بما أن التعبير عن العنف سلوك متعلم، أي أنه يمكن أن نتعلمه إما من خلال الملاحظة أو من خلال التقليد، يكون الأطفال أكثر عرضة للتأثر بالعنف، جراء اتسامه بالحركة السريعة وصناعته البطل، والأطفال أيضاً أكثر عرضة للتطبع به، إذا وقعوا تحت سطوته، وإما إذا بقي التأثير والتطبع ملازمين للأطفال، وينتقل معهم إلى المراحل العمرية اللاحقة فلسوف تصعب السيطرة على الآثار السلبية التي تنتج عبر هذه الملازمة، والتي قد تسبب في إيجاد عناصر شاذة، ربما تقاطعت والمجتمع، وبنحو يجعل الاثنين يرفض كل منهما الآخر، أي الطفل الذي غيره الظروف إلى العنف يرفض العالم الذي يعيشه إذا كان مسالماً هادئاً ويرفضه المجتمع لأنه عنيف شديد. والتلفزيون بالإضافة إلى السينما وبقية الوسائل التكنولوجية ساهم في بث الإعلام الموجه والمدروس بعناية إلى الآخرين، بل أدى التلفزيون دوراً أكبر بكثير في تجسيد مبادئ العنف والإرهاب، وبالذات بعد الانتشار الهائل للفضائيات، وسيطرة الإعلام الغربي على أغلب هذه القنوات الفضائية مباشرة أو عن طريق كثرة الإنتاج للأفلام والمسلسلات والبرامج الأخبارية، حتى أنك تندهش عندما تشاهد خبراً أو صورة لم يكن للغرب الإعلامي يد فيه!!! فالعنف الذي تبثه الأفلام السينمائية وما يتسرب منها داخل الفضائيات يسهم إلى حد بعيد في انحراف السلوك لدى المشاهدين من المرضى والمراهقين والأطفال، ويمكن أن يظهر على شكل استجابات لدى الكثير منهم. ولعل من المفارقة إن بامكاننا تناول العنف والطفولة من جانبين، الأول ما يتعلمه الأطفال والصغار من ممارسات في العنف يقوم بها الكبار، والثاني ما يقع على الأطفال من عنف يرتكبه آخرون بحقهم.وللأسف، إن أطفالنا عاشوا الحالتين، بعد إن طبقت عليهم عملياً قسراً وكرها،بسبب الحروب التي عشناها، والبرامج التي رافقتها، ووجدت في الأذهان الصغيرة مستودعات لها، إضافة إلى حالات الرعب التي عاش دقائقها الأطفال أيام القصف، ولعبت أدوار كبيرة في شخصياتهم.. أكثر من هذا، تعرض الأطفال، بعيد الحرب في العراق إلى تجارب قاسية، لم يفترض بالعوائل أن تعرض أطفالها لها، ولا يفترض أن تسمح بتكرار الأمر، إذا حدث وان فرضته إحدى هذه التجارب القاسية نفسها مرة أخرى، ففي فترة ما بعد الحرب وجراء الذهول الذي ألم بالعوائل العراقية جراء المتغيرات التي أعقبت سقوط النظام والانفلات الذي سمح بكشف ممارساته، فقد أغفلت هذه العوائل وهي تعرض عبر أجهزة التسجيل ”الفيديو“ أفلام التعذيب والقتل التي كان يقوم بها النظام السابق ضد أعدائه، بأن الأطفال يشاهدون معها ما تشاهد. ولأن الطفل يرتبط بعلاقة وثيقة مع التلفزيون، ويتأثر بمن يفوز في النهاية، فقد بدأ أطفال كثيرون يقلدون الممارسات القذرة التي رأوها، لأنهم لا يعرفون أنها تعني أو لا تعني شيئاً.. فالطفل لا يعرف من التلفزيون سوى الذي أمامه.وما أمامه ان ثمة من يفوز دوما، وثمة من يخسر،ولعل من أقسى المفارقات أن الذي كان يخسر في هذه الأفلام،من يعرض بصورة رثة،بثياب متسخة وشبه ممزقه ولحية طويلة، في حين إن من يفوز يكون مهندماً ونظيفاً، وأكثر من هذا إن الذي يفوز، كان التلفزيون يروج له طيلة السنوات السابقة. وهكذا، تحققت خسارة كبيرة..خسرنا فيها الطفل الذي راح يقلد ما يرى في التلفزيون من مشاهدات يومية تنعكس سلباً على سنواته التي لا تتجاوز الثماني سنوات أو العشر في أحسن الأحوال. هنا وقبل أن نتجول في بعض المدارس والمناطق والبيوت، نذكركم، بان كثيراً من الأطباء شكوا من مراجعات العديد من أولياء أمور أولاد صغار راجعوا المستشفيات من أجل أن يعالجوا أولادهم من بعض الرضوض والكسور، بسبب أفلام العنف، لان أولئك الأولاد تباروا فيما بينهم بالركل والضرب الحقيقيين لأنهم يفترضون ـ ببساطة ـ إن ما يحدث في الأفلام حقيقي. كيف تنعكس وقائع العنف على الأطفال؟ طلبت المعلمة من تلامذة الصف الأول والثاني الابتدائي سرد قصة أو حكاية قصيرة فقام التلميذ جعفر حاتم بسرد حكاية:” اندلعت الحرب ومات الناس جميعاً وساح دمهم وضرب الجندي الولد بالقنابل وصعدت الدبابة على رأسه....الخ “. أما زميله زيد الدين علي فاخبرنا بقصة الولد الذي وضعوا في جيبه المتفجرات وقنبلة يدوية وفجروه معها وأصبح قطعاً صغيرة من اللحم........ مؤكداً أن هذه القصة من نسج خياله في حين أنها إحدى الصور التي وضعت في الأقراص المدمجة (CD) التي تعرض حالات التعذيب للنظام السابق ووقع ذهنه تحت تأثير مشاهدها. وحينما طلبت المعلمة من التلميذ تغيير القصص والتكلم عن الحيوانات والأزهار والأشجار بادر التلميذ يوسف سليم قائلاً :ـ ”يوجد خروف في الغابة وكان وديعاً لكنه تحول إلى ذئب وصار وحشاً وأكل أمه وأخوته وأخرج الدم منهم ثم استدرك بنحو مفاجئ..لكن الدم الذي سال على الأرض تحول إلى ماء يسقي الوردة “. هنا نجد.. أن الطفل يتنازعه الشر والخير فعلى الرغم من محاولة الأطفال إسباغ العنف والرعب في قصصهم تظل بذرة الخير موجودة لديهم، فهم يتمنون أن تنتهي قصصهم نهايات سعيدة لكن صور العنف التي ترسخت في أذهانهم تغطي عليها. ومن المفارقات التي حدثت بعد العمليات العسكرية أن وكالات الأنباء العالمية تناقلت صوراً لما يرسمه الأطفال العراقيون على الجدران والأرصفة من لوحات لا تخلو من مشاهد القتل والدمار والعدوانية، ومن هنا طلبنا إلى بعض التلاميذ أن يرسموا لنا ما يحلو لهم من رسوم فرسموا ما توقعناه أسلحة، وقتلى، وهاربون من أسلحة مصوبة باتجاههم. ومن خلاصة عدة زيارات ومشاهدات وجدنا أن أكثر من 90% من التلاميذ يميلون إلى القصص والإحداث العنيفة والعدائية متأثرين بما كان يعرض على شاشات التلفزيون وأحداث الحرب الأخيرة. وفي استطلاع لآراء المتخصصين والتربويين، ومتابعاتهم لشؤون الأطفال، خرجنا بحصيلة تضعها أمامكم الباحثة التربوية والمعلمة أحلام عطا الله تقول: أغلبية التلاميذ في المدرسة يمارسون اللعب القتالي والضرب واستعمال عيدان الخشب كسيوف والأحجار والطابوق كمتفجرات في أثناء مدة الاستراحة بين الدروس وحسب نظريات التربية والتعليم الاجتماعي أن الإنسان يتصرف طبقاً لما تعلمه عند احتكاكه وتفاعله مع الآخرين لذلك فأن الطفل يقلد بعض أفعال وأقوال الكبار من دون وعي منه. ولعل ما يزيد اتجاه الأطفال إلى العنف ـ كما تقول حنان الهيتي، تربوية قديمة: الألعاب التي تمثل الأسلحة الفتاكة بأنواعها وأشكالها وأحجامها المختلفة من سكاكين وسيوف ودبابات وقنابل يدوية، فضلاً عن الرسوم المتحركة التي في صور وملصقات، تباع في الدكاكين والمحال على الرغم من أن بعض الصور والرسوم والملصقات تجسد شخصيات من محترفي الإجرام والقتلة من أبطال تلك الأفلام وهم يحملون الأسلحة وقد سالت الدماء من أجسادهم وهو ما لا يليق وبراءة الأطفال وفطنتهم السلمية.. ما يجب أن نقف عنده، لان مجرد مفردة سليمة، تعني انها على استعداد لان تستوعب أي شيء، خاصة إذا كان غريباً ومقنعاً، والمعروف أن أفلام الرسوم المتحركة تتميز بالدقة في الصنعة.. ومن هنا يتأثر الأطفال حتى بالشخصيات الشاذة فيسعون إلى شراء من يطفئ رغباتهم من لعب الأسلحة وأكد عدد من أولياء الأمور أنهم في حال شراء