في ليلة داكنة من ليالي خريف المدينة البحرية ، و فيما كان نفر من أهل المدينة ينهزم الى رصيف البحر. خرق نيزك طائش بكارة السماء ، فتذرّت نبضاته و أنتثرت على صفحة الماء ، في عملية تلاقح و حب عذريين . قال احدهم :
- إنها السماء ، تُبارك أعمالنا و نيّاتنا. فيما أستبشر بإشارة السماء هذه ، راع مسكين كان يجوب بقطيعه رابيةً نائية . فسهى عن القطيع برهة ، غار فيها في غياهب النيزك و سرى خلفه . وحده قنفذة ، لم يلحظ أمر النيزك البتة ، إذ كان مشغولاً عنه بسهام و نيازك أرضية أخرى ، كانت طاغية و طافية على سطح بحر عالمه. وظلّ شاخصا بنظره الى الجبل المضاء بنجوم من الأرقام ، تُرصّع صدر الصحن العلوّي المشرّف . كانت الأرقام تتلألأ في رقصة مثيرة و شامتة . لكن قنفذة كان يتوعدها بالنيل منها على رأس جبل زعفص العظيم ، إله التمر و الزبيب . و سار الرفاق الى ديك القهوة الصباحية يتندّرون حول سبب إنقطاع صياحه منذ زمن بعيد .
ردّ بعضهم السبب الى النيزك المشئوم . إذ لوحظ منذ ذلك الوقت أيضاً فقدان سمكة المواسطة من شباك الصيادين . إصطّف العائدون من ليل المدينة عند ديك القهوة المالحة ، إصطّفوا بدور مثلوم . مُرّة ، فمُّرّة ، و "على الريحة " ، و دون الوسط بقليل . و لكن لا وسط و لا توسط فيها أو أوسط في أمورها . سوداء كالحة ، يُحاكي سوادها رماد تلك الغيوم المتنقلة في السماء ، كعاهرة كونية . مشوا على الرصيف يتأبطون قهوتهم ، بخفة النبلاء و أنفة الهررة ، كأنما يخشون أن توقظ أخفافهم الآثمة أسماك ما تحت جسر الليل .
قال مطرانهم :
- هذا لم يكن نيزكاً ، و إنما السُّذج من الناس أو من يُسمون بالعلماء ، يقولون ذلك ، لكنه حجرٌ طائش آخر في متاهات السماء ، إسفين سماوي حبيب ، تسلل خلسة عن نظر الأجهزة الأمنية ، و عيون السلطان ، ليسقط في عين المدينة . إنه " فلتة " ، و ما علينا - نحن ورثة النظريات العلمية- إلاّ إحتساب ترددادتها ، و عدد تكرارتها لنصل الى صياغة قانونها الطبيعي ، لنعرف بدقة متناهية متى يجب علينا وضع الرهانات .
المطران هذا ، كان فيما مضى من أتباع ديانة أرضية أتباعها في طور الإنفراض ، ديانة كانت تقول بجور السماء و جنّاتها ، و بضرورة إنزال هذه الجنّات الى الأرض لتصبح في متناول الساذجين في هذه الأرض و عبيدها . لكنه آل بعد هذه التُّرهات و الأباطيل ، الى دوامة يُحصي فيها إحتمالات ترداد فلتات الجياد الآلية في آلة الشيطان و الله القدرية الملّفقة .. فأنتهى مطراناً لقبيلة من بني" طويل البال " .
و قال تاجر منهم : هذا وميض شعاع قرط سماوي جبار . علينا تجميل بشاعة العالم !. فعمد الى إحتكار عقود و أقراط الهند و الصين تحت سريره في الغرفة الضيقة ، و التي كانت تضيق بإستمرار رهيب . حتى و إن إنتقل الى صروح أمبراطور الصين و بلاط نابليون الملك ، بقيت جدران الغرفة تضيق عليه و تنقبض و تنكمش عليه كجدران هاوية تسعى لإبتلاعه .
