البريد
البريد إختراع حسن على العموم ، و قلّما ما يجد المرء من يخالف هذا الرأي . جادلت مرةً صديقاً لي يقيم في بيروت ، عندما سألني عن أكثر ما يزعجني في ألمانيا ، فذكرت البريد من جملة ما ذكرت . تعجّب و بدا غير مقتنع ، و سألني عن السبب .
- لا أعرف ، ربما سوق هذا الرأي هنا سوف يكون غريباً و بل مستهجناً ، إذ إنني أنا نفسي ، عندما كنت هنا ، لطالما تمنيت من جملة ما تمنيت أن يكون لي صندوق بريد خاص ، تصلني ، أو لا تصلني فيه رسائل من مجهول ، .. و قد يحلو لي فقط ، أن أظل أعيش ، على فكرة كولونيل ماركيز ، الذي لا يزال على ما أعتقد ينتظر رسالة أحدهم ، غير أنّ الأمر هناك ( في المانيا) ، يبدو مختلفاً تماماً ، إذ إنني لا أذكر أنني تلقيت رسالة حب أو ما شابه في بريدي ، و أكثر ما أتلقاه هو فواتير للدفع ، و أنا في الحقيقة بتُّ أتوجس شراً ، في كل مرة أفتح فيها هذا الصندوق العجيب .كذلك كنت أشعر بسعادة مزيفة ، عندما أجده فارغاً أحياناً ..
كان صديقي يتابعني ، لكن رغم ذلك ، لم يبدُ عليه أنه عدل عن رأيه ، و ظلّ على برودته من الموضوع ، و بدا حكمه الصامت ذاك ، كأنه يقول ، بمبالغة رأيي ، و أنني ربما أقول هذا فقط ، كوني موجوداً هناك ، و عندي صندوق بريد خاص ، سوف أعود اليه ، حالما تنتهي زيارتي هنا .
في الواقع ، البريد أهم مسألة يُسأل المرء عنها هنا . في كل دائرة حللت ، يكون السؤال الأول دائما ، عن العنوان ، أي عن البريد . و كل مواطن يدخل الى هنا ، يجب أن يبلغ الشرطة بمكان إقامته ، أي بالبريد الذي يمكن مراسلته عليه ، هكذا حصل معي في زيارتي الأولى الى برلين ، و كنت فيها زائراً ، سائحاً ، كما يقولون ، لكن ، الرسائل و حتى الإعلانات ، ما انفكت تلاحقني ، حتى بعد رجوعي الى لبنان ، هذا ، على حد زعم أختي ، التي كنت أقيم عندها .
- من أين تأتي الرسائل الى صندوق بريدك ، إن كنت مقيماً في المانيا ؟
سؤال وجيه ، وجهه صديقي اليّ . عدلت جلستي ، كما يفعل المرء عندما توضع صينية محمّلة بطعام شهي . و قد دبّت الحماسة فيّ ، بعد أن حسبت أنني قد أخرج بماء وجهي من هذه المنازلة غير المتوقعة ، التي زادت برودة محدثي في وطأتها ، فراحت تدور في زمن بطيء رتيب .
- هه ، سألتني ، من أين ! اليك من أين ، رسالة من شركة الكهرباء ، و أخرى من شركة الهاتف ، و أخرى من شركة النقال ، إذا كنت مشتركاً ، رسالة من تأمين السيارة ، إذا كانت لديك أصلاً سيارة ، رسالة من مصلحة الضرائب على الالات و الأجهزة الإلكترونية ، و بهذا الصدد ، طوّر الألمان جهازاً يكشف عن هذه الأجهزة ( الكمبيوتر ، التلفزيون..) الموجودة في الشقق من الشارع .. الخ . أمّا أكثر ما كان يثير حفيظتي ، هي تلك الإعلانات الممهورة بإسمي و المرسلة على عنواني قأخالها رسائلاً خاصة مرسلة من دوائر حكومية.. لكنها في الحقيقة إعلانات لمسحوق جديد أو عرضاً لشركة هاتف .. هذا هو الصندوق الذي كنت ألعنه .
شعرت كأنني ظفرت بناب الأسد ، غير أنّ صديقي ما انفك يمط شفته السفلى الى الأمام قليلاً ، و ظننته لن يقول بعد هذا ، لكنه فعل :
- إيه ، و ليكن ، فهذه الفواتير ألتي تأتي اليك لتدفعها ، تكون قد استخدمتها و استمعتت بها ، و هذا يعني أيضاً أنها متوفرة و موجودة ، أيّ أن الكهرباء التي تدفع فاتورتها هناك ، تراها و تستنير بنورها طوال الشهر ، و كذلك الهاتف و المياه .. الخ ، غير أنك تدفع هنا لساع آخر ، أو جاب لهذه المستحقات ، حتى دون أن تسمتع بها أو تشهادها ، .. و كل ذلك بلا صندوق بريد لا ترى فيه وجوه الساعين على أبواب الخلق .
تصّرّمت كصّرة ، و غرت في المقعد أفكر ، على أمل أن تتدخل صديقتي الجالسة قبالتي ، لندخل في موضوع آخر ، أو ننصرف .
لكنها لم تقل شيئاً و بدت منشغلة أكثر بما كان بين يديها ، لكنه شعر بأنها ليست راضية عن نهايته ، فقال ، يختم الجدال ، مقدمة للإنتهاء من هذه الزيارة :
- على كل حال ، البريد كان موجوداً هنا قبل الحرب ، و انا أرى أنه يعود ، و سوف يعود لا محالة ! فلا تخف ، فإنه قادم أكيد يتقدم قطار العولمة و ما بعد الزراعة و الحمام الزاجل ، آتٍ بكل فواتير الدفع و كلام الأحبة المراهقين و أشعارهم السخيفة !
- انا لست خائفاً من البريد ...
قال بعد أن وضع يده تحت ذقنه ، قاطعاً جملته الى مقطعين ، و بدا أنه لم ينهي كلامه ، فأردف :
- و لكني أخاف أكثر من وجوه الساعين . فليأتِ البريد لا بأس به عندي!
- و لكني أكاد أكون متيقناً ، أنك ستلعنه كما أفعل ، عندما يأتي !
- يأتي و ألعنه ، لا ضير ، من أن ألعنه و هو غير موجود بعد ، و هو إن أتى بكل الخدمات التي ذكرتها ، فهذا يعني أننا سندخل في عالم لعنة ما بعد الخدمة ، و هذا أمر جيد ، لابأس فليأتِ و لنلعنه كما نشاء حينئذ !
قال بحماسة غلبت برودته السابقة و بوتيرة أسرع هذه المرة ، فيما كنا على وشك أن نستودعه