لعب الأسلحة لأطفالهم فإنهم يجدون لديهم الرغبة العارمة في ضرب إخوتهم أو احد أصدقائهم، بتلك اللعب. والسيد علي عطا يؤشر أمراً جديداً هو أن أسعار مثل هذه الألعاب عادة ما تكون رخيصة ومتوفرة بالأسواق وبكميات كبيرة ويستطيع بعض الأطفال شراءها بمصروفهم اليومي ومن هنا يلجأ إليها الأطفال لأن الألعاب الأخرى مثل الالكترونيات تكون غالية أو مرتفعة الثمن ومن هنا يبرز دور العائلة في معالجة حالات العنف المتولدة عند الأطفال من خلال ما توفر من ألعاب، وإدراكها ما يمكن أن يشاهده الأطفال. د.الحارث عبد الحميد استشاري مركز البحوث النفسية والربوية في بغداد قال بشأن هذه الإشكالية: ـ أخطر ما يمكن إن يحدث ويمس براءة أطفالنا العدوان ومع الأسف الشديد توفرت البيئة الأساسية لذلك وصار الطفل لا يميز بين التسامح والعدوان وليست الأحداث الأخيرة وحدها المسؤولة عن هذا الوضع المؤسف وإنما الطرق والمناهج والأسس التربوية القمعية المتبعة في المدرسة والبيت لها بالغ التأثير والتخويف ليس على مستوى الأطفال حصراً، وإنما على مستوى شرائح المجتمع العراقي عموماً فحالة الاعتداء وعدم السيطرة على مستوى الأمن والجرائم كلها تسبب القمع الذي كان سائداً في ظل النظام السابق ويجب أن تستفيد المؤسسات التربوية والعائلة من التجربة التي مرت وتعطي الحرية للتلاميذ في المؤسسات التعليمية والعائلة في اختيار ما يريدون وعدم الضغط عليهم ولأجل أن نواصل لأبنائنا طفولة مبنية على المحبة والتسامح والهدوء علينا أن نعيد الأساسيات التربوية لتبنى على الحرية والديمقراطية. السيد وزير الثقافة مفيد الجزائري كان له رأي في هذه الإشكالية ودور الجهات الرسمية فيها لخصه بقوله: إننا ندرك تماما ما حدث لأطفالنا بسبب السياسات القديمة المتبعة بالتحريض على العنف وبرامج تأهيل الأطفال لحمل السلاح وما يعرف بالفتوة والأشبال وما إلى ذلك والتي طبعت أذهان الأطفال ونفسياتهم ولهذا اعددنا مشروعا كبيرا ستقوم به دار ثقافة الأطفال في الوزارة بعد مدة قصيرة من الآن يعنى برعاية الطفولة وتثقيفها بعيدا عن شوائب العنف وإصدار مجلات ونشرات وإنشاء مسارح للأطفال وبرامج للترفيه كما إن هناك خطة عمل للتنسيق ما بين دائرة ثقافة الأطفال ووزارة التربية لوضع مناهج سليمة للطفولة وتوفير كل ما يساعد الأطفال للخروج من هذه الأزمة. وإذن نوجه هنا دعوة لمجتمعنا المسالم الجديد بان لا يسمح بتطوير حالة الرغبة بالعنف والعدوان عند الأطفال وان يرفضوا جميع الأشكال والألعاب التي ليس لها وجود في قاموس الطفل أبدا أو النيل من إنسانية وبراءة الطفولة ولنزرع روح المحبة والخير في نفوسهم بدلا من الشرور ودعوة أخرى نوجهها إلى القائمين على برامج التلفزيون الذي لا يعرض سوى أفلام الرسوم المتحركة التي تتناول قصصها الحروب والقتل إلى إخراج الطفل العراقي من كابوس الحرب بتناول أفلام أخرى لها دلالات إنسانية واجتماعية نبيلة. والعنف يشمل مختلف جوانب الحياة، ابتداءً من علاقة المرء بذاته وبأفراد أسرته، ومحيطه الاجتماعي، وكذا علاقته بالدولة والنظام الحاكم فيها، وانتهاءً بعلاقته بالآخر، أياً يكن هذا الآخر. ومن الذين ركزوا على نشر ثقافة اللاعنف هو الإمام الشيرازي قدس سره، لوعيه بأن الثقافة هي التي ترسم للأجيال مسيرتها، وهي التي تحدد طريقة تعامل الأمة مع الأحداث والوقائع، وهي التي تعين مستقبل الأمة. إذن ينبغي أن نؤمن بثقافة التسامح واللاعنف كقيمة داخل ذواتنا، وأن نسعى جميعاً لتطبيقها على أرض الواقع، لا أن نحملها كشعار أجوف فوق صدورنا.