بتـــــاريخ : 9/19/2008 12:57:59 AM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1437 0


    حكمت عليها الظروف

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : رشيد ايت عبد الرحمان | المصدر : www.arabicstory.net

    كلمات مفتاحية  :

     

     

     

    حكمت عليها الظروف
     

     

     

     
     

     

    ترضي الخواطر

     

    وتبقى هي بلا خاطر

     

     

     

    عندما سمعت هذه الكلمات وبالكاد توصلت إلى فصل بعضها عن بعض وهي مثل خيوط شباك ألقاها صياد مستهتر فوق كومة من قش قديم..وكان سبب استعصائها راجعا للصخب الذي كان يرافقها، والإيقاعات الرتيبة التي كانت تصاحبها، ولكون صوت مؤديها محشرجا، ولعدم صفاء مكبر الصوت الذي كان ينقلها إلى المارين..تراءت لي صورتها كاملة من بين المارة رغم تكاثفهم..عيناها الذابلتان والمتراخيتان تراخي الحسن وتكاسل الدلال و ذبول الحزن والأسى الذي يشرف منهما إشراف الليل المدلهم عبر شرفة احتجب عنها ضوء القمر خلف سحب ركامية داكنة وأبقى فجوة ينبجس من خلالها شرخ عميق لا تفتأ ترممه بمساحيق التجميل المكلفة ثمنا وجهدا ووقتا وعمرا..شرخ ساهمت في تضييق الهوة بين ضفتيه لفترة، وإن كانت وجيزة، وكانت آخر أيام الأسبوع.وكان ذلك عندما امتطيت الحافلة عائدا ولما توقفت الحافلة، وهي عادة لم تعد تقلقني وربما تعودها حتى الركاب الذين أصادفهم في طريقي، ركبت هي..

     

    تعودت ألا أصدق حتى أتبين حقيقة الأمر..فأنا أصادف كثيرات في طريقي..لكنني أجد في نفسي شيئا ما يدعوني بإلحاح لتصديق هذه المخلوقة..هل الصدق في عينيها، أم أنه الشيء الذي أرعد ما في داخل قفصي الصدري عندما التقت عينانا، فأربك موازين القياس في عقلي..وهي تبحث عن مكان فارغ للجلوس في الحافلة التي أقلتنا معا ذات يوم من المدينة الصاخبة المسماة الدار البيضاء.. ويومها كان السائق قد شغل أغنية مطلعها: الدار البيضا.. آكزا بلانكا..لكنها يومها جلست بعيدا..ونزلت في أقرب مدينة..ولم أعر الأمر أي اهتمام، كما حدث هذه المرة..كان المقعد المقابل وقبله مقاعد أخرى فارغة..لكنها تغاضت عنها كلها وكأنها...لم أرد قول إنها اختارت الجلوس جواري..فأنا لا أختلف عن بقية الركاب في شيء..ولما سألت عن شغور المكان بالقرب مني أو عدمه..تساءلت عن مدى صحة عقلها فالحافلة منطلقة وهو سؤال إلى حد ما بليد..إذ لا يعقل أن يكون محجوزا..لكن لم أبد لها هذه الخلاصة، فأجبت: طبعا فارغ..فجلست ووضعت حقيبتها اليدوية السوداء على ركبتيها..اجتذبت نظري أناملها المطلية بالحناء مثل زبدة بلدية مخضبة بعسل أسود ممتدة تحضن الحقيبة..غير أنها لم تثر في شيئا نحوها..وكأني أناقض ذاتي، ولي في ذلك عذر، فقد تكون من أولئك اللاتي يفرشن رموشهن على الأرصفة..وإلا ما الذي يجعلها تجلس بجواري ولم لا تجلس قرب امرأة مثلها في المقعد الأول؟

     

    وجدتني أخترق الحشود المارة وسط الباعة المتجولين الذين يتفننون في عرقلة السير..لكنني أتقنت فن التسلل بين الأجساد غير مبال بما سيظنه الناس من سلوكي الغريب ذاك..انعطفت شمالا وتنفست الصعداء لأن الزحام أخف..ولعلها الفرصة لمكالمتها وشرح موقفي من عدم مهاتفتها.. لأقول لها إنني فقدت هاتفي المحمول الذي كنت سجلت فيه رقم هاتفها تلك الليلة تحديدا..وكأن الأقدار شاءت أن تفرقنا..فقدت الهاتف وفقدت معه أرقام العائلة والأصدقاء، وبقي هاتف العمل الذي يحمل أرقام الزملاء والزبناء..وأنني حين هاتفت سارق الهاتف أجاب بصفاقة: هزك الما..واش بورطابل بحال هذا كينساوه الناس في الكار؟.فعلا..وقد انشغلت عن إجراء إعادة الرقم نفسه.وأكيد ستلتمس لي العذر لأنها اطمأنت لشخصي، وهو الدافع الذي جعلها تجلس بجواري كما صرحت بذلك، وأنها قرأت في ملامحي الصدق الذي فقدته في ملامح كثيرة..فالكل ينظر إلى جسدها..لا أحد يهتم للظروف التي دفعتها لذلك، تقول لما اطمأنت لي، وكأننا صرنا غرباء عن بعضنا البعض وصار بعضنا يأكل بعضا..صار كل شيء بمقابل..الابتسامة نفسها لا يبتسمها الواحد منا في وجه الآخر إلا إذا أخذ مقابلا، أو ينوي أخذ مقابل..لماذا صرنا غرباء..غريبين..هي فرصة لأتأكد من أن قولها صادق وأنها ليست مثل من تحكي عنهم وأنها فقط تتودد وتتمسكن حتى تتمكن.. رغم أن خاطرا بداخلي يصدقها..ويريد لقاءها لتوطيد هذا التصديق أو تكذيبه..

