بتـــــاريخ : 9/19/2008 1:16:17 AM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1189 0


    محكمة الألوان

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : د. طارق البكري | المصدر : www.arabicstory.net

    كلمات مفتاحية  :
    قصة د. طارق البكري

     

    أزرق.. أصفر.. أخضر.. أحمر..

    ألوان تزهو تتبختر..

    هذه ألوان مائية.. تلك ألوان زيتية.. وأقلام: صينية، خشبية، شمعية.. وهذا مسرورٌ فنان.. مشغول بسحر الألوان..

    غرفته باقات وزهور.. في كل ركن ريشة.. لوحة.. وقلم ملون.. هنا بقعة زرقاء.. فوق البساط الأخضر بقعة حمراء.. على الجدران خطوط مثل قوس قزح.. وحتى على فراشه الذي ينام فيه.. آثار الألوان..

    مسرور لا يخرج من بيته.. دون حقيبة صغيرة.. تحوي كل الألوان.. وريشاً بأحجام متنوعة، وفرشاة كثيفة الشعر.. مروسة الرأس..

    ثياب مسرور تظل دائماً ملطخة بالألوان..

    حقيبة مسرور ملونة..

    طاولة مسرور ملونة..

    أصابعه.. تحت أظفاره..

    حياته كلها.. ألوان.. ألوان.. ألوان..

    لكل لون عنده معنى..

    الزهري للورود التي تعطي ولا تأخذ..

    الأخضر.. للعشب والنماء.. والطبيعة الساحرة..

    الأسود.. لليل المجهول.. والنجوم البراقة.. للهدوء والسكون..

    الأزرق.. للمدى الواسع، والأفق الرحب.. مثل السماء.. مثل البحر..

    الأصفر.. للإخلاص والصدق.. وعودة الحياة بعد الفناء.. مثل أوراق الشجر.. تموت لتحيا من جديد..

    ..............

    ..............

    مسرور لا يرسم الأشياء والأشكال..

    يرسم الألوان.. لكل لون عنده تعبير خاص..

    يرسم الألوان.. ثم يأتي بالأشياء لترتدي اللون الذي يريده.

    كل من حوله.. يقول: إن للون عند مسرور معنى جديداً لا نعرفه..

    فكر مسرور..

    للألوان حياة.. للألوان روح..

    ولكل حياة ولكل روح معنى وهدف..

    صار يبحث عن معنى الألوان..

    صار يبحث ويفكر.. ويفكر.. قضى وقتاً طويلاً يبحث عن أسرار الألوان..

    أصعب لون صادفه: الأبيض.. ومن بعده الأحمر..

    الأبيض.. ما هذا اللون؟! لا شيء.. أما الأحمر.. فلون الألم.. لون الجرح..

    أخبروه أن الأبيض رمز للسلام.. والأحمر لون الدم والحرية..

    لكن ما معنى السلام؟

    حمامة بيضاء.. غصن زيتون أخضر.. شغله اللون الأبيض..

    لماذا لم تكن الحمامة سوداء.. شعارها ريشةُ الألوان..

    بحث في معاجم الألوان.. في لوحات الفن العريق.. فتش عن كل ألوانه البيض.. أسقطها فوق الأوراق البيض.. فوق الأوراق السود..

    فوق الأوراق الخضر.. لم يجد غير فراغ.. إذن.. هذا معنى السلام؟!

    مستحيل؟! أين السلام.. أين السلام؟!

    أصرّ مسرور على مواصلة البحث.. من أين يمكن أن يبدأ؟!

    ما أصل اللون الأبيض؟

    الأبيض يعني الفراغ.. هل يمكن أن نبني مكتبة، كل كتبها من الأوراق البيضاء.. دون حبر أسود.. وألوان؟!

    هل يمكن أن يُصدر دار للنشر كتاباً كله أوراق بيضاء.. ويسميه الناس:

    الكتاب الأبيض؟!

    ولماذا حمامة السلام بيضاء؟!

    أليس الدِّيك الملون أجمل؟!

    أليس الطاووس الملون أجمل؟!

    ما معنى اللون الأبيض؟!

    وتوصَّل مسرور إلى أن البياض شيء لا معنى له.. وقرر أن يزيل كل ما هو أبيض من غرفته، فهو يحب الألوان.. والأبيض ليس من الألوان..

    قام مسرور على الفور.. أحضر كيساً أسود كبيرًا، وضع فيه كل الألوان البيضاء.. لم يبقِ قلماً ولا زيتاً ولا شمعاً أو أي شيء لونه أبيض.. كل الألوان البيضاء داخل الكيس الأسود..

    كانت الألوان كلها تراقب ما يحدث.. شعرت بسخط شديد.. راحت تتحدث دون أن يسمعها مسرور:

    قال اللون الأخضر: >كارثة.. كيف نقبل أن يزول اللون الأبيض؟!.. مستحيل..<

    قال اللون الأصفر: ما فائدتنا كلنا لو سقط منا لون واحد؟

    قال اللون الأسود: ما معنى الأسود دون الأبيض؟!

    وصاحت الألوان كلها بصوت واحد: يجب أن نثور.. أن نعترض.. فلنُعلن العصيان..

    فجأة.. اختفت جميع الألوان من الغرفة..

    أمر لا يُصدق.. كل شيء بلا لون..

    نظر مسرور من نافذته.. لم يجد الألوان..

    السماء.. الأشجار.. الطيور.. الأزهار.. السيارات.. كلها.. كلها.. من دون ألوان

    حتى اللون الأبيض لم يعد موجوداً..

    فقدت الأشياء حياتها وروحها.. أصبحت مثل خطوط شفافة.. كل شيء أصبح مثل السراب..

    شعر مسرور بالرهبة..

    ماذا فعلتُ؟!

    ماذا جنيتُ؟!

    اختفت كل الألوان.. إنها تعاقبني.. كلها تعاقبني من أجل لون واحد.

    أسرع مسرور.. فتح الكيس الذي وضع فيه اللون الأبيض.. صار يرجوه ليسامحه ويخرج من الكيس حتى تعود جميع الألوان..

    اجتمعت الألوان حول مسرور.. بعد أن قررت محاكمته، اختارت اللون الأبيض ليكون قاضياً في المحكمة.. واللون الأحمر ليكون ممثل الادعاء، وبعد أن سمع القاضي مرافعة ممثل الادعاء.. وشهادة الأشياء التي تحب الألوان استمع إلى اعتذار مسرور واعترافه بذنبه..

    رقّ قلب القاضي لحال مسرور، وأعلن أنه سيمنح مسروراً العفو بشروط:

    أن يجعل اللون الأبيض شعار حياته وأن يحترم جميع الألوان.. ويقدّر عالياً اللون الأحمر.. لون الدم.. رمز البطولة والشهادة والفداء..

    هنا قال مسرور بأعلى صوته: موافق.. موافق.. سوف التزم بجميع الشروط..

    هنا أعلن اللون الأبيض عن شكره لجميع الألوان.. لأنه لا يمكن أن يحيا لوحده دون أن تحميه الألوان الأخرى.. وخصوصاً اللون الأحمر..

    قام الجميع فرحين بنتيجة المحاكمة.. وراحوا يصفقون ويزغردون..

    في تلك اللحظة عادت الألوان إلى حقولها وبساتينها وجبالها.. وبحارها.. وإلى كل الأشياء الجميلة الرائعة في الكون

     

     

    كلمات مفتاحية  :
    قصة د. طارق البكري

    تعليقات الزوار ()