القصبة
عشت أيها البطل الصغير , كان هذا صوت الحجة فطيمة.
رمت لي كيس الطعام في حذر. الظلام حالك في الزقاق , سمعت صوت محرك السيارة , وبعض الكلمات بالفرنسية .
- الجنود في كل مكان !.
- قال لي أبو محمود وهو يركض نحوي .
همست :
ـ أين عبدالقادر ؟!
أجاب وهو ينظر إلى كيس الطعام :
ـ لا أعرف .. لقد اختفى .
أطلت الحجة فطيمة من شباك منزلها وهتفت :
ـ ادخلوا .. ادخلوا .
قفزنا من عتبة الشباك ...
اخرج أبو محمود مسدسه من جيبه , صاحت به الحجة فطيمة :
ـ لا .. لدينا أطفال .
أعاد مسدسه إلى جيبه , لكنه بقي متحفزاً .
وقال بحنق :
ـ لن نبقى هنا !
تناهى إلى مسامعنا خطوات الجنود . ثم إطلاق رصاص , وصوت نحيب امرأة .
قالت الحجة فطيمة بهلع :
ـ هذا صوت ! . صوت مليكه .
كان نحيبا قويا مؤلما, بدد سكون المكان هدوءً مخيفاً، كان نحيبها كسر هدوءه ويزيد من الخوف منه .
تلصصت الحجة فطيمة من الشباك بحذر.
ثم قالت :
ـ لقد ذهب الملاعين .
خرجنا ووجدنا مليكه تبكي بألم وعلى حجرها رجل ميت .. صاحت وهي تقبله :
ـ لقد قتلوا أبا فرحات .. قتلوا أبا فرحات .
ظهر طفل صغير أمام الباب , كان يرتجف .
بدأت السماء تمطر. المرة الأولى التي أشاهد فيها رجلا ميتا, ثقب جسده بعدة رصاصات . وبقيت جثة أبو فرحات تلازمني فترة طويلة , تذكرت أبي.
هو أيضاَ مات برصاص الفرنسيين , لكني لم أشاهد جثته .
أخرج أبو محمود مسدسه وصاح :
ـ والله لأقتل أحدهم , وركض مبتعدا عنا .
حاولت اللحاق به لأمنعه لكنه تلاشىتحت المطر و الظلام . بعد قليل سمعنا طلقات رصاص .
وضعت الحجة فطيمة يدها على صدرها وتمتمت :
ـ لا اله إلا الله .
والتفتت إلي :
ـ ارحل الآن .. قبل أن يعودوا .
ركضت كثيرا , كنت وضعت كيس الطعام تحت ثيابي حتى لايبتل.
صوت المطر وارتطامه على الأرض . وهدوء المكان المتقطع . ووقع قدماي زادني رعبا .
ركضت أكثر من ساعة . لم أشعر بالخوف كما أشعر به الان خيل لي أن الفرنسيون يطاردونني .
وصلت البيت ، ركلت بابه بقوة وأنا اصرخ مذعورا :
ـ لقد قتلوا أبا محمود!!.
وصمت !
المكان فارغ ومخيف , ضؤ خافت ينطلق من قنديل وحيد ، معلق بسلسلة تتحرك به ذهابا وإيابا.. الدماء تملأ الغرفة , الجدران مثقوبة بالرصاص ، تراجعت إلى الخلف مذعورا , وتعثرت بشي وسقطت فاقدا الوعي .
لا أعرف كم بقيت فاقداً الوعي , حيث استيقظت على ظلام دامس من حولي .
بصيصاَ من الضوء يتقدم نحوي . كلما يتقدم يبهرني الضؤ , وضع يده على جبهتي بلطف وقال :
ـ أنت في مكان آمن بني .
ثم وضع القنديل بجانبي .
صحت بفرحة :
ـ عم يوسف .. أنت !!
شهدت ابتسامته تتلألأ وقال :
ـ تلك الدماء في البيت ليس دماءنا .
سمعت سعدي يقول :
ـ الفرنسيون .
تمتمت :
ـ الحمد الله .
