قال الراوي : أعرفه منذ أيام الدراسة ، كان طالبا في المرحلة الإعدادية ، لا يشغل عقله شيء سوى البحث عن الشهرة في أي مجال من مجالات الحياة ، ولذا لم يستطع أن يكمل دراسته فتركها في أول المرحلة الثانوية ، ومضى يهيم في دروب الدنيا ، يجالد نفسه بشكل يدعو للعجب أو للإعجاب بحثا عن نجومية تلفت إليه الأنظار ، وشهرة ترفع من شأنه بين الناس .
غير أنه بعد هذا الجهد المضني كله ، خاب مرة أخرى ، ولم يصل إلى البريق والأضواء الباهرة ، إلا لفترة عارضة قصيرة ، ثم تلاشى حلمه في ذلك المجال ..
قال الراوي :
وباعدت بيننا الأقدار لسنوات ، نسيته خلالها تماما ،
كنت قد سافرت لإكمال الدراسة العليا ، فلما عدت انشغلت بالظروف الجديدة والعمل والأولاد ، غير أن اسم صاحبي عاد يطرق سمعي من جديد بين الحين والحين ، فإذا به لازال كما هو ، يخبط في هذه الحياة ،
بحثا عن شهرة هنا وهناك ، لقد جرب مجالات عديدة ، ولازال يجرب غيرها ..
ولا يزال يدور في حلقة مفرغة!!
وقررت أن اجتمع به ، وأجلس إليه ، وأحدثه ، وأقرع سمعه بما لم يعهد من كلام ، وأقرر في ذهنه معان لم تدر في ذهنه يوما من أيام عمره ..
قررت أن أتسلل إلى عقله من نفس الزاوية التي شغلته كل تلك السنين الطويلة حتى خسر بسببها دراسته ومستقبله ..
وهيأت له لقاء طيبا ، وعشاء فاخراً ، وأعددت في عقلي معان كثيرة ،
وأقبلت بقلبي كله على الله ، ليعينني على هذه المهمة ، ويجعل لهذه المعاني موقعا في قلبه ، فلعل وعسى ،.
وكان لقاء رائعا وصداه أقوى مما توقعت ، ومما قلت له ليلتها :
ألا تزال تحب النجومية حقا أم أنت مجرد مازح تتلهى ..؟!
فانفعل في وضوح وهو يؤكد على جديته في طلب ما يطلب .
فقلت : تعال اضرب لك مثالا أرجو أن يستوعبه عقلك :
افترض معي الآن ، وجود ألف طفل من أطفال الروضة يجتمعون في ساحة كبيرة ، وعلى الرصيف الآخر يجلس عشرة رجال من كبار الشخصيات يتابعون الأحداث التي تمر بهم ..
لو أنك أحببت أن تلفت النظر إليك طلبا لمكانة خاصة لك ،
وأملا في عطاء قريب يصلك ، فإلى أي الجهتين ستتوجه باستعراضاتك أو أعمالك أو مهاراتك :
أإلى أولئك الأطفال وهم الكثرة الكاثرة ، أم إلى أولئك الرجال ذوي المكانة .. !
حين تكون منصفا مع نفسك ، متمشيا مع منطق الواقع ، ستختار أن يلتفت إليك أولئك الرجال رغم قلة عددهم ..!
ولن تخدعك تلك الكثرة الكاثرة ، فماذا ستفعل بإعجاب أولئك الأطفال ، إن إعجابهم لن يقدم ولن يؤخر ، ولا يدفع ضررا ، ولا يجلب نفعاً ..
أليس كذلك ؟؟
تبسم صاحبي وقال : صدقت والله .. هو كذلك ..
قلت له : الحمد لله ..إذن الكثرة لا تعني شيئا في الحقيقة ،
إذا كانت تلك الكثرة غير مميزة ، ولا ينتظر منها عطاء .!
ولا يخشى منها ضرر ، وليست عاقلة أصلا ..
فما يغني عندك أن يصفق لك آلاف الأطفال غير المميزين في الوقت الذي انصرف الكبار إلى غيرك يحيطونهم بالإعجاب والتقدير والتبجيل والإكرام والخطوة والمكانة …
إن واحدا ذا منزلة في الناس أولى عندك بالإجتهاد من أجل كسب قلبه والمكانة لديه من عشرات الآلاف من الأطفال..
لما قد يعود عليك منه من فوائد ..
تلك حقيقة لا يجادل فيها حتى المكابر ..!
حقيقة يطيب لها الصدر ، وينشرح لها القلب ، وتعمل لها الهمم التي تبحث عن الشهرة في دنيا الناس …!
اكتفى بهز رأسه ، موافقا .. وارتسمت على شفتيه ابتسامة كبيرة ..
قلت : والآن أدعوك كي تقف معي وقفة إنسان يحترم عقله ، ويحترم دينه كذلك .. أدعوك إلى أن تفكر فيما سأعرضه عليك تفكيرا جادا ، ولا تتسرع ، ولاتحكم ، حتى تدير الفكرة بإحكام في عقلك ، وقد سلطت عليها أشعة من أنوار دينك العظيم الذي تنتسب إليه ..
ترى كم يساوي واحدا من الملائكة إذا وزن بمجاميع من الخلائق …؟!
وأي الفريقين هو الأكمل والأفضل والأرقى والأنقى والأزكى :
الملائكة أم البشر …؟! وكم عدد الملائكة بالنسبة للبشر ؟!
