رأيتُهم في منامي كثيراً-وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ – ورأيتُ كلَّ هذه الأحداث قبل وقوعها ،رأيتُ بشراً أقزاماً ذو وجوهٍ قبيحة يقفزون من الطائرات في مظلات لا أذكر لونها،يحملون رشاشاتٍ أكبر منهم بكثير وبالكاد يحملونها،نزلوا على أسطح منازلنا،قطعوا رأس أحدهم لأنَّه هتف بشعارٍ أزعجهم،وتدحرج رأسه بالقرب مني..
لا أعلم فيما لو كنت حيّاً، هذا الكابوس بتكراره يَسْلبُنِي كُلَّ شيء ويترك لي خوفي ورعشتي وقلماً لا زال في يدي، أمسكته بقوةٍ أكبر بعد أن ضاعتْ أوراقي، لا أدري أينَ نسيتها، ربما عند الصخرة التي لم أصلها بعد، لذا لن أعرف ما كنتُ أبغي، ربما سرقت مني، لا أعرف أبداً لماذا يسرق اللصوص إذا كانت الأشياء تعود كما كانت في بدايتها، استيقظتُ من جديد:
-كلا لا أريد، أنا لم أرَ شيئاً بعد.
أردتُ أن أكتب شيئاً، لكن لا أوراق ولا جدران ولا أي شيء حولي سوى الأثير، الذي يحتفظ بالكثير من الأصوات والأسرار التي ابتلعها منذ أزمنة بعيدة، إنَّهُ الفراغ الذي يفهم كل اللغات.
عوالم جديدة لكنني أألفها كأنني عشت فيها، أنا وصديقي نقف أمام رجلٍ كبيرٍ في السنِّ ذو ثيابٍ بيضاء، دار بيننا حوار لا أذكره، كأننا نسأله عن أشياء معينة، فقال لي:
-أكتب.
-أنا أعرف هذهِ الأشياء لقد كتبتها من قبل.
فتناول القلم، وكتب شيئاً على ورقة،صغيرة مربعة الشكل،في الحقيقة هو لم يكتب كما نكتب نحن،فهو يكتب بسرعةٍ كبيرة جداً،بحيث أنَّ القلم بمجرد أن يلامس الورقة،فتتوسع النقطة إلى تلك الكتابة التي يريد أن يعلمنا إيَّاها،استمر يكتب بنفس السرعة،نفذت الأوراق،فصار يكتب على يده وساعده وقدمه،ولم يتوقف إلا بعد أن قلتُ لهُ: -أنا سبق وأن قرأتُ هذه الآيات.
ابتسم لي قائلاً:- كلا أنت لا تعرف شيئاً.
-لكنني أحفظ هذه الآيات منذ فترةٍ طويلة، وسبق أن كتبتها بهذا الشكل.
-استيقظتُ من الحلم، وتوضأت، لأفتح القرآن الكريم، قصصت الرؤيا عليه فقال:
-لا بأس هذه رخصة لك.
-وكيف لنا الوصول إلى الحقيقة ؟
بِالسرِّ إِن باحوا تُباحُ دِماؤُهم وَكَذا دِماءُ العاشِقينَ تُباحُ
طرقات عنيفة على الباب، قبل أن أفتح الباب فتح باب مكتبي، وطلَّ عليّ وجه غير إنساني، لعله جانٌّ أو وحش بشعرٍ كثيف ينتشر في أرجاء المكان يتطاير خلفه، وعينين بيضاويتين تنبضان رعباً وخوفاً، ملئ بثقةٍ لا عهدَ لي بها، لم أميِّز في وجهه فماً ولا أنفاً، حركَّ دخوله مشاعري كافة، تلقيته بقلبٍ يكاد يتوقف من الخوف والهلع ومعرفتي وعواطفي، وضع في يديَّ أوراقاً وقلماً ودفعني دفعة واحدة، طيرتني في الهواء خلفهُ مثل شعاعٍ يتبع نيزكاً، أشرفت على المدينة، فرأيتها كلها بنظرةٍ واحدة، لا كما كنتُ أراها من قبل بقصورها ذات الجدران الفخمة، الملتفة حول حدائق غناء، وبيوت الفقراء وغرفهم الضيقة المزدحمة، نظرةٌ شاملة رأيتُ فيها كلَّ شيء، أفكار الناس التي كانت نائمة، والذين ازدحمت بهم الأسواق،- قَدْعَلِمَكُلُّأُنَاسٍمَّشْرَبَهُمْ-كأني رأيتُ كل هذا من قبل في أحد أحلامي،فجأةً تركني ورحل،حالة انتظار طويلة،في قاعةٍ جدرانها كبيرة وعالية في زواياها نباتات صفراء ذات أوراق كآذان الفيل،تتحرك ذات اليمين وذات الشمال،وقد ارتفعت أغصانها إلى السقف،ساعدتها الجدران في الامتداد والتسلق،كراسٍ زجاجية كبيرة زرقاء تنتشر زرقتها في المكان،تبعث إحساساً بالهدوء،لافتة ضوئية مستطيلة الشكل كتب عليها :
ممنوع الكلام، بخطٍّ مزخرف جميل وقبالتها لافتة أخرى كتب عليها:
لا يَطربونَ بِغَيرِ ذِكر حَبيبِهم أَبَداً فَكُلُّ زَمانِهم أَفراحُ
