قال الشيخ أحمد بن عبد الرحمن الصويان : كنت عائداً من سفر طويل ، وقدر الله - تعالى - أن يكون مكاني في مقعد الطائرة بجوار ثلة من الشباب اللاهي الذين تعالت ضحكاتهم ، وكثر ضجيجهم ، وامتلأ المكان بسحاب متراكم من دخان سجائرهم ؛ ومن حكمة الله - تعالى - أن الطائرة كانت ممتلئة تماماً بالركاب فلم أتمكن من تغيير المقعد .
حاولت أن أهرب من هذا المأزق بالفرار إلى النوم ، ولكن هيهات .. هيهات .. فلما ضجرت من ذلك الضجيج ، أخرجت المصحف ورحت أقرأ ما تيسر من القرآن الكريم بصوت منخفض ، وما هي إلا لحظات حتى هدأ بعض هؤلاء الشباب ، وراح بعضهم يقرأ جريدة كانت بيديه ، ومنهم من استسلم للنوم . وفجأة قال لي أحدهم بصوتٍ مرتفع - وكان بجواري تماماً - : يكفي .. يكفي .. !! فظننت أني أثقلت عليه برفع الصوت ، فاعتذرت إليه ، ثم عدت للقراءة بصوت هامس لا أسمع به إلا نفسي ، فرأيته يضم رأسه بين يديه ، ثم يتململ في جلسته ، ويتحرك كثيراً ، ثم رفع رأسه إلي وقال بانفعال شديد : أرجوك .. يكفي .. يكفي لا أستطيع الصبر .. ثم قام من مقعده ، وغاب عني فترة من الزمن ، ثم عاد ثانية ، وسلم علي معتذراً متأسفاً . وسكت .. وأنا لا أدري ما الذي يجري ولكنه بعد قليل من الصمت التفت إلي وقد اغرورقت عيناه بالدموع ، وقال لي هامساً : ثلاث سنوات أو أكثر لم أضع فيها جبهتي على الأرض ، ولم أقرأ آيةً واحدةً قط ..؟؟ وهاهو ذا شهر كامل قضيته في هذا السفر ما عرفت منكراً إلا ولغت فيه ، ثم رأيتك تقرأ ، فاسودت الدنيا في وجهي ، وانقبض صدري ، وأحسست بالاختناق ، نعم .. أحسست أن كل آية تقرؤها تتنزل على جسدي كالسياط..! فقلت في نفسي : إلى متى هذه الغفلة ؟! وإلى أين أسير في هذا الطريق ؟! وماذا بعد كل هذا العبث واللهو ؟! ثم ذهبت إلى دورة المياه .. أتدري لماذا ؟! أحسست برغبة شديدة في البكاء ، ولم أجد مكاناً أستتر فيه عن أعين الناس إلا ذلك المكان !! فكلمته كلاماً عن التوبة والإنابة والرجوع إلى الله .. ثم سكت . لما نزلت الطائرة على أرض المطار ، استوقفني .. وكأنه يريد أن يبتعد عن أصحابه ، وسألني وعلامات الجد بادية على وجهه : أتظن أن الله يتوب علي ؟! فقلت له : إن كنت صادقاً في توبتك عازماً على العودة فإن الله ـ تعالى ـ يغفر الذنوب جميعاً . فقال : ولكني فعلت أشياء عظيمة .. عظيمةً جداً ؟! فقلت له : ألم تسمع إلى قول الله عز وجل : (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم) .[ الزمر : 53> فرأيته يبتسم ابتسامة السعادة ، وعيناه مليئتان بالدموع ، ثم ودعني ومضى ..! سبحان الله العظيم .. ! إن الإنسان مهما بلغ فساده وطغيانه في المعاصي فإن في قلبه بذرةً من خير ، إذا استطعنا الوصول إليها ثم قمنا باستنباتها ورعايتها أثمرت وأينعت بإذن الله تعالى . إن بذرة الخير تظل تصارع في نفس الإنسان وإن عَلَتها غشاوة الهوى ؛ فإذا أراد الله بعبده خيراً أشرقت في قلبه أنوار الهداية ، وسلكه في سبيل المهتدين . قال تعالى : ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء ) . [ الأنعام : 125 > وردت هذه القصة في مجلة البيان العدد (152)