سأختصر لك ما أود أن أقوله لك ، وأقرر في قلبك :
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم :
" إن الله إذا أحب عبدا نادى : يا جبريل ، إني أحب فلانا فأحبه ، فيحبه جبريل ، ثم ينادي جبريل في السماء ، يا أهل السماء ! إن الله قد أحب فلانا فأحبوه ، فيحبه أهل السماء ، ثم يوضع له القبول في الأرض …"
وإذا أبغض الله عبدا كان بعكس ذلك تماما ..
أعد قراءة هذا الحديث مرة ومرة بشيء من التركيز ،
وأظن أنك ستفهم جيدا ما أرمي إليه ، وما أرغب في أن أصل بك إليه ..
ومع هذا أقول لك بوضوح :
كيف رفضت هناك في المثال المتقدم إعجاب عشرات الآلاف من الأطفال في مقابل إعجاب رجل عاقل واحد ..
فما بالك هنا تعكس المسألة رأسا على عقب .؟؟
مع أن هناك فوارق هائلة بين المثالين ..!؟
لو أنك أمعنت النظر في نصوص الوحي لأيقنت أن الإنسان المقبل على الله عزوجل هو في الحقيقة الأكثر شهرة في الكون بل وفي السماوات أيضا فهو بالتأكيد أكثر شهرة من ألمع نجوم الدنيا قاطبة ..!!
مهما صفقت لهم أكف ( الأطفال الكبار ) ..!!
في الحديث : ليس من موضع شبر في السماء إلا وفيه ملك كريم يعبد الله …!!
مع ملاحظة مهمة جدا :
أن إقبال هذا الإنسان على الله لم يكن في الأصل طلبا لشهرة ، بل هو لم يفكر في المسألة على هذا النحو في حال إقباله ، إنما كان طلبه خالصا لله ، ولو جهله كل من على الأرض ..
بل قد يعرضه ذلك الإقبال في كثير من الأحيان إلى أن يصيح غريبا حتى بين أهله ، لذلك فإن الله سبحانه يكرمه ، ويعوضه خير العوض ، ويعطيه من حيث لا يحتسب كأنما يقول له :
لا عليك . فإذا جهلك أهل الدنيا ، فقد عرفك أهل السماوات العلى يفرحون بك ، ويشتاقون إليك وأنت لا تزال تدب على الأرض ..!
ومن ثم يملأ قلبه غنى من غير مال ، ويرفع ذكره في السماء ، بل ويباهي به الملائكة ، وعند موته تتلقاه الملائكة لقاء الحبيب للحبيب الغائب ، شوقا إليه ، وطربا لمقدمه ، وتزفه زفا إلى الجنة والنعيم المقيم .. !!
وفوق هذا كله يكرمه الله سبحانه في الدنيا وهو حي يدب بين أهلها :
فيوضع له القبول في الأرض فتحبه القلوب المشرقة بنور السماء ، وتدعو له ، وتتأثر بمجرد رؤيته ، ويجعل لكلماته سحرها فإذا هي تهز القلوب السامعة ، وتعيد العقول الشاردة ، وإذا هو مبارك حيثما كان …
قوم كرام السجايا حيثما نزلوا *** يبقى المكان إلى آثارهم عبقا
قال الراوي :
وسكت قليلا أتملى وجهه لأرى مدى تأثير كلامي في قلبه ، فرأيت بشائر تدفعني إلى مزيد من الحديث السماوي الشجي ، لعلي أحرك مزيدا من المعاني في قلبه ، فقلت :
أخي الحبيب .. لا أشك أنك عاقل مؤمن محب لله ، ترغب في الجنة وفي رضوان من الله أكبر ..
أرجوك فكر كثيرا في هذه المسألة ..
ولا تخبط بعيدا عن الميدان الذي خلقك الله له ، ولاتشرد بعيدا عن الدائرة النورانية التي توصلك إلى كل الكمالات ، ولاترضى لنفسك أن تبقى مشدودا إلى عوالم الصغار ( ملايين من الأطفال غير المميزين !! يحسبون أنهم يسحنون صنعا !! ) واعلم أن الهوى الجامح ، إذا استحكم بإنسان :
فإنه يغدو إلها متسلطا على صاحبه إذا هو لم يضبطه ويكبح جماحه من أجل الله . تأمل قوله تعالى : (( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله )) ..
فبالله عليك – لوكنت منصفا – أي الفريقين هو الأهدى سبيلا ، والأقوام طريقا ، والأرقى عقلا ، والأروع مكانة :
الفريق الذي طلب الأدنى ، وقاتل عليه وجاهد في سبيله بحثا عن إعجاب ( أطفال رضع ، وبهائم رتع ..) ..
أم أولئك الذين يطلبون الأعلى دائما ، فيشمرون إلى طلب مرضاة الله سبحانه في كل شؤونهم ، فإذا صدقوا ..
أكرمهم الله بحلاوة إيمان تنسيهم مشقة الطريق ..
فيعيشون سعداء ، ويموتون كرماء ..تحفهم الملائكة حيثما كانوا ..
وتصاحبهم أينما ارتحلوا ، وتتشغل بهم طالما ظلوا مشدودين إلى الله سبحانه ..
ومضيت على هذا المنوال أحدثه ، وأنا أشعر أن الكلمات تتدافع في فمي بحرارة ..
وما راعني إلا أن رأيته قد غطى وجهه بكفيه وأخذ يبكي .. !
وكانت بداية رحلة الهداية له في طريق الله ينافس المتنافسين طلبا إلى العلا..
إنها العلياء تبغي مسلما ..