لفت نظره شخصٌ يجلس على كرسيٍّ كأنَّه حلقة صغيرة في أرضٍ فلاة، كم تمنى لو يتكلم معه لكنه تذكر اللافتة فأعرض عنه، الانتظار يسبب الصداع، والجنون، خاصةً إذا ما صاحبه الخوف، وقبل أن ينتهي شريط طفولتي السينمائي ويغادرني للمرة قبل الأخيرة، لم يتبَّق لي فضيلةٌ سوى الكتابة التي أعجز عنها، غرقت المدينة في مستنقع الفوضى، وارتسمت على وجه الناس علامات البؤس والذل، كم تزعجني موسيقى الجاز التي تزداد صخبا كلما توقفت عن التفكير في السفينة التي أبحرت نحو القاع، ظلماتٌ بعضها فوق بعض، والبحارة غرقوا وهم سكارى يرددون نشيد البحر بصوتٍ حزين، ابتلعهم البحر كأمثالهم طعاماً لأسماكهِ التي رددت أغانيهم بسخرية واستهزاء، وحمائم السلام التي طالما أبهجتنا على شاشة التلفاز، صارت غرباناً ملأت سماء المدينة المهجورة، ثقبت قلوب الناس بمناقيرها المدببة الطويلة، وتخطف الفرحة من عيون ألأطفال، وتكسر أصص الأزهار وتطرح برازها في كلِّ مكان، تنتظر المدينة عازف الناي ليخلصها من قبائل الجرذان، كان يجب أن تحترق المدينة بدلاً من أن تصبح جحراً للجرذان.
النهر يقسم المدينة نصفين، يحاول أن يروي الأرض العطشى وكدأبه تهزمه الصحارى، ولا يعرف كيف يتخلص من الجثث التي انتشرت على ضفافه منذ آلاف السنين، لا يكترث بها ويستمر في جريانه، تخطفتني عجوزٌ قبيحة، أجلستني على الجسر الوحيد الذي تبقى من عدة جسور، وضعوا رأسي في حضني، صبت قليلاً من مياه النهر فوق رأسي، حلقت رأسي بموسى صدئة تركت في جروحاً عديدة، كلما أردت أن أصرخ أو أتكلم أتذكر اللافتة الضوئية، فأمتنع، ثمَّ جاءت بأربعة طيور وذبحتها وفق رأٍسي، وسال الدم على وجهي ونثرت الريش فوق صلعتي، ثم ضحكت بصوتٍ عالٍ، طردتها فتاة جميلة ترتدي سواراً من ذهبٍ في شكلِ أفعى، وأخرجت من جيب بنطلونها الجينز، مناديل معطرة بأجمل عطرٍ ثم راحت تمسح لي وجهي فإذا بالشعر ينبتُ فيه من جديد، قالت لي وهي تبستم:
-لا تغضب إنها طفلةٌ بريئة، وإنما فعلت ذلك بدافع التسلية ليس إلاّ..
أردتُ أن أصرخ في وجه، لكنهاها ابتسمت ووضعت يدها على فمي كأنها البلسم.
-لا تنسَ اللافتة الضوئية، فتهلك.
ثم قالتْ لي وهي تطير مبتعدة عني:
-لماذا ليس لك جناحان مثلنا ؟
هبَّتْ ريح خفيفة فيها رائحة النهر الذي طالما ذكرني بحكايات طفولتي، حملتني، تمسكت بقلمي وأوراقي بقوةٍ خوفاً عليهما، وصلتُ إلى عالم ما وراء النهر حيث تلك القرية التي كانت تعمل الخبائث، فوخزني قلبي وانقبض بشدةٍ وضاق به صدري، عادت بي الريح ثانية إلى ضفاف النهر حيث حشود الجثث في قرية وهي خاوية على عروشها، اعترضتني فجأةً ابتسامة الحاج إدريس:
-ألا زلت هناك يا ولدي؟ يجب أن ترجع لقد أطلت البقاء.
-سيدي ،سيد إدريس..
أشاح بوجهه عني وسمعت منه همساً عذباً: لا إله إلا الله.. لا إله إلا الله.. لا إله إلا الله
-كيف حالك يا سيدي؟
لكنني لا زلت اسمع صوت السيد إدريس مختلطاً مع الصدى، همسٌ عذب:
لا اله إلا الله .. لا اله إلا الله ..
-سيدي كيف أصابنا هذا البلاء ؟
-وَمَاكَانَ رَبُّكَلِيُهْلِكَالْقُرَىبِظُلْمٍوَأَهْلُهَامُصْلِحُونَ .
-ومن أين تأتينا كل هذه الطيور المتعددة الأوطان يا سيدي؟
-واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ .
-سيدي لا طاقة لنا بها.
-وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ وَكَأَيِّنٍ مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ-
-سيدي أين تذهب لا تتركني هنا سأضيع في هذه المتاهات.
رحل السيد إدريس وبقيت ابتسامته في إحدى خانات ذاكرتي ،رغم إني لم أرهُ حقيقةً إلاّ بضع مراتٍ فقط،لكن ابتسامته الشجاعة لا تفارقني...