بتـــــاريخ : 10/12/2008 8:23:13 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1317 0


    التي لا يذكرها الناس

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : عبدالكريم يحيى | المصدر : www.arabicstory.net

    كلمات مفتاحية  :
    قصة التي يذكرها الناس

     

    الأب في المقهى يلعب الطاولة، ابنه زياد يلعب الدومينة، ابنه أكرم يلعب البوكر، خالد على السطح يلاعب الطيور، ويمسك بيده رايةً كبيرة، ويصيح على طيوره التي تحلِّقُّ في السماء الزرقاء، وهو يُلوِّحُ برايةٍ كبيرة أمسكها بيده، والأم!! ماذا تفعل الأم؟ تمسح العَرَقْ عن جبهتها وهي جالسة تغسل الملابس في البيت. والأب، ماذا يقول الأب ويثرثر في المقهى؟ الأب ليس لديه كلامٌ يبهجه أكثر من تفاخره بشجاعة أولاده، الذين كانوا في الجيش سابقاً، واليوم كذلك، والكلُّ ينفثُ الدخان في موقعه، الأمُّ أيضاً تنفثُ الدخان وهي تغسل الملابس، الأولاد ووالدهم ينفثون الدخان، والأمُّ أيضاً ألقَتْ للتو عقب السيكار، وهي تغسل الملابس، ولا شيء غريب...

     

    مع دخول الملثمين إلى المقهى، اختفى ضجيج المقهى، سَكَنَت الأصوات، واختنقت الحناجر، في لحظة بعيدةٍ عن عين الرقيب، ابتلع الأبُ ريقه بصعوبة بالغة، صَمَتَتْ عربدة أحجار الدومينة والطاولة والزار، قتلوا زياد، تبعثر مخه على الأرض، وأجزاء منه التصقت بالمنضدة، أطلقوا في الهواء عيارات نارية، خرجوا، أكرم حاول الوقوف، وجه إليه أحدهم فوهة بندقيته، بعد المحاولة الموءودة، خرج يلاحق سيارتهم التي انطلقت مسرعة، بشتائمه، وتهديداته وهو يبكي ويفكر في استغلال المنحة التي يمنحونها للشهيد كي يتزوج، كان رقم السيارة (2003/فحص)، الأب يبكي ويحتضن جثة ولده الصغير، خالد نزل من السطح، أسرع نحو المقهى، الأم ماذا تصنع الأم الآن؟ لم تكترث وهي التي اعتادت صوت الرصاص، وبقيَ في يديها ملابس أكرم، الذي سيلتحق غداً بالواجب، الناس تفرقوا بعد قليل، الأب جالسٌ على الأرض، ترتعدُ فرائصه خوفاً، عضلته بين الثدي والكتف، ترتجف، وَتَوَاصَلَ نشيجه، لم يهدأ إلا بعد أكثر من نصف ساعة. الأب والأم يذهبان الخميس إلى المقبرة، وتشرق الشمس وتستمر الحياة، ولا شيء غريب، كلُّ شيءٍ يبدو طبيعياً...

     

    الأب في المقهى يلعب البوكر، وابنه أكرم يلعب الطاولة، وخالد على السطح يلاعبُ الطيور، ممسكاً بيدهِ رايةً كبيرة، يصيح بين فترةٍ وأخرى، مُلَوِّحاً بالراية: هاع، هاع، هاع، وعيناه تحلقان مع الطيور، الأم تغسلُ الملابس، دخلَ الملثمون إلى المقهى، قتلوا أكرم، وامتلأ جسده بالثقوب، ووجهه ماذا فعلوا بوجهه؟ امتلأ وجهه الطفولي بنقاط حمراء كغرز الإبر، ومن الخلف تناثر مخه في الهواء وتساقط على الأرض، نفذت ثلاث رصاصات في خشبة الطاولة، بصقوا في وجه الأب الحزين، وشتموه، خالد هَرَع إلى المخزن وهو يقول لنفسه(قلتُ لهما لا تذهبا إلى المقهى اللعين)، أخرج بندقيته، أسرع إلى المقهى، كانت أمُّه قد وَصَلَت قبله، وهي تبكي فوق جثة أكرم الذي لم يتجاوز العشرين من عمره، بعد قليل تفرَّق الناس، المقهى أغلقَها صاحبها، ليفتحها في الصباح، وكأنَّ شيئاً لم يحدث، لا شيء غريب والأمر يبدو طبيعياً، الأب والأم يذهبان إلى المقبرة عصر كلِّ خميس، وبقية الأيام الأب في المقهى، والأم تغسل الملابس، وخالد يصرخ على الطيور، ولا زالت الراية الكبيرة بيده.