عرفت أن العم يوسف ورجاله أحسوا بحركة خارج البيت . فخرجوا من خلال نفق سري، وشاهدوا ثلاثة من الجنود الفرنسيين يدخلون البيت , باغتوهم بإطلاق رصاص عليهم وقتلوا اثنين وأسروا الثالث .
سألت العم يوسف :
ـ ماذا ستفعلون بالأسير ياعم يوسف؟
قال تؤده :
ـ سنبادله أحد رجالنا , هذا إذا لم يمت من الخوف منّا ..
اكتشفت أننا جميعا نقيم في حارتنا ، حي القصبة . حيث ولدت وترعرعت في هذا الحي الكبير، كانت لي طفولتي الخاصة. واشتهر الحي بقصوره العثمانية و منازله العتيقة أزقته الضيقة . وبالمحلات، والدكاكين ، خياطون وصانعيوا الفخار، حذاؤن ، وبائعيوا ملابس التقليدية . وعرف هذا الحي بأنه كان معقلا الثوار الجزائريين .
كان الفرنسيون يرهبونه ، لم يتجرأو كثيرا في التوغل إلى عمقه ، فالثوار يتوزعون في أزقته وبيوته، وما سهل لهم كثيراَ الإفلات من الفرنسيين .
ذات يوم كان العم يوسف مجتمعا مع رجاله ، فيها تردد إلى مسامعي ـ غير مره ـ اسم جميلة بوحيرد لأول مرة .
سمعت صوت امرأة تصرخ :
ـ سأحمل السلاح مثل جميلة .
وخرجت مسرعة وبيدها بندقية ، باليد الأخرى تجر طفل خلفها .
تبعها بوعلي صائحا :
ـ مليكة انتظري .. يا أم فرحات .. انتظري .
يلحقه العم يوسف بصوته :
ـ دعها .. إنها امرأة شجاعة .
التفت إلي بوعلي وقال :
ـ أنت ! .. نمّ .
وأغلق الباب خلفه .
لم أكن أحب بوعلي ، كان يعتبرني طفلاً ، رغم أني بلغت السادسة عشر من عمري ، العم يوسف وهو صديق والدي ، يعتمد علي كثيرا في القبام ببعض الأعمال ، كجلب الطعام للثوار، وفي نقل الرسائل ، وفي التجسس على أماكن الفرنسيين ورصد تحركاتهم ، وهو عمل بقدر ماكان يشعرني بالمتعة ، كان له رهبته .
ما زلت أذكر وجه سعدي متجهماً عندما دخل علينا الغرفة وبيده صحن من الطعام ، قال بصوت ضعيف :
الفرنسي .. لقد انتحر .
ركضنا جميعاً إلى البدروم ، يسبقنا العم يوسف ، وجدنا الفرنسي ممددا على الأرض والدماء تنزف من رسغ يده اليسرى. وقنينة زجاج مكسورة .
تحرك الفرنسي ، ارتبكنا ، اسرع العم يوسف في ربط مكان الجرح ليمنع نزيف الدم ، وصاح بنا :
ـ ليذهب أحدكم ويحضر الحكيم بسرعة .
بقيت أراقب الفرنسي وهو ينازع الموت ، لا أدري لم حاول الانتحار رغم أني أخبرته بأننا سوف نبادله بأحد من رجالنا .
قال سعدي غاضباً :
ـ كان يجب أن تدعه يموت .
جاء الحكيم ، وعالج الفرنسي ، و خرج علينا قائلاً :
ـ سوف يشفى ، لم يكن الجرح عميقاً .
وقبل أن يغادر المنزل قال بصوت هادئ وعميق :
ـ احذروا .. إنهم يبحثون عنه ، يفتشون بيتاَ. بيتاَ .. مع السلامة .
بدأ اسم جميلة بو حيرد يتردد بيننا كثيراَ وأيضاَ جميلة أبو عزة .
مليكه قبض عليها وهي تحاول قتل تاجر فرنسي ، عذبت واغتصبت ثم أطلق سراحها عن طريق الخطأ ، لم أرها ، سمعت بأنها تزوجت رجلاَ من الثوار وشكلت معه فصيلة من المقاومين .