     

    دخلت إلى القيسارية..وانتظرتها حتى خرجت..واستقبلتها وسلمت عليها وهي تتجاهلني..وتتفلت من أمامي..سير أخويا بعد مني..أنا ما كنعرفك شي..التمست لها العذر وأنني صرت في نظرها مثل الآخرين..وأني تسليت بهمها طول المسافة التي قطعتها الحافلة..وبأنني أفعل ذلك مع الكل.. وبأنني كذلك متودد لكسب رضاها..ألست فلانة؟ أجابت: قديمة...لا لا أنا جاد..فعلها غيرك..تريدون، جميعا، الوصول إليها عن طريقي..أبدا..إذن لست أنت هي هي..يا لغبائي..لكن كانت يداها مخضبتان بالحناء ويداك لا.. معذرة..وهممت بالانصراف.. خائب الأمل..فنادتني..هل تتحدث عن فلانة..؟ ومن غيرها..؟ أعذرني..لقد ظننتك من المستهترين..ولقد ظننتك هي دون أدنى شك..أنا أختها أصغر منها..وغالبية الناس يظنوني هي أو عكس ذلك.. ومن أين عرفتها؟ كانت فترة قصيرة في الحافلة..أخذت رقمها..وقد ضيعته..يا للشبه بينكما..هي تعمل هناك..ما طبيعة عملها..ألم تقل إنك تعرفها؟..وعلى كل اطمئن..عمل شريف ومحترم..إنها تعمل في وكالة دولية للأسفار..أعذرني أنا مستعجلة قليلا...أه.. أعطيني رقم هاتفها من فضلك...وضعت يدها في الحقيبة وأخرجت هاتفها المحمول وأملته علي من جديد..توا شكرتها..

     

    هاتفتها..ثم التقينا مثل مفقودين..مثل قطرتين..كانت تهاتفني في رقم هاتفي المسروق وكان اللص يجيبها نفس الجواب..وخشيت مما خشيت أن أتهمها بأنها السارقة..وعجبت لنفسي لماذا لم يدر في رأسي هذا الخاطر..بتاتا؟ وقلت لها عن هذا الخاطر فازدادت تعلقا بي..غير أنني اعتدت ألا أصدق إلا بعد أن أعلم علم اليقين..

     

    توطدت العلاقة.. وباختصار شديد طلبت يدها منها.. فأبت.. وبشدة..استغربت الأمر و ظننتها من أولئك اللائي يبحثن عن علاقات بالإنترنيت..غير أنها قالت ليس الأمر كذلك وإنني لن أستطيع معها صبرا..خاصة بعدما علمت ببعض خصوصيات شخصيتي..فأكدت لها أنني أستطيع..وأنني سأغفر كل ما مضى وسأتحمل أجر علاج والديها ودراسة إخوتها وكل شيء يدفعها لما يدفعها إليه..قالت لن تستطيع معي صبرا..

     

    في الحافلة مرة أخرى..جلست بجانبي..بعد أن اتصلت بي فحجزت لها المكان، وقالت هل تستطيع أن تصبر..عندما أوقفت الحافلة في المكان المعهود..كانت سيارة تتعقبها.. وقفت الحافلة ووقفت السيارة ذات الدفع الرباعي "كات كات" ثم نزل منها رجل أشيب وارتمى تحت قدميها..وبدت على محياه ومن حركاته علامات التوسل والذل..

     

    على شاطئ البحر كنا سائرين..وخلفنا أفواج من الشيب والكهول والشباب يسيل لعابهم...من أين يعرفها كل هؤلاء؟التفتت إليه وقالت:

     

    ألم أقل لك إنك لن تستطيع صبرا..فدعنا صديقين وكفى..عملي كما قلت لك مرتبط بكل هؤلاء، ولقمة عيشي آخذها من أيديهم في لحظات معينة...لحظة يغيبون عن الوعي...لمجرد مجالستهم...لا يطلبون شيئا لا يقدرون على فعل شيء مجرد مجالستهم..مجرد صب كأس لهم...هم مورد عيشي...ولن تستطيع معي صبرا...

     

    لحظتها مرت سيارة تحمل ترقيما أجنبيا وترددت الأغنية ذاتها:

     

    حكمت عليها الظروف...

     

     

     

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()