أمّا بهلوانهم فقال: إنه سهم مارق في السماء . فعمد الى عامودي البورصة العملاقين . المعلقين ما بين الأرض و السماء . يرجهما رّجاً حتى هويا بكل أسهمه و أسهم الملايين . مساهماً بذلك بدك معمادين من معاميد الحضارة و عاد الى حيث شوهد صياح الديك آخر مرة ، يبدأ البحث من جديد .
أما بارونهم النبيل فرأى أن سر إنقطاع الديك عن الصياح ، لا علاقة له بالنيزك الغريب ، و أنه ليس سوى وهماً ، يٌروّج له السلطان ، لذرّ الرماد في العيون . أو الصخور في الآذان . فانتدب نفسه رسولاً لهم الى السلطان ليقف على حقيقة الأمر و ليعمل على التغيير و الإصلاح في أمّة جده من الداخل . فغرق في دوّامات براقع و أبراج القصور السلطانية . و تغطرست عليه الأخلاق الحميدة ، و تطاولت على هامته القيم النبيلة . لكنه لم يخشع و لم يركع ، لوظيفة أو خليفة أو تمثال حبيب ، أو قريب . و دأب على السعيّ المبارك و الدؤوب ، تحت الشراشف و فوق الوسادة و على ضؤ اللمبة و تحت جنح النهار . لكنه لم يجد أثراً من ذيل النيزك ، و لا ريشة من ريش الديك ، فانبرى يبحث عن السر في طنين أذنيه ، حيث وجدت آلة الطب الحديث رذاذاً من نتف صخرية . فقال ؛ لبراءة مفطور عليها ، و طيبة تغلب التطبع فيه :
- إنها أعجوبة السماء . وأنّ صخور أذنيه ما هي إلاّ بقايا النيزك ، و ما طنينها سوى ترداداً لصياح ذاك الديك المسكين . فآمن و دخل في دين رعدود . و اغرورقت عيناه بدموع الإيمان و حب الدين و الدنيا . و راح يدعو بالبيعة لموعود العصر و الزمان . و أنّ من دخل بيت قنفذة فهو آمن .
.. مع هذا ، ما لبث يشرح للراعي الغريب ، رأي السلطان ، إله الصناديق الآلية المتحركة في مصابيح السماء . و يقول له ، أن هذه ليست مصابيح و إنما كتل من صخر هائم و كبريت نار خاوية . تهيم هكذا على وجهها و حول نفسها دون قرار أو جدوى أو جواب . مُحاولاً بذلك أن يقضي على سعادة و هناء الراكن في نومه و حلمه الى سكون هذا الكون و إلى بهاء تلك الأقراط و الحلي السماوية ، التي كان – في جلباب عقله - يظنها ، زينة قبة سماء قطيعه .
فغاب الراعي في غابته و هو يقول ، غير آبه أو مصدّق بهذا التجديف :
- أنا لا أعرف ما تقول ! . و لا أنت فاهم ما أقول ! . و لا أنا قائل ما تقول ! لك سماءك و لي سمائي . التي رغم أنفك و أنف شياطينك السوداء اللعينة ، لا تنفك أبراجها ترّقع عباءة صوف السماء. و تضيء سلام غابتي بأبراج من نور و فضة و ماء أزرق ينساب و يترقرق مع شذا لحن الناي كالغدير .
لكن البارون ما انفك يلاحقه و يطالبه النظر و التحديق في منظاره الآلي الطويل :
- آه لو ترى معي ، يا صديق الغابة الأخير ، و لو لمرّة واحدة صدر السماء العاري ! . لعرفت وسع هذا اليوم ، ومتاهة هذا النوم ! . و قصر يومي و يومك . و طول الأعمار . و لأتضحت لك قصر قامتك و قامتي ! آه لو تحدق معي ، يا رفيق أنهار اللبن ، و يا راعي السمن و العسل ، الى عورة السماء! . لترى وجه الحقيقة المظلم ! . و تغوص في اعماق فوهة العدم ، تفضّ غشاء الوجود ! لتعرف كم نحن ، حقاً عظماء ، و إن كنا نبدو دون أصغر الحشرات ضعة و خسة و ضعف!
