وضع ذقنه الصغير على فوهة بندقيته ، وراح يفكر بالقرية والساعات القليلة التي مضت والحرب اللعينة التي اندلعت في البلاد ، قبل يومين من رحيلهم وصلت تعليمات إلى شيخ القرية بتجنيد شباب القرية وترحيلهم إلى أماكن القتال ، وأنزل منشورا بذلك ، رفضه الجميع بقوة ، من سيبقى في القرية إذا ذهب الجميع ، من سيحميها ، فاحت شائعة بأن الشيخ قد أستلم أموالاً مقابل زجهم في الحرب . كادت الفوضى أو الحرب أن تصل إلى القرية وهي بعيدة جداً عن ساحة القتال ، ووجد الشيخ نفسه في مأزق كبير ، لقد كشف أمره ، وجميعهم يعلم بحصوله على أموال ، فاجتمع بهم في ساحة بيته ، حاول بداية الأمر تشجيعهم على القتال متذرعاً بالوطن ، وزاد قائلاً بأنه لو كان له أولاد لكانوا أول المدافعين ، إلا أن أحدهم، وكان أكبر الشباب سناً، وقف صائحاً : لكنهم منا ، لا يمكننا أن نذهب لقتالهم .
ارتبك الشيخ ، وحاول إخفاء ارتباكه بشرب الشاي : لكنهم متمردون !
لكن الشاب كان أكثر تمرداً ، وهتف : وفي أي صف نحن ؟!
كان كوب الشاي ما زال في يد الشيخ ، أحس بثقله ، أجاب ببط وحذر: مع الحق .. والحق معنا !
ساد صمت رهيب ، لكن الصمت لم يستمر ، فبدأت الأصوات تعلو لم يعد صوت الشيخ يسمع ، جميعهم رافضون القتال ، كادت الأمور أن تفلت من سيطرة الشيخ ، فصرخ بهم طالباً منهم السكوت ، سكت الجميع في آن واحد ، أسرع بالقول قبل أن ينفجر الوضع من جديدً ، وبصوت منخفض: ماذا تريدون ... مقابل ذهابكم للقتال ؟ ، وأضاف لاهثاً: أنتم أحرار في قراركم !.
عاد الصمت ليخيم على المكان ، وتبادلوا النظرات المتسائلة فيما بينهم ، حتى رفع الشاب المتمرد يده ، وقال بصوت عال: أنا لا أريد من هذه الحياة سوى الزواج !!! .
اعترت الدهشة الجميع ، وزادت دهشتهم عندما أعلن الشيخ بصوت غير عادي عن موافقته بتكفل زواجه وأضاف – أيضاً – أنه مستعد بتكفل زواج الجميع اذا قبلوا الذهاب إلى القتال.
بدأت الأيدي ترتفع – بتردد – إلى الأعلى وأحياناً تنخفض ، أسرع الشيخ من جانبه تسجيل أسمائهم على الورقة ، وقبل أن يختم الورقة رفع أحدهم يديه ، وقال بصوت متلعثم كاد لا يسمع: أنا .. أنا أريد الذهاب إلى الزواج ... أقصد الحرب.
ضج المكان بالضحك ، إلا أن الشيخ قال باهتمام: تبدو صغيراً .. لكن لا بأس بك.
وأضاف بعد أن طلب منهم الصمت: وهل اخترت الفتاة ؟!.
رد الشاب بتخوف: نعم ... ابنتك !!.
صعق الجميع وكان أكثرهم إصابة بالصاعقة الشيخ ، أراد في تلك اللحظة الفتك به ، حاول إقناع الشاب بالعدول عن اختياره ، لكنه صعقه للمرة الثانية عندما وقف الجميع بصف الشاب وهددوا بالتراجع عن ذهابهم للقتال ، فاضطر في النهاية أن يرضخ لطلبه.
-بما تفكر أيها المقاتل الصغير ؟!.
أبعد ذقنه الصغير من فوهة البندقية ونظر إلى محدثه: تظن أننا سنعود أحياء ؟!.
كان سؤال الفتى بالنسبة له مفاجأة وان كانت الإجابة بلسانه تقول "بمشيئة الله" لكنه قال متهرباً عن الإجابة : كيف كانت ليلتك يوم الأمس ؟!.
بغير اهتمام أجابه : لا شيء !.