أعدم أبو محمود وعبد القادر بالمقصلة بعد محاكمة سريعة ، وبقت جثتاهما معلقتين بجانب ثكنة عسكرية فرنسية .
حزن العم يوسف عليهما حزنا ً عميقاً ، أول مرة أشاهده يبكي ، كان أبو محمود أكثر الرجال المقربين إليه ، قال وفي عينيه إصرار عجيب :
ـ قسماَ بالله إني لن أموت ألا شهيداً مثلك يا أبا محمود .
لكن العم احمد لم يمت شهيداً حيث عمر وعاش فترة طويلة ما بعد الثورة .
كنت نائماً عندما خرج العم يوسف ورجاله من البيت في الساعة الثانيةصباحا وعادوا قبل الفجر بقليل ، قال لي وهو يلكزني بكعب بندقية :
ـ انهض أيها الشاب .
فتحت عينّي وجدتهم جميعهم حولي مبتسمين .. سألت :
ـ ماذا حدث ؟! .
قال لي زبانه :
ـ لقد ضربناهم .. قتلنا الكثير منهم
ـ حقاً ، ثم لمّ لم تدعوني أذهب معكم ؟!.
رفع العم يوسف البندقية عالياً وقال :
ـ هذه بندقيتك سترافقنا في المرة القادمة .
قفز بوعلي واحتج قائلاً :
ـ لا .. مازال صغيراَ .
- ـ لقد كبر ..
قال ذلك وقذف البندقية في حجري .
بقيت جالساً في فراشي والبندقية في يدي .. كنت فرحاً أتمنيت طويلاً حمل البندقية مثل أبي ، أبي مات شهيداً ، مات واقفاً وبيده بندقيته ، بكيت بشده ، كم تمنيت الانتقام لأبي ، فجأة قفزت من فراشي ، وركضت إلى البدروم وصوبت فوهة البندقية على رأس الأسير الفرنسي فأخذ يصرخ من الخوف حتى تبول على بنطلونه ، والعرق يسيل من جبهتي رغم برودة المكان وينقط على كعب البندقية ثم يمر إلى الزناد لينحصر هناك ، لحقني العم يوسف وتبعه الآخرون ، سحب من يدي البندقية وهمس:
ـ اهدأ بني .
ارتميت على صدره وأجهشت بالبكاء .
في اليوم التالي أخبرني العم يوسف أن الجندي الفرنسي قد مات ، قال لي سعدي مبتسماً : ـ لقد أخفته .
لم أعلق ، كنت أحب مواجهة الجندي في ساحة المعركة .
دار نقاش حاد بين بوعلي والعم يوسف بسببي ، لم يكن بوعلي يوافق على ذهابي معهم للقتال مبرراً بأني مازلت طفلاً ، فدخلت عليه غاضباً ووقفت إمامه مستعداً لمصارعته .. صحت :
ـ هييه .. دعني أر قوتك .
قال بلا مبالاة :
ـ أبق في فراشك .
فعجلته بلكمه بوجهه ، لم يترنح ، لكمني بقوة حتى سقطت متألماً ، لكني نهضت كالثور وحملته ورميته بعيداً ، وشجعني العم يوسف ورجاله :
ـ هيا بني .. دعه يُرِى قوتك .
نهض بوعلي مسدداً لي عدة لكمات قوية ، ترنحت لكني بقيت واقفاً ، لم أسقط . أنفي وفمي ينزفان ، ثم سدد لكمه قويه قذفت بي أرضاً ، تقدم بعد ذلك نحوي ومد يده ليرفعني , صافحني ,ً وشدني إلى صدره واحتضنني بقوه .
مليكه وزوجها استشهدا في كمين نصب لهما .
أخبرنا أحدهم أنه تم القبض على جميلة بوحيرد .. لم نصدقه .
عرفناه بعد أيام أن الخبر كان ملفقاً من قبل الفرنسيون .. تحولت جميله إلى أسطورة .
أصبحنا أنا وبوعلي متلازمين ، كان يحبني ويهتم بي ، اخبرني أن أخاه استشهد وهو في سني .