كان البارون يتابع ملاحقته و مناشدته للراعي ، الذي كان يمضي قدماً في طريقه و كأنه يسير في وادٍ آخر . لا يسمع شيئاً ممّا يدور حوله . غير دبيب الحشرات التى خرجت من أوكارها مستجيبةً للحن الناي ، تسير خلف القطيع ، فيما يجرجر هذا الأخير خلفه ، سلاسل قيوده المخادعة .
كان الراعي يشدّ على أوتار الفجر . فتسري نسائم الحانه بين التلال و بين دفّات الأثير .
أما طبيبهم الأنيق ، فقد قال :
- النيزك الملعون هذا، هو جرثوم مرسل من مجرّة منافسة . أرسلته للتأثير على أعضاء رفاق ساعات الصباح الأولى التناسلية . فحمل على تدخل مرجعية السماء الأرعن في حلبة الصراع على التطور في الحانات الليلية ، و انبرى الى عقار تجاري كان يُروّج له في تلك الأثناء . فساعد هذا العقار الجديد بعضهم في معالجة حاجات المرأة المتزايدة بإضطراد مستمر . فيما شهد البعض الآخر منهم تلفاً شاملاً في أعضاء كثيرة ، و من سعادة الصُدف ، و لطف الأقدار ، أن هذه الأعضاء لم تكن ذات أهمية قصوى و أمكن بالتالي مواصلة البحث عن السر الدفين .
و قد وصف عابر سبيل من قبيلة نائية و بعيدة الحالة و العوارض على الشكل الآتي :
أولاً: في العوارض :
- نذالة في المفاصل و بين المنكبين .
- سعال مصحوب بنوبات حب هستيرية للاخرين ، تصل الى حدود العبادة أو الطعن في الظهر بلامبالاة متناهية .
- نكران عظيم للذات و مقتها الى حد التشكيك بوجود أحد آخر في هذا العالم .
- جلسات مستطيلة في حب الوطن . و جمع الشمل ، وصلت الى حدّ جمع التبرعات لاستدعاء راع منفي في غابة ، و جلب مواطنين من بلاد مجاورة أو حتى بعيدة.
- إنقطاع طمث الأحلام و دورة الأيام العادية .
- إنقلاب في مواقيت العباد الأزلية ، إذ غدا ليل الآخرين نهارهم و نهار الآخرين ليلهم .
ثانياً: في الجوهر :
- ورم خبيث قي أوردة النُبل و الأخلاق الحميدة يتظاهر على شكل دودة .
ثالثاً: تقرير الأجهزة المعنية حول سُبل العلاج :
نظراً لإستفحال الحالة ، و ثبوت عدم نجاع الوسائل التقليدية . كالعزل أو الحرق النووي ، أو إتلاف جيفهم في البحر . إذ أنّ جيفة الواحد منهم كفيلة بتلويث هذا البحر المسكين . نقترح و الحال هذه ، إعتماد الكبريت و التفتيت الشعاعي ، و توزيع النثرات على كواكب و مجرات معادية و حليفة ، للمساهمة في هذه الكارثة الكونية . أما على أرضنا الحبيبة . فسوف نعمد الى تحليل خلاياهم و توزيعها في قطع الحلوى و الشوكولا ، و تُعطى للأولاد عند ولادتهم تكون بمثابة الطعم لهم ضد إنتقال أي أثر من آثار تلك اللوثة . و ذلك لتجنب ما حصل في حالة الراعي الذي تخلّى عن قطعيه و لحق السراب . فبدأ التحول يبدو على سماته شيئاً فشيئاً فتحوّل بدايةً الى أب و من ثم الى كلب مؤدب و لكن دون ذيل . و من ثمّ الى ذيل و لكن بلا شنب ، فكوكباً بلا مدار ، و أخيراً تحول الى نزلة برد شعبية ، فعمت المساوة و ارتضى الجميع .
و منذ ذلك الوقت درج الصبية على اطلاق الأهازيج المناسبة . في كل يوم من كل عام . مع صياح كل ديك و ذهاب كل راعٍ . فيما دأبت الجدّات العجوزات ، الماكرات ، تُحدّث بأخبار و عبرة ذاك الراعي المخبول ، الذي أراد التحديق في وجه نفسه ، في مرآة السماء . ففقد بصره و هجر