }الإسراء34، والزوجة مؤتمنة على بيت زوجها، وهي راعية فيه ومسؤولة عن رعيتها، وقد حذر رسول الله - صلى الله عليه وسلم- من ضياع الأمانة؛ إذ قال: "ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاشٌّ لرعيته إلاّ حرم الله عليه الجنة".
وكذلك جعل الله عز وجل لهذه العلاقة أسساً وقواعد لكي تُبنى عليها، وأهم هذه القواعد المودة والرحمة، وليس من المودة والتراحم أن يكشف كل من الزوجين حال الآخر، أو أن تقوم الزوجة بالتشكي والتأفّف من معيشة زوجها ورزقه، وقد بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عاقبة هذا السلوك غير السوي من الزوجة عندما روى أن أكثر أهل النار من النساء فلما سُئل قال: "لأنهن يكفرن العشير"، أي التنكّر للخير وكثرة الشكوى. فلتحذر كل زوجة من هذا السلوك، فالعاقبة غير حميدة في الدنيا وكذلك الآخرة.
أما الزوجة الراضية الحامدة لله فقد بقيت في دارها، سعيدة برفقة زوجها، مبارك لهما بدعاء سيدنا إبراهيم عليه السلام لهما، وكذلك هي في زيادة من الخير مصداقاً لقول الله -عز وجل-: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ }إبراهيم7.
ومن الزيادة المباركة لهذه الزوجة الراضية أن يخلد ذكرها إلى يوم القيامة، وتُذكر بين الناس بأنها زوجة صالحة، وبأنها نعم الزوجة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدنيا متاع وخير متاعها الزوجة الصالحة".
وكذلك من بركة دعاء إبراهيم عليه السلام لهذه الزوجة هي وزوجها أن جاء من نسلهما خير مولود على الأرض، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، من ذرية إسماعيل عليه السلام، من هذه الجدة المباركة والزوجة الصالحة الراضية.
وهكذا نتعلم أنه بحسن الأخلاق والعشرة الطيبة تنال الزوجة خيراً عظيماً في آخرتها برضا زوجها كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راضِ دخلت الجنة".
وفي نهاية هذا الموقف لإبراهيم عليه السلام مع زوجتي ابنه.. لا نستطيع أن نفارق هذه القصة دون الولوج للسيرة العطرة للأم العليا لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وهي الزوجة الصابرة الحكيمة السيدة هاجر زوجة إبراهيم عليهما السلام التي تبين لنا قصتها حال الزوجة كما يجب أن تكون حقاً، وتضرب لنا مثلاً في الصبر في السراء والضراء وحين البأس، حيث الموقف العصيب الذي تركها فيه إبراهيم عليه السلام برضيعها في ذلك المكان الموحش، وهو مبتلى بهذا الأمر الرباني، إنه حقاً ابتلاء للزوج المحب والأب الحنون المشتاق للولد بعد صبر طويل، وعندما يُرزق به يأخذه، ويتركه بعيداً عنه، ولكنه الرضا والتسليم لأمر الله عز وجل.
وحقاً إنه لموقف عجيب، فقد نقدر موقف إبراهيم عليه السلام بترك ابنه وزوجه في وادٍ غير ذي زرعِ بأنه الطاعة لله والاستسلام، أما أن تبقى زوجة مع رضيعها وحدهما في هذا المكان، ويتركها زوجها ويرحل فتصبر وترضى فهذا حقاً يدعو للعجب..! ولكن سرعان ما يزول كل العجب عندما نسمع قول هذه المرأة المؤمنة عندما سألت وكررت السؤال على زوجها: لمن تتركنا؟ وهو لا يجيب إلاّ بعد أن ألقى الله على لسانها (الله أمرك بهذا؟!) فيقول: نعم، فترد قائلة: (إذاً لا يضيعنا)، وهكذا فعندما يكون هذا هو موقفها فإنما يكشف عن مقدار إيمانها وثقتها في خالقها.. فلما رجعت لصاحب الأمر اطمئن قلبها، ورجعت عنها كل المخاوف.
وكذلك كانت هاجر عليها السلام نعم الزوجة الصالحة المعينة لزوجها على طاعة ربه.. فلم تعص له أمراً، ولم تُعجل بأخذ صغيرها، وتسابق الخُطا راحلةً من هذا المكان الموحش فراراً بنفسها ورضيعها.. ولكنه الإيمان والثقة في الله.. فهنيئاً لهم جميعاً بحسن الثواب، تلك الأسرة المباركة والأصل المبارك لسيد الخلق أجمعين محمد صلى الله عليه وسلم.
وأخيراً نجمل تلك الصفات الحميدة التي تزيّنت بها كل من زوجة إبراهيم عليه السلام، وكذلك زوجة ابنه إسماعيل عليه السلام حتى نقف على تلك المحاسن علّنا نقطف منها خير الثمرات:
- فالزوجة كما يجب أن تكون هي حقاً امرأة تحافظ على سر بيتها وأسرار معيشتها.
- ترعى سمعة وعرض زوجها حتى في غيبته.
- تكرم ضيفها وتقوم بحقه.
- تصدُق زوجها فتبلغه عن كل شيء في حياتها وخاصةً ما حدث في غيبته.
- امرأة لا شكوى لها ولا ضجر من شظف العيش.
- تحسن استقبال زوجها بالأخبار الطيبة.
- إنها المرأة التي لا يشقى معها زوجها؛ فهي خير مُعين له على طاعة ربه.
- راضية برزقه سعيدة بعشرته.
- ومثل هذه الزوجة هي حقاً التي يسر بها الزوج إذا نظر إليها، الطائعة له إذا أمر.
الراضية أولاً وأخيراً برزق الله لها وقدره.