وصلت لنا معلومات أن الفرنسيون سوف يدخلون حارة القصبة بأعداد كبيرة ، للقبض على الثوار .. قال العم يوسف :
ـ سوف نتدبر أمرهم بسهولة .
يدرك الفرنسيون أن حي القصبة من أصعب الأماكن اختراقاً .
قال لنا العم يوسف :
ـ افحصوا بنادقكم جيداً ، احملوا قدراً كافياً من الرصاص ، سوف نتوزع إلى مجموعات صغيرة مع الآخرين .
ثم التفت ألي وقال :
ـ أنت أبقَ مع بوعلي .
نظرت إلى بوعلي. كان منهمكا في فحص بندقيتي .
ذهب الجميع وبقيت أنا وبوعلي ورابح ، كان بوعلي صامتاً طوال الوقت ، بينما رابح قلقاً والسيجارة لا تفارق فمه ، تحرك بوعلي قليلاً . ثم فجأة رمى لي البندقية وحزام من الرصاص وقال :
ـ كن مستعداً .
أقول الحق ، كنت خائفاً فلكنه بوعلي قد أخافتني ، فكأنه يقول كن مستعداً للموت ، نزعت السيجارة من فم رابح ورحت أدخن بشراهة ، سمعت بوعلي يتمتم :
ـ لا إله إلا الله .
ثم خرج بعد أن وضع اللثام حول وجهه وفعل مثله رابح ، ولم أفعل لأني لم احمل اللثام معي ، كنا نمشي خلف بوعلي مثل ظله .. قال لنا بوعلي :
ـسوف نتجه إلى الشمال .. سوف نحاصرهم .
وجدنا مجاهدين آخرين يمرون من أمامنا بخفة ، ثم سمعنا صوتاً يشبه صوت ألبومة ، وتكرر هذا الصوت كثيراً ، سمعت بوعلي يقلد أيضا هذا الصوت ، وأدركت أنها إشارة بين المجاهدين ، كان الظلام حالكاً. تعثرت أكثر من مره برابح .. فقال لي غاضباً :
ـ ابعد عني مئة متر .. حتى لا تسقط أيها الأعمى ، فمشيت خلفه بحذر .
سمعنا طلقات رصاص مكثفة ، ثم خيم في المكان هدوء عجيب لايقطعه سوى أصوات تلك الطيور التي أزعجها طلقات الرصاص .
عادت الطلقات من جديد أكثر كثافة وأكثر قرباً منا ، ارتجفت ، شعرت بالخوف الشديد. لم اشعر بنفسي وأنا أركض خلف بوعلي ورابح ، وجدت نفسي اركض بقوة . بل وأسبقهم من دون شعور ، اعتقدت أنهم أيضا يفرون مثلي.
صاح بوعلي :
ـ إلى أين ؟.. انتظر .. ستقتل !
وقفت في مكاني منتصباً ، كانت الطلقات قريبة مني أشعر بصفيرها تمر من أمام أذنيّ ، كنت في حالة صدمة ، قدماي تصلبتا على الأرض ، صوت بوعلي يضعف ويضعف أمام كثافة الرصاص , فجاه شعرت كأن أحدهم رمى بنفسه فوقي وسقطنا معاً على الأرض جسده على جسدي .
بدأ صوت الرصاص يخف تدريجياً ، سمعت بوعلي يهمس لي في أذني :
ـ أيها الغبي .. ستقتل نفسك ، من ثم زحفنا إلى مكان آمن .
بقيت أنا وبوعلي في ذلك المكان حتى الصباح ، كنا على بعد أمتار قليلة من موقع الفرنسيون تاركين إحدى عرباتهم تحترق مع سائقها .
أخفى بوعلي عن العم يوسف ماحدث لي تلك الليلة ، وأخبرهم أني قمت بعمل شجاع وكدت اقتل أحد الفرنسيين ، لحظت فيما بعد العم يوسف يشم فوهة بندقيتي ، والتفت نحوي مبتسماً .
حضرت اليوم عائشة الابنة الوحيدة للعم يوسف ،في المرة السابقة عندما حضرت لم أرها .. سمعتها تحدث والدها ، وكأنها تكلم رجلا لا تعرفه :
ـ أمي تريد تشوفك .