     

    علقوا ورقة تهديد على جدار المسجد، وكان اسم خالد على رأس القائمة، في الليل انتقلوا إلى منطقةٍ أخرى، مع قوة حماية تتوسطها السيارة الكبيرة التي حملت أثاثهم، لكنَّ خالد حمل أقفاص الطيور في سيارة خاصة، في المنطقة الجديدة لم يكن أحدٌ يعرفهم، الأب ترك لحيته، وقصَّر من ثوبه، ويصلي في المسجد إلا صلاة الفجر، والابن خالد لم يعد إلى البيت إلا يوماً أو يومين في الشهر، ولم يره أحدٌ خارج البيت، والطيور وضعهم في غرفة خشبية، صنعها له صديقه النجار، قصَّ أجنحتهم، وتركهم في حديقة المنزل، وفي الليل تدخلهم أمه إلى الغرفة الخشبية التي صنعها خالد للطيور.

     

    خالد يرفض الزواج، ليس للأسباب التي ذكرها لأمِّه، بل لأنَّ كابوساً كان يرعبه، يشلُّ حركته لبرهةٍ من الزمن كلمَّا انتابه، في اليقظة والمنام، يحلم بأنَّ شخصاً يوجه له فوهة مسدس من الخلف أو من الأمام، ورأسه ينفجر ويتبعثر كرأس أخويه، كان يخجل من أن يخبر أحداً بكابوسه، وكان يردد هذه الآية(قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ)، ولم يعلم أبداً أين وكيف عَلَقت في ذاكرته، وكان يرددها لا إرادياً كلما غَفَلَ عن نفسه، وحين ينتبه وهذه الآية على لسانه، يرتعدُ خوفاً ورعباً، وأحياناً تنتابه حمّى ويمرض لأيام متتالية...

     

    تعساً أيها المتمردون، هذه جلبة الفوضى تسمعون صوتها من التلال والأودية القريبة، ومن الشوارع والمحلات الضيقة، ومن الأقبية المظلمة، آسف سأنهي القصة، وانتهي من الكتابة، لأنَّ أحدهم يطرق الباب، وربما كان قاتلي، أو لأنَّ باليه كارمينا بورانا للألماني كارل أورف بدأت ببثه قناة الموت الموسيقية...طارق الباب كان أحد الجيران فحسب، مرحى أيها القتَّال الضحَّاك...

     

    الشمس أوشكت على المغيب، الأب يجلس قرب الباب ينفث دخان سيكارته، الأم تكنسُ غرفة الدجاج في حديقة البيت. خالد على السطح يلاعب الطيور، طلقة أصابت رأس خالد فسقط على الأرض، ربما كانت طائشة وربما كانت طلقة قنَّاص، والأم لا زالت تنظِّف غرفة الطيور، والأب ينفث دخان سيكارته. وفي الليل يتشاجرُ الأب والأم من أجل المصروف اليومي، وفي النهار ينفثان الدخان، ويوم الخميس يذهبان إلى المقبرة.
    كلمات مفتاحية  :
    قصة التي يذكرها الناس

    تعليقات الزوار ()