بتـــــاريخ : 10/14/2008 6:09:55 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1415 0


    قم للمعلم ووفه التبجيلا... !؟

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : سمية البوغافرية | المصدر : www.arabicstory.net

    كلمات مفتاحية  :

    قم للمعلم ووفه التبجيلا...

     

     

     

     

    قم للمعلم ووفه التبجيلا   

    * * *

     

         كاد المعلم أن يكون رسولا

     

                       

     

     

     

     

     

     أسابيع مضتولا شيء في جدول الأعمال عدا الأناشيد والأهازيج...  مدرستنا أضحت كعروس نعدها لنزفها قريبا إلى عريسها... اليافطات والرايات في كل مكان.. يد الترميم والتطهير والتلوين سرت على آخر بقعة فيها... في أجمل الحلل، مضينا لاستقبال العريس... اصطففنا أمام بوابة مدرستنا خلف مديرنا ومعلمينا نهلل ونطبل.. وكلما اقترب الموكب بصخبه خفقت القلوب وتعالت التصفيقات واحتدت حناجرناوسخنت الأيادي المعطرة لتستعد للتبرك ببركة العريس...مضى الموكب من الشارع كالبرق الخاطف المصحوب بالرعد القاصف ممطرا مديرنا ومعلمينا الذين تعطروا بأجمل العطور بالغبار المتطاير.. فغضبوا ودفعوا بالقطعان إلى الحظائر وعادوا يسعلون ويلطمون ويجدبون ويندبون ويعضون أياديهم المعطرة التي لم تلامس يد عامل" محافظ " مدينتنا النائمة...

     

     

     

     لم يمض وقت طويل حتى اجتاحت رياح التغيير قسمنا...دبت فيه الحياة بعدما كان لا يتحف إلا بالشخير ونشيد التبجيل والتلاوة.. تغير كل شيء في قسمنا... حتى جدرانه تغيرت... دبت فيها الروح بعدما كانت صامتة لا حياة فيها.. أضحت أشبه ما تكون بجدران معرض للأطفال... حيث دلفت أو التفت شدتك صور ومخطوطات تسلب العين وتسحر النفس.. أشرف على إلصاقها معلمنا بيده ووقع بعضها باسمه وأخرى بأسمائنا... وقفت مشدوهة تائهة أمام مشهد طبيعي ينطق بالروعة وموقع باسمي.. استفقت من حيرتي على صوت معلمي الخشن بأنه أورد أسماءنا تشجيعا لبعضنا على صمتنا وتصنمنا الدائمين...مكتب معلمنا صار أشبه ما يكون بمكتبة عظماء التاريخ... يسطره بمجلدات عريضة طويلةيتكبد يوميا، ذهابا وإيابا، حملها ونقلها في حقيبة شبيهة بحقيبة السفر... معلمنا هو أيضا تغير.. أضحى يتقد نشاطا وحيوية كأنه حقن فجأة بمنشط عجيب.. يراقب الشاذة والفذة.. ينعق ويزعق وينهق ويضرب طيلة الحصة.. وإذا داهمنا الوقت ودق الجرس ووجب إفراغ الفصل قاد "قطيعه" إلى فصل آخر لشحنه بما يراه ضروريا ويستوجب إدراكه قبل فوات الأوان... ولولا التعليم في مدرستنا مقيد بمواعيد دقيقة لبات معلمنا في القسم يشحن ويبرمج عقول الحملان الصغار...