وضع يده بلطف على رأسها وقال :
ـ لا استطيع أن احضر
تتراجع إلى الوراء لتسقط يده إلى تحت .. قالت :
ـ أمي مريضه ستموت .
أعجبتني الفتاة ، بدت لي بهيئة مقاتل ، ولدت لتقاتل ، كانت واقفة أمامه تحدق إلى وجهه بقوة وحزم .
- لا أستطيع الحضور .. أذهبي .
- لن تحضر ! .. لن تراها قبل أن تموت .
لم يقل شيئاً استدار وتركها في الغرفة، خرجت تركض، لا أعرف لمَ رحت أركض خلفها، ناديتها :
ـ عائشة ..عائشة.
توقفت ، وحدقت نحوي . وحاولت مسح دموعها وقالت :
ـ نعم .. من أنت ؟!. وماذا تريد ؟
تلعثمت وقلت :
ـ أنا اعمل مع والدك
- تعمل !
- أنا من الثوار .
- حسناً ؟ ماذا تريد ؟!
هززت كتفي بعجز .. و قلت في خجل :
ـ أمشي معك إلى البيت .
تطلعت إلي وهزت رأسها .. ومشينا معاً .
سألتني بعد حين :
ـ ما أسمك
- عميرات
- كم عمرك
- ستة عشر .. وأنت ؟
- سوف أبلغ الثامنة عشرة بعد أيام
- أمك مريضة
- نعم .. السل
قال لي رابح ذات يوم : إن الفرنسيين جبناء عندما يعجزون عن القبض على المجاهدين فإنهم يلجأ ون إلى أسر عائلاتهم و اغتصاب النساء وتعذيبهن .
كان الطعام الذي يصل إلينا قليلاً فأضطر العم يوسف أن يوزع بعض رجاله إلى أماكن أخرى أراد مني بوعلي أن ارحل معه إلا أن العم يوسف رفض ذلك وبشدة .
ودعني بوعلي بحرارة وقال :
ـ سوف نلتقي قريباً .. كن حريصا على حياتك .
كانت هذه آخر مرة أرى فيها بوعلي .. انتهت الثورة وهاجر بوعلي إلى فرنسا .
فرحات ابن مليكه ، علمنا أن عائلة فرنسية أخذته إلى فرنسا بعد أن وجد حيا تحت جثة أمة ، عمه سافر إلى فرنسا لاسترداده .
- أمي ماتت .
- ليرحمها الله، قال ذلك واستدار عائدا إلى الغرفة وقد أغلق الباب خلفه.
لحقت عائشة إلى الخارج ، سرنا فترة طويلة دون أن نتفوه بكلمه ، ثم سمعتها تبكي ، واحتضنتني بقوة وكانت تصرخ :
اتركني ابكِ.. اتركني ابكِ.
تابعت تقول :
ـ كان أبي عاجزا أن يبكي أمامي .. وكنت مثله عاجزة أن أبكي أمامه يالتفاهتنا.
التقيت عائشة كثيراً .. أخبرتها ذات مرة أني أحبها ، تطلعت بي بسخرية وقالت :
ـ أيها الطفل الصغير أليس من الأفضل أولا إن نحرر أنفسنا . وأضافت وهي تركل علبه صفيح : ما الفائدة أن نحب بعضنا .. لنتزوج .. لتموت أنت برصاص الفرنسيين .. أو أموت أنا بمرض السل .. قبل كل ذلك ستتركني أقلق عليك طوال الوقت .
ثم تنهدت وقالت :
ـ سوف أسافر إلى فرنسا .
لكنها لم تسافر أبدا
ذات يوم دخل علينا مرسلي وبيده صندوق خشبي وضعه أمامنا وقال :
ـ تعالوا .. انظروا .
تجمعنا حول الصندوق .. قال وهو يبتسم لنا :
ـ انظروا إلى حجم القنابل .. أصبحت صغيرة ..تستطيع النساء إخفاءها في مكان آمن .
