لأنه كان يفكر وقت أن بدأ العزف ، نسى أن يقف ،
فى ثانية نزلتْ كفٌ على قفاه ، فاق ، لف رقبته،
لكن زغللة عينيه لم تر غير حيطان واقفة من خلفه..
هب واقفا وردّد زاعقا:
بلادى بلادى..
وظل يردد حتى إنتهى العزف، والحفل إنتهى.تلفت حواليه ، وانفلت مع الخارجين من المكان .
فى الطريق تعثر مرتين ؛ من بلاط الرصيف مرة ، ومن نفسه الأخرى ،
ورآه المارة كأن له وجهين ؛وجها للأمام ،ووجها للخلف، وهو رأى المارة أشباحا..
دفع باب مسكنه .أغلقه بقوة، وانصلب عليه لفترة.
رأى فى الصالة كرسيا واقعا ، رفعه وقربه الى الطاولة ..
مشى خطوة ،ثم عاد وخبطه بقدمه ليقع ثانية.
أحس أنه مخنوق ،يريد أن يعيّط ..
راح الى حجرته ، فتح شبّاكها عن آخره .وجد شباك جاره العجوز المقابل له مباشرة مفتوحا،
ورأى العجوز غارقا فى النوم على الكنبة، وعلى صدره ترك الراديو الصغير بصوت مرتفع ..
تطلّع فى البيوت من حوله، أحسها كالقبور ..
عاد يفكر فيما كان يفكر فيه من قبل ..
رأى الوردة الوحيدة فى الأصيص المعلق فى حديد المنشر تبدو نائمة ،حاول أن يعدلها ،
ويوقف فرعها ..إنفرطت فى يده ..
طوّحها فى الهواء ..راقب أوراقها حتى لامست الأسفلت .
أحس أنها كانت ميتة منذ زمن ، وأحس أيضا أن جاره هذا ليس نائما بل ميتا .
إرتجف .. ضم الشباك ، وأغلقه ..راح الى السرير،
تمدد فيه ..
بعد وقت ، سمع عزفا يأتى من ناحية جاره .إنتفض.. ردّد فى نفسه:
بلادى بلادى..
إنتهى العزف ،
سحب الغطاء فوقه،
وأغمض عينيه