     

     

     

     فرحت وسعدت بهذه النقلة في قسمنا واستبشرت خيرا كثيرا... تذوقنا طعم الاجتهاد وحلاوة السؤال والجواب... كنا نجيب على كل أسئلة معلمنا من خلال ما أصر على ترسيخه في أذهاننا من نصوص بفاصلتها ونقطتها.. نصوص اختارها معلمنا بدقة وحفظناها كالببغاوات كما حفظنا أسئلته والأجوبة عليها كما سطرها لنا في كراريسنا.. ولم ننج إلا نادرا من غضبه وفرقعة سوطه الذي لا يفارق يده.. كم هو صعب أن يحفظ  المرء تحت زمجرة السياط ما لا يفقه!؟.. كنت أشعرأني أتسلق جدارا من طين في يوم ممطر.. فما أن أطمئن إلى إحكام قبضتي على فقرة وينتابني سرور بالانتهاء منها لأعيد الكرة مع فقرة أخرى حتى تنزلق مني الأولى كأني ما رأيتها، فأعيد تخزينها لتنزلق الثانية وأخرج صفر الذهن بعد يوم كامل من عملية التخزين والتفريغ... وإيثارا لسلامة أجسادنا من نيران سوط معلمنا، ومن عواقب غضبه عنا شحذنا ذاكراتنا وشحناها...

     

     

     

    وكم كنا نحسد زميلنا بوعريقة الذي كلفه معلمنا فقط بإلقاء كلمة الترحيب بدعوى أن صوته شجي ما كان ينبغي أن يبح بحفظ غيرها. وكانت الكلمة سهلة المنال وحفظناها معه من كثرة ترديدها على مسامعنا:" أصالة عن نفسي، ونيابة عن معلمي الفاضل وإخواني الأشقاء أرحب بضيوفنا الكرام..."

     

     

     

    ها هو الضيف الكريم يقتحم علينا القسم في معطفه الأسود الطويل متأبطا محفظة سوداء غليظة ثقيلة! وها هي عينا معلمنا تومضان وتسطعان وتكسوان جسد زميلنا بوعريقة بشرارة كهربائية... وها هو صاحب الصوت الشجي ينتفض ويقوم يشدو باللحن كما امتصه من فم معلمنا فيما مضى:" أصالة عن نفسي، ونيابة عن معلمي الفاضل وإخواني الأشقاء أرحب بضيوفنا الكرام...

     

    ضحك المفتش واستدار وراءه كأنه يتفقد شخصا آخر ثم قال لزميلنا بوعريقة مبديا الاستغراب:

     

    ـ كم عدد ضيوفك؟

     

     فأجابه أخونا بوعريقة مرعوبا بعدما رمز له معلمنا بإبهامه إلى رقم واحد:

     

     ـ واحد سيدي..

     

     ـ الأجدر إذن، أن تقول: ضيفنا الكريم أم ضيوفنا الكرام؟

     

    أعاد جواب المعلم بصوت مهزوز:

     

     ـ ضيفنا الكريم سيدي.

     

     ـ هيا أتحفني الآن بترحيبك.

     

    فارتوى أخونا بوعريقة من عيني معلمنا المتوعدتين. فأعاد بصوت متعثر مبتور:" أ أ أ أصالة عن نففففففسي ونيابة عن معلللللمي الفا الفا الفاشل وإخواني الأ أ أ أ شقياء، أرحب بضيفنا الكـر الكر الكر.."

     

     

     

    فانفجر الضيف ضاحكا واشتعل جسد أخينا بوعريقة بشرارة عيني معلمنا فأطلق ساقيه للريح وهو يكركر...

     

     

     

     وها هو، سيادة المفتش يودعنا... وها هو معلمنا يطبق وراءه باب الفصل ويلم في عجلة من أمره ـ مستعينا بزميلنا حميدو ـ مثقلاته من فوق مكتبه ويخزنها في حقيبته السوداء. وها هي عيناه تثقلان وجسده ينبطح فوق الكرسي وذراعاه يتشابكان فوق المكتب الممسوح كرأسه الأصلع.. وها هو  يستعد لمعانقة وظيفته الحقة التي يواظب عليها دون ملل أو كلل، صباح مساء وصيف شتاء.. وها هو صرح آمالي يتبدد وينهد.. فتمنيت ـ وهل لي غير التمني ـ لحظتئذ، لو يعود المفتش بخطوات إلى الوراء أو يربط قسمنا بسلاسل من زيارات المفتشين.. ما أن يخرج مفتش من قسمنا إلا ليقتحمه الآخر حتى تظل بطارية معلمنا مشحونة طيلة السنة..