لكن إجابة الفتى لم تعجب زميله ، ونادى زملاءه وأخبرهم بحديث الفتى وسخروا من الشاب الصغير واتهموه بالضعف ، وان كانت نظرته لهم فيها شفقة ، قال بعد حين بصوت عميق : لا أحب أن يولد ابني وأبوه قد مات في حرب لعينة . سكت الجميع ، حتى انهم ظنوا أن صوت محرك الشاحنة قد بادلهم الصمت ، تبادلوا النظرات – بقلق – فيما بينهم ، جلسوا في مقاعدهم بإنفلات : لا أحب أن يولد أبني وأبوه قد مات في حرب لعينة ، كل كلمة كأنها طعنة في صدورهم .
عاد الشاب الصغير يتذكر ليلته الأخيرة في القرية ، عندما انفرد بزوجته ، بعد أن تم الزواج الجماعي في القرية ، كان قد أحبها حباً جماً وبادلته هي الشعور نفسه ، قالت وقد أمسكت كف يده برقة :لا أصدق أننا قد تزوجنا ، كنت أظن أنه من المستحيل أن نعيش معاً ، لم يقل شيئاً سحب كف يده بهدوء ، وحاول أن يخفي عينيه الحزينتين ، قالت بتوتر: ما بك ؟ لا تبدو سعيداً ! لماذا هذا الحزن ؟! .
كان يظن بأنها تعرف سبب حزنه ، والسعادة التي ارتسمت في وجهها الجميل ، سوف تذهب غداً لتحل محلها التعاسة والحزن ، هزته من كتفه أصرت أن تعرف سبب حزنه ، حاول التهرب لكنه في النهاية انفجر: ألم يحدثك عمي الشيخ ؟.
ارتعبت ... قالت بتخوف: يحدثني ؟ عماذا ؟!.
أندفع قائلاً: ألم تسألي نفسك لم وافق والدك على زواجنا .. وتكفل بزواج الآخرين ؟!.
اعترتها الدهشة .. لم تكن تعرف بأن والدها تكفل بزواج الجماعي ، وقبل أن تفيق من دهشتها ، وتعبر عن حالها بعدم معرفتها بتكفل والدها بالزواج ، شاهدت زوجها وقد غرق وجهه الأسمر في دموع فياضة ، أمسكت رأسه ووضعته على صدرها بلطف .. قالت: حبيبي ، لا تبك أنت ترعبني ! قالت ذلك ولم تستطع أن تمنع دمعة قد فرت وعبرت وجنتيها.
كانت الشاحنة ما زالت تقطع الصحراء بسرعة فائقة ، فسائقها يعرف الطريف جيداً ، وقام بإشعال سيجارته ، وقال متحدياً الصمت: لقد اقتربنا من المعسكر يا أبطال .
لم يعلق أحدهم بشئ ، فظهر أن الخوف قد أصبح صديقهم ، ومعالم الموت أمامهم –الآن- بوضوح بعد أن كانوا لا يبالون به ، إلا أن أحدهم صرخ رافعاً بندقيته على السائق: أوقف السيارة ... أوقفها !.
لكن السائق استمر في قيادتها .. وقال بثقة عجيبة : لا يمكنني ذلك .
لكنه هدد السائق بتفجير رأسه ، فرضخ له في النهاية .. قائلاً: انك ترتكب غلطة كبيرة قد تدفع حياتك ثمناً لها .
فأجابه الشاب وهو يهم بالنزول : لقد سبق وأن دفعت الثمن !.
وقبل أن تتحرك الشاحنة عائدة إلى معسكرها ، كان مجند آخر قد تركها ، وعاد الشاب الصغير يتذكر اللحظات الأخيرة مع زوجته قبل الرحيل .. أمسكت يده وصاحت متضرعة : أرجوك لا ترحل !.
قال وقد حزم أمتعته : لا يمكنني التراجع .
رمت نفسها في صدره : بل .. قال والدي بإمكانك البقاء .
أبعدها عنه برقة وتمتم : سأعود بإذن الله ... سأعود .
"وإذا لم تعد" قالت بخوف. لم يقل شيئاً ... حمل أمتعته وخرج .. راقبته وهو يركب السيارة، وكانت عيناها قد امتلأتا بالدموع ، صاحت: وان لم تعد .. سأقتل نفسي.. سأقتل نفسي، لكن صوتها ضاع مع صوت محرك السيارة .
لم يخيم الظلام بعد ، إلا أن وجوههم بدت مظلمة قاحلة متوجسة شيئا غامضا.
-لقد وصلنا ، قالها السائق بصوت خشن غامض، توقفت الشاحنة في معسكر صغير ، استقبلهم رجلً رفيع القامة برتبة عسكرية كبيرة ، تفحصهم بعينين ثاقبتين كالتاجر الذي يفحص البضائع قبل شرائها ، ثم عدهم ونظر إلى الورقة التي يحملها ، والتفت إلى السائق متسائلاً ، فروى له ما حدث بالطريق من تمرد من قبل الشابين ، فأمر الضابط بإحضارهما فوراً حيين كانا او ميتين.
