نَحْنُ دَائِماً نَسْمَعُ ونَقْرَأُ قِصَصَ الصَّالِحِينَ في تُراثِنَا العريقِ، ونستمِدُّ منها العِبَرَ البالغةَ، والحِكَمَ المفيدةَ، وتكونُ في قلوبِنا كالإِشْرَاقاتِ المضيئةِ.
وسَأَرْوِي اليوم قِصّةً من أروعِ ما يُمْكِنُ أَنْ نَسْمَعَهُ في حادثةٍ وَقَعَتْ قبلَ مِئاتِ السنينِ ولكنّها تؤكّدُ على المثالِ الراقي، والخُلُقِ الرفيعِ، والإيمانِ العميق.
بطلُ قِصّتنا هو الخليفةُ الراشدي الثاني عُمَرُ بن الخطّاب رضي الله عنه، وأنْتُمْ تَعْرِفُونَ يا أَصدقائي عَدالةَ هذا الإنسان الفذّ، ورَجَاحَةَ عَقْلِهِ، وصَلاَبَتِهِ في الحقِّ، وشدَّتِهِ فِي حِفْظِ الأمانة.
وفي الحادثةِ، أنَّ عُمَرَ الفاروق، رأى اُبنَهُ عبدُ اللَّهِ وفي يدِهِ قطعةُ نقدٍ برونزية، وهذا النوعُ من النّقْدِ لَمْ يَكُنْ لهُ قيمةٌ كبيرةٌ ولم يكنْ رائجاً لقلّة قِيمتِهِ، فسألَ الخليفةُ ابنَهُ: مِنْ أَينَ لكَ هذا وليسَ في جيبِ أبيكَ ولا في بيتِهِ مِثْلَهُ؟
وهُوَ يقصدُ أنَّهُ لا يملكُ مِنَ المالِ شيئاً، يا سبحانَ اللَّهِ، خليفَةٌ كبيرٌ، يحكمُ الأمّةَ، وتحتَ يديهِ أموالُها وغنائِمُها، وليسَ في بيتِهِ حتى قِطعَةَ نقدٍ برونزية، ورَغْمَ ذلكَ لم يتغاضَ عنْ وجودِهَا في يدِ ابنِهِ ويقولُ ليستْ ذاتَ أَهَمِّيَةً، بل سألَهُ بِحَزْمٍ عن مَصْدَرِها.
فقَالَ الغُلامُ، بصِدْقٍ وإِيمانٍ، فهوَ لا يخافُ مِنْ أَبِيهِ لأنَّ أباهُ يُعَامِلُهُ كَرَجُلٍ، ولم يكذِبْ لأَنَّهُ يَعْرِفُ أَنَّ الصِّدْقَ مَنْجَاةٌ، وأنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الكاذِبين.
قال: هي مِنْ أبي موسى الأشعريّ.
وكانَ أبو موسى في ذلكَ الحينِ مسؤولاً عن بيتِ مالِ المسلمينْ، وهذا البيتُ هو عبارةٌ عن مكانٍ تُخَزَّنُ فيهِ الأموالُ وكلُّ ما تَمْلُكُهُ الدَّوْلَةُ من مَنْقولاتٍ وغنائِمُ حَرْبٍ وزكاةٍ وضرائبٍ وجِزْيَةٍ.
فماذا فعلَ الفاروقُ رضي الله عنه؟
لم يَسْكُتْ الخليفةُ، بَلْ أَخَذَ بِيَدِ اُبنِهِ وَقَصَدَ أبا موسى، وصاحَ بِهِ قائلاً: «أنتَ أعطيتَ ابني هذهِ القطعة؟» فقال: نعم يا أميرَ المؤمنين، فقال عُمَرُ غاضباً، ولماذا؟ قالَ أبو موسى: أحصيتُ مالَ المسلمينَ فوجدتُهُ ذهباً وفضةً وليسَ فيهِ من البرونز سوى هذهِ القطعةُ، فلم أَشَأْ أنْ أُحَرِّرَ بها قائمةً مفردةً فَأَعْطَيْتُهَا عبد الله.
بعد أنْ سَمِعَ عُمَرُ مَقَالَةَ أبي موسى، كيف ستكونُ يا أصدقائي ردّة فعلِ الفاروقِ رضي الله عنه؟ هل سَيَهْدأُ ويمضي مَعَ اُبنهِ بعد أنْ تأكّدَ أنّ القطعةَ مِنْ بيتِ المالِ، وأنّ ابنَهُ حَصَلَ عليها بِرضى أبي موسى، بلْ على العَكْسِ، لقدْ اشتدّ غضبُ الخليفةِ، وصاح: «يا أبا موسى، أَبَحَثْتَ في أولادِ المسلمينَ فما وجدتَ غلاماً أفقر من ابنِ عُمَر؟ أَطِفْتَ في بيوتِ المدينةِ فما وجدتَ بيتاً يقبلُ الحرامَ ويتعاملُ بهِ إلاّ بيتِ عمر؟، أَمَا وَجَدْتَ في أبناءِ المسلمينَ مَنْ يستحقُّ الصَّدَقَةَ إلاّ اُبْنَ عمر؟
ثُمَّ أَخَذَ عُمَرُ القِطْعَةَ مِنْ يَدِ اُبْنِهِ، وَرَمَى بها إلى أبي موسى وهو يقولْ: «إِنّ الجُنْدَ في الميدانِ يُقاتِلُ، الْحَقْ بِهِ يا أبا موسى».
ما الذي جعلَ الخليفةَ يفعلُ ذلك؟ ولماذا أعادَ القطعةَ زهيدةَ القيمةَ إلى أبي موسى؟ ولماذا عَزَلَ أبي موسى عن مسؤوليّتِهِ في بيتِ المالِ وَأَمَرَهُ بأنْ يَلْحَقَ بساحاتِ الجِهَادِ.
إنّ وَرَعَ الخليفةِ وحرصُهُ على أموالِ المسلمينَ مَنَعَهُ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ ابنَهُ ولو قطعةً برونزية، وإِنّ تَسَاهُلَ أبي موسى البسيطُ جداً جِداً اعْتَبَرَهُ الخليفةُ تَفْرِيطاً فَعَزَلَهُ عَنْ مَنْصِبِهِ، فكانَ ردُّ فِعْلِهِ أنْ قال: سَمْعاً وطاعة.
هذا هو الحِرْصَ الذي كانَ يُسَيْطِرُ عَلَى هؤلاءِ الرِّجَالِ، فما من شيءٍ، مهما رَخُصَ إِلاَّ وَلَهُ عِنْدَهُم قيمةٌ، فما أَحْوَجَنَا إلى أَنْ نَحْرِصَ عَلَى العَمَلِ الصَّالِحِ مهما صَغُرَ وَقَلّ، فقدْ كانوا لا يَسْتَصْغِرُونَ الأُمورَ، بل يُرَاقِبُونَ أَنْفُسَهُم في كُلِّ فِعْلٍ وقَوْلٍ واعْتِقَادٍ