هز العم يوسف رأسه وقال :
ـ عظيم .. ابلغ عائلة بو حيرد تحياتنا .
قفزت إلى مرسلي وقلت له :
ـ خذني معك .. أريد أن أراها .
قال دون أن يلتفت لي : لايمكن .
أمسكت يده وتوسلت :
ـ أرجوك .
التفت إلي طويلاً ، وغادر دون أن يقول شيئاً .
كان عدد قليل جداً يعرف منزل جميلة بو حيرد لاحتياطات أمنية ، حيث تصنع القنابل في منزلها ، تمنيت كثيراً رؤية جميلة ، لكني لم أرها طوال حياتي .
وضعت جميلة ابوعزة قنبلتها في المقهى ميشلي مما أدى إلى خسائر كبيرة بين الفرنسيون .
التقيت في الصدفه بزيغود عمل خياطاً مع والدي، والدي الذي كان يعمل خياطا في النهار ومجاهدا في المساء قال لي زيغود وهو يحضني بقوة :
ـ ياااا.. لقد كبرت قال ذلك وانفجر باكيا ، كنت اعرفه شابا رقيقا ومؤ دبا ، أحب والدي كثير، كان أكثر تأثرا بوفاء والدي، اخبرني بأنه فتح محلا للخياطة وسماه باسم والدي، وطلب مني زيارته في المحل، وعدته بذلك ، لكني خلفت وعدي، وزرته بعد سنوات طويلة.
عاد الطفل فرحات وعمه من فرنسا، استقبله أهله وأهل الحي بفرح شديد قال إن الوضع في فرنسا متوتر وان الثورة الجزائرية ترعبهم وان هناك أصوات بدأت ترتفع مطالبة برحيل الفرنسيين عن الجزائر .
طلبت عائشة مقابلتي ، كانت كئيبة حزينة، جلسنا على درب صغير، ثم راحت فجأة تبكي بشده . أخبرتني أنها تحاول أن تعمل لتجمع النقود وتهاجر إلى فرنسا وطلبت مني أن ارحل معها ، لم اقل شيئا. اكتفيت أن أعاتبها بعيني، وتركتها، لحقتني، اعترضت طريقي وصرخت غاضبة:
ـ ستموت. ابتسمت لها بشفقة ورحلت.
خرج العم يوسف مع بعض رجاله ليلا ، وعاد مصاباً بجرح عميق وقد فقد نصف رجاله.. قال لي سعدي ساخطا:
ـ الجبناء رموا علينا قنابل النابلم أصيب العم يوسف بحروق شديدة في بطنه وبترت بعض أصابعه، كان العم يوسف رجل قويا لم تؤثر به تلك الإصابة استمر يقاتلهم حتى النهاية.
بعثت برسالة إلى عائشة أخبرتها فيها عن إصابة والدها لكنها لم تحضر أبدا لرؤية والدها فكرت في أنها هاجرت لفرنسا.
تلقى الجيش الفرنسي الكثير من الضربات من جميع الجهات أصبحوا أكثر وحشيه وقسوة ضد الجزائريين ، شهدت الجزائر اضطرابات استمرت لأيام ، ونزل الجيش إلى الشوارع محاولا فتح المحلات بقوه وقام بتكسير أبواب المحلات و المنازل ، ثم وصل إلى حي القصبة وعمل على هدم أبواب المحلات والدكاكين .
قام العم يوسف بتقسيمنا إلى مجموعات صغيرة كل أربعة أفراد في مجموعة واحدة ، وتوزعنا في الحي . وحدث اشتباك مع الفرنسيين ، لم يجرؤ كثيراً على الدخول إلى الحي .
شاهدت مرسلي يركض نحونا صائحاً :
ـ الكلاب ..إنهم يحاصرون جميلة بوحيرد .
- أين ؟!
لم أنتظر منه رداً ، ورحت أركض مبتعداً عنهم ، وشاهدت سيارة فرنسية أمامي ، وأطلقت عليها الرصاص ، وظهر أحدهم وبيده رشاش ، وأطلق الرصاص بعشوائية نحوي ، وسمعت صوت يشبه صوت العم يوسف :
ـ أخفض رأسك .