     

     

     

    فتل شاربه بوقاحة مستفزة، رشقنا بابتسامة ماكرة، لف رقبته بشريطه البلاستيكي المطاطي، توعدنا بعينيه الحلزونيتين فهوى بثقل رأسه على ذراعيه المشبوكين فوق مكتبه، وغط في نوم عميق.. وأخونا الشاب حميدو الذي يلازمه كظله طيلة الحصة، يهش عنه الذباب والناموس ويروح على جسده المشحم المتصبب عرقا ودهنا. عيناه لا تغفلانه ولا تستقران في مكان ويداه مضطربتان تحومان حول جثمانه كأنه يرقص على نغمات شخيره. يرتفع إيقاع الغطيط تتملك أخانا نشوة الانتصار والزهو. ينخفض إيقاعه يهتز داخله ويتزعزع أمله. وإذا انقطع بسبب تقصير في وظيفته انفتحت عليه أبواب الجحيم...

     

      

     

    ورغم الشخير والصفير الممقوتين اللذين يهزان الفصل، فمعلكنا، عفوا معلمنا مستعد للف رقاب ضحاياه والتقاطها من أقصى الشمال واليمين، ومن أقصى زاوية في القسم لينصب أتعسنا حظا بين يديه. وما أن تستقر شرارة عينيه على أحدنا حتى ترى جسده يرتعش وأسنانه تصطك وخزائن أحشائه سارية لا يكبحها كابح.. فيمضي إلى الحلبة كمن يمضي إلى قبره ونحن نصلي وراءه في صمت مرعب صلاة الجنازة وبعضنا يسبقنا فيقرأ الفاتحة... في حين شاخر الليل والنهار تتيقظ جوارحه وحواسه وعضلاته، فتراه هائجا مائجا يتعارك مع مثقلاته ومعيقاته ليحقق النصر في أول جولة فيكشف عن شكله البرميلي ويكشر على أنيابه ويبرز عضلاته ثم ينقض على خصمه الذي يحسن فنون الدفاع والانكماش والانطواء، فيحشوه بلكمات وركلات وضربات الرأس التي تنزل على رأس الضحية كجلمود صخر حطه السيل من عل فيتقهقر ويترنح ويتهاوى. حينئذ يفتل أطراف شاربه بلذة ويصب في جوفه قدحا من الماء كأنه يصب مشروب الجعة فيتنهد ويجفف عرقه ويشير على مجموعة "الهلال الأحمر" في أقصى الفصل لتتولى الإسعافات الأولية. ثم يعود ويتهالك على كرسيه خلف مكتبه يلهث ويزفر والشاب حميدو يجفف عرقه ويزوده بملابسه  قطعة، قطعة...

     

     

     

    قبر صلعته في عمامته واطمأن على ضحيته من تحت حاجبيه الكثيفين الأشعثين.. فتأفف متذمرا ضجرا ناهقا وعيناه تلتهمان الضحية:" ابن الكلب.. شكله دودة وسعاله زئير.. لقد كسر جناحي وكدت ألمس القمر بيدي هاتين..." ثم تفقد عقارب ساعته مستعينا بالشاب حميدو فغط.. ليستيقظ ينهق ويزعق ويسب ويلعن الجرس ومخترعه ومركبه في المدرسة والضاغط على زره... ثم أشار علينا بذراعيه الثقيلتين كمايسترو يغالب النوم بأن نتحفه بنشيد التبجيل، فصدحت حناجر نساء ورجال الغد تلعلع وتهز الفصل وهي تستقبل نسائم الحرية:

     

     

     
                                  

     

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()