تحلقت الأسرة حول الأب الذي جلس كعادته في سرد حكايا حبلى بالحكم والأشعار والنصح على ألسنة بشر وجان وحيوان ، حكايا تبدأ خيوطها مع خيوط شمس المغيب من كل يوم وتنتهي بعد صلاة العشاء مباشرة ، على ضوء فنار تفوح منه رائحة الجاز التي اعتادت عليها أنوفهم ، الجميع ينصت لقصص رب الأسرة ، الأولاد والزوجة وعجوز طاعنة في السن والدة الراوي ومنبع أغلب هذه القصص والروايات التي طورها وأضاف لها حوارات مشوقة ، وفي ليلة شتوية كان الأب يسرد إحدى قصصه وأفراد الأسرة يقاومون النعاس ، باستثناء الولد الأصغر مصطفى الذي صرعه سلطان أولى الحكايا فغط في نوم عميق ، الأعين ترصد حركة الراوي بتركيز شديد ، والآذان تعانق حروفه باهتمام ، وهذه الحكايا هى بمثابة التلفاز والمسلي في ليالي هذا المنزل الذي تلفه العتمة باستثناء ضوء الفنار الخافت ....
وفي لحظة مشوقة من عمر الحكاية ، وقبل أن يهم الراوي بسرد جملة مهمة ، فإذا بصوت طرقات قوية سريعة ومتتالية على الباب :
دق دق دق دق دق دق دق دق دق دق
فزع الجميع وتملكهم خوف شديد وضاقت هذه الحلقة السردية حتى التصق الأبناء بأبيهم وأصبحوا أكثر براعة منه في آداء أدوار شخوص حكاياته ، في رواية عنوانها الذعر والوجوم ،...
فقال الوالد في نفسه :
من اللي يدق ع الباب بالشكل هذا ، أزعمه حكومة ويريدوا مني حاجة ، بس أنا موش داير شي ، وحتى ضناي أصغار في السن ، أكيد في حاجة غلط ، ...
هواجس وأفكار تدور في رأسه ، بينما الطرقات تكاد تخلع الباب والوجوه جميعها تكسوها علامات الذعر والخوف ، بينما الطرقات في تزايد مستمر :
دق دق دق دق دق دق دق دق دق دق دق دق دق دق
وقالت الجدة المقعدة في نفسها :
أزعمه ولدي داير شي ، لكن أولدي نا عارفته أكويس يخاف الله ويحترم الناس كلها والناس تحترمه ، يارب استر ، يارب أستر ، يا رب أستر ..
وخرجت من بين شفتيها هذه الجملة الأخيرة ، وأخذت تردده على الملأ :
يا رب أستر ، يارب أستر ، يا رب أستر
حاول الأب أن يفك هذه الحلقة من الأبناء والبنات والزوجة الذين التصقوا به من الخوف ، وقال لهم بعد أن استجمع كل قواه وهو يقف : ما تخافوش ، سلم إعويلتي ، وخليكم هنا ، ونا توة إنحل الباب ، أكيد شي واحد يريد حاجة ، .... سلم إعويلتي خليكم في مكانكم .
وجر الوالد رجليه المثقلتين واتجه صوب الباب ، الذي ينتفض من شدة الطرقات .
دق دق دق دق دق دق دق دق دق دق دق دق دق دق
اقترب من الباب وفتحه بيدين ترتعشان ، فإذا بهم رجال كثر يرتدون زياً موحداً ، دخلوا بحركات سريعة منتظمة ، وتوزعوا في أرجاء المنزل ، لحظات ثم دخل رجل وبخطوات سريعة ، وبجواره ثلة من الرجال ، وامتلأ ذاك المنزل العتيق القاطن خارج إحدى المدن بعشرات الكيلومترات ، دقائق مرت وسط استغراب وذهول صاحب المنزل ، أسئلة كثيرة كادت تعصف برأسه ، فعلى الرغم من الكم الهائل من الحكايا التي يحفظها والقصص التي يرويها إلا أنه لم يجد تفسيراً لما يحدث في منزله في هذه الليلة ، مرت دقائق ثم خرج ذاك الرجل - والذي تبدو عليه علامات النعمة والراحة – على مهل واستقل إحدى السيارات الفارهة ، ثم خرج كل الرجال وركبوا السيارات الأخرى ، وقبل مغادرة السيارة الأخيرة في هذا الموكب نظر أحدهم إلى الأب صاحب المنزل ، بعد أن رأى الحيرة الممزوجة بالخوف والاستغراب والدهشة والرعب ، وقال بصوت قوي :
لا عليك أيها الرجل ولا تخف فالباشا أراد دخول الحمام فقط .