توقفت ، التفت خلفي وشاهدته يشير إلي بيده ، ثم فجاه أصابني شيئ في راسي وسقطت فاقداً الوعي .
خدشت رصاصة رأسي تمنيت لو مت ، أخبرني العم يوسف بأن جميلة بوحيرد وجميلة بوعزه قد تم القبض عليهما ، وان بوحيرد أصيبت إصابه بليغة في صدرها. حزنت كثيراً، وتمنيت إن تموت ولا تقع في أسر الفرنسيين .. لكنها لم تمت .
أصبحت أقود مجموعه من خمسة أفراد ، كنا نقوم بوضع القنابل والألغام ضد عربات الفرنسيين ، لكنهم في نفس الوقت كانوا يلقون علينا القنابل على أمل أضعافنا ، لكنهم كانوا يزيدوننا قوة وشراسة .
ذات يوم جاء ألينا الولد خوجا هو في السادسة عشر من عمر ، كلما ألتقي به يذكرني بنفسي حينما كنت في سنه أنقل الطعام والأخبار إلى الثوار ، قال إن الفرنسيين سينقلون بعضاً من عرباتهم وجنودهم إلى معسكر آخر في منتصف الليل .
طلبت من أفراد مجموعتي الاستعداد ، كنت مندفعاً ومتهوراً .
خرجنا من القصبة ليلاً وحملنا معنا أكبر قدر من القنابل والرصاص ، بدت لي هذه المعركة هي المعركة الأخيرة, معركة التحرير ، شاهدنا عدداً كبير من الجنود بعرباتهم .
تطلعت إلى رجالي كانوا على أهبة الاستعداد ، وأعطيتهم الإشارة بالهجوم ، بدأنا بقذف القنابل عليهم ، ومن ثم أطلقنا عليهم الرصاص بكثافة ، كنا قد حاصرناهم ، وأصبحوا على مرمى من نيراننا ، احد العربات استطاعت أن تفر وتعود إلى معسكرها ، عادت بقوة كبيرة والتفوا حولنا ، قامت مدفعيتهم بقصفنا ، طلبت من رجالي الانسحاب ، لكنهم حاصرونا ، وسقطت قذيفة بالقرب منا وسقط عبد الهادي مصاباً بساقه ، فحملته على كتفي ورحت أركض ، استطعت الإفلات منهم ووصلت حي القصبة ، ودخلت البيت وأنا اصرخ :
ـ لقد أصيب عبد الهادي في ساقه ، أحضروا الضمادات .. الحكيم .
التف الجميع حولي ، قال العم يوسف :
ـ أنت أصبت .
صرخت :
ـ لا
قال:
ـ أنت تنزف ، وأشار إلى بطني .
قلت :
ـ هذا دم .. عبد الهادي ، قلت ذلك ومزقت أزرار قميصي ، اخترقت شظية بطني دون أن أشعر بها ، نظرت إلى الجميع بذهول وسقطت فاقداً الوعي .
فتحت عيني ..
وجدت عائشة جالسة بجانبي ، وأناملها تلعب بشعري بلطف ، لم اعرف كم مضى من الزمن وأنا فاقد الوعي .
- عائشة .
- نعم حبيبي .
- أين كنت ؟!
- أبحث عنك
- لم تسافري .
ابتسمت :
ـ أسافر .. ولمن اترك حبيبي الصغير يعتني به .
- أين العم يوسف ؟
- ذهب ليحتفل .
- هل سيتزوج ؟!
- يتزوج ! .. وضحكت
- الفرنسيون .
قامت وفتحت النافذة حيث تسربت أشعة الشمس بقوة على الغرفة وشاهدت وجهها يتلألأ وقالت :
ـ سألتني عن أبي وقلت لك ذهب ليحتفل .. لم تفهم بعد ؟ .
- آه .. حاولت الابتسام لكني لم أستطع كان الألم شديداً . تمتمت عائشة وهي تقبل راسي : لا تقلق.. سنبقى معاً حبيبي.
قالت ذلك وتركت جسدها على صدري وبقيت أنا محدقاً إلى الشمس حتى غابت