حاولوا الاعتراض إلا أن الضابط ألزمهم بالصمت وطلب منهم أن يتبعوه إلى خيمته ، وتبعوه، ولم يعد الموت وحده يرهبهم ، وبدا لهم أيضاً الضابط مخيفاً ، واسترسل في محاضرة طويلة عن الحرب وعن واجبهم تجاه وطنهم
وحمايته و .. و ..و .. و ، وفي نهاية حديثه أخبرهم بأن تم وضعهم ضمن فرقة استطلاع تحت قيادة ملازم أول .
في المساء كانوا يمشون في الصحراء بأقدامهم ، ويحثهم قائدهم على الحذر أثناء السير حتى لا يوقعون في لغم زرعه المتمردون ، قال لهم بعد حين – بهمس- : هل تسمعون؟.
أجابوا معاً وكأنهم يملكون روحاً واحداً: لا ...
لكن الملازم زاد قائلاً: أنهم قريب منا ..أسمع أصوات عرباتهم ، لم يكد يكمل كلامه حتى – فجأة- أنفجر لغم .. سقط الجميع .. عمت الفوضى والصراخ ودوي إطلاق الرصاص من الجهة الأخرى ...، حتى عاد الهدوء بعد خمس دقائق .. قال أحدهم هامساً : أنتم بخير.
وتردد صوت من كل مكان قائلاً : نعم ... نعم ..
"لقد مات الملازم" جاء صوت ضعيفً مرعوبً .
-يجب أن نعود إلى المعسكر .
-وماذا عن الملازم ؟!.
-سنتركه.. انه ميت ، وأضاف : يجب أن نزحف مسافة .. قبل أن نمشي ولنكن حذرين.. قال ذلك ، وزحف الجميع وأسلحتهم على ظهورهم ، عاد الشاب الصغير إلى مخيلته عندما كان يلتقي بابنة الشيخ خلسة في الوادي اعتاد أن يقول لها أنها أجمل فتاة في القرية ليرى احمرار وجهها ، وذات يوم أعطته صورتها وطلبت منه أن يحتفظ بها حتى لا ينساها ، فوضع يده على جيبه متحسساً ، كان الفجر قد لاح ، مع اقترابهم من معسكرهم ، ولاحت لهم أيضاً أدخنة كثيفة ترتفع من معسكرهم ، لم يعد هناك معسكر ، دمر كلياً وتبعثرت الجثث في كل مكان ، ولم يعد يسمع سوى أنينهم ، راح الجميع في بكاء مرير ، لكن البكاء لم يستمر ، ظهرت لهم "مروحية" وراحت تطلق عليهم القذائف دون رحمة ...
-الحمد لله على سلامتك ! صوت رقيق ناعم لم يعهده من قبل.
حاول أن يتحرك لكنه لم يستطع .. وسأل : الحرب!.
-لقد انتهت .
-انتهت!. . هل انتصرنا ؟.
وضعت يدها – برقة – على مكان الضماد في رأسه وقالت: وأنت إلى أي صف تنتمي؟! .
تنهد بصعوبة ، وقال: لا أدري.
-تلك الحرب اللعينة قد مزقتنا ، فقدنا رجالنا ، مبادئنا ، أهم من كل شيء فقدنا الحب ، وأضافت بأسى: فما فائدة الحرب إذا كسبناها ؟.
عاد إلى القرية ، أصابته شظية جعلته في غيبوبة طويلة ، وظهرت له القرية حالكة السواد ، التف الجميع حوله بذهول ، وتفرس في وجوه النساء الحوامل ، ولم يجدها بينهن، تقدمت واحدة منهن ، وراحت تصرخ في وجهه: لماذا لم تمت أنت ؟! لماذا ؟؟.
تركها في صراخها ، كان متلهفاً للقاء زوجته ، ورأى عمه جالساً أمام منزله وقد ضعف بدنه وساءت حالته .. قال: لقد عدت يا عمي !.
أجابه عمه بالبكاء ...
وسأل بقلق : أين زوجتي ؟.
لكن العم زاد في نحيبه بكاءً مريراً ، كرر سؤاله . لكن هذه المرة صارخاً .
لم يقل العم شيئاً ، أشار بيده نحو المقبرة .
اهتز جسد الشاب وصرخ : لا ..لا .. لقد أخبرتها بأني عائد .. عائد