حينما تفعل الخير وتلقى ضده فأنت في زمن أحرى به :
زمان رأينا فيه كل العجائب !!
حينما بدأت التدريس والدخول في سلك التربية والتعليم معلما جديدا بتاريخ
9 - 7 - 1424 هـ .
في مدرسة تابعة لإحدى الإدارات التعليمية في وسط المملكة .
في قرية نائية بين الصحراء بعيدا عن كل أدوات الحياة الضرورية . . .
حيث لا ماء ولا طريق ولا هاتف ولا سكن إلا بيوتات شعبية متهالكة . . . .
حينما قدمت على تلك المدرسة وجدت أن المدرسة لا تحمل من اسم التعليم شيئا ، حتى المدرسة ليس لها لوحة خارجية ! مع أنها ثانوية و متوسطة . . .
ليس المهم ذلك !
المهم !
لقد وجدت في تلك المدرسة ( الأرشيفية ) ، طالبا يتيما ( ذكيا ) لا حول له ولا وقوة إلا بخالقه جل سبحانه .
يدرس في الصف الثاني ثانوي علمي ، في مدرسة خالية من وسائل التعليم اتفق من يدرُس ومن يعلِّم
فيها على الإهمال في أغلب الأشياء .
هذا الطالب للأسف مع ذكائه إلا أنه كان خجولا ( خائفا ) من العالم حوله ، ذلك العالم الذي يريد أن يدفنه بين جنبات تلك الصحراء ليكمل مشوار من سبقه برعاية الأغنام وعدم الدخول في :
لعبة التعليم الخاسرة بزعمه !
كان الطالب تحوم حوله مشاكل كثيرة وكبيرة سواء على شكله وحسن هيئته أو على ضعفه وقلة ما في يده .
بدأت مع هذا الطالب أخا ومعينا له على وضعه . . . هذه البداية كانت محفوفة بالمخاطر لا سيما وأن من
الطلاب الذين يدرسون في المدرسة من يتعاطى المخدرات !
هؤلاء ينظرون إلى أي معلم يتصل بهذا اليتيم نظرة ريبة وشك . . .
من باب :
كل يرى الناس بعين طبعه !
كل يوم أحس بخوفي على هذا الطالب يزداد ويزداد لأن أرباب المشاكل دأبوا على جره إلى كل رذيلة .
وكنت بفضل الله سدا منيعا أمامهم مما جعلهم يصطدمون بي مرارا وتكرارا .
فلا تسل عن التهديد ! ولا تسل عن المطاردات في آخر الليل ! ولا تسل عن المصادمات وكتابة اسم الطالب على سيارتي إمعانا في إبعادي عنه وإبعاده عني .
وجرا إلى فضائح لا وجود لها .
المهم استمرت السفينة تسير . . . و لله الحمد اشترك هذا الطالب اليتيم من هذه المدرسة المتخلفة في كل شيء ، اشترك في برامج ترعاها مؤسسة الملك عبد العزيز ورجاله لرعاية الموهوبين .
في تحول كبير له وللمجتمع الذي حوله .
كان المشتركون في البرامج الإثرائية من المدارس التابعة لإدارة التربية والتعليم تلك :
قوامهم أربعة طلاب فقط !
ثلاثة من نفس المحافظة التي يتواجد بها مبنى إدارة التربية والتعليم .
وطالب واحد من !
أبعد مدرسة في محيط إدارة التربية والتعليم تلك . . .
هو الطالب الذي يرعاه الله في تلك المدرسة النائية ( الأرشيفية ) .
الطالب / فايز .
وفق الله هذا الطالب وسهل الله له طريق النجاح من الصف الثاني ثانوي .
على رغم المشاكل التي حدثت في تلك المدرسة إبان وجودي في السنة الأولى .
مشاكل وقفت أمامها إدارة التربية والتعليم سامدة حائرة حتى انتهت في قبضة الأمن والقضاء
في أمارة المنطقة . . . . !!
المهم ، وبعد هذا الإنجاز والتوفيق من الله جل وعلا . . .
قمت بمراسلة مكتب الوزير سابقا ( الرشيد ) بما حصل من إنجاز
مبديا خوفي من ضياع هذا الطالب ( الموهوب ) خصوصا وأنني لن أتحمل البقاء سنة أخرى لأنني
أعاني من آلام شديدة في المعدة سببها سوء التغذية في قرية نائية تفتقر إلى الماء العذب النقي وإلى الأكل النظيف غير المنتهي الصلاحية .
حيث أصبت فيها بتسمم في الدم بلغ نسبة 80%
فكنت أتعاطى الأدوية والمضادات الحيوية التي أرهقت جسمي وصحتي .
ولله الحمد جاءني رسالة على البريد الإلكتروني من مكتب الوزير سابقا ( الرشيد ) تفيد بأنه :
سعيد بما تم من إنجاز .
مما جعل الوزير نفسه يزور الطالب في البرنامج الإثرائي في جامعة الملك عبد العزيز بجدة ويسأل عنه ليتأكد منه .
بعد فترة - والطالب في برنامجه الإثرائي - جائني اتصال من أحد مستشاري الوزير السابق ( الرشيد ) يقنعني بضرورة البقاء مع الطالب سنة أخرى في نفس المدرسة حتى يكمل الشهادة الثانوية وأخرج أنا وهو من تلك البقعة وقام برفع معنوياتي بأن الوزير أمر بنقلي إلى مدينتي جزاء لما قدمت . وحضني على البقاء مع الطالب سنة ثم النقل بعدها إلى مدينتي .
فكرت بالأمر مليا . . . فأنا صحيا عاجز عن البقاء سنة أخرى في تلك البقعة . . .
ولكنني في النهاية قبلت الأمر بعد أن استخرت الله في أمر بقائي مع هذا اليتيم . . .
طالبا الأجر من الله جل وعلا . . . ومستفيدا من منحة الله لي ألا وهي نقلي إكراما لما قدمت . . .
بدأت السنة التالية لي في القرية وفي نفس المدرسة وبدأ معها الاستعداد للوقوف بالمرصاد لكل من يحاول النيل من هذا اليتيم . . .
اصطدم وجودي في المدرسة في السنة التالية بنقص أربعة معلمين . . .
رياضيات . تربية إسلامية . اجتماعيات . تربية رياضية .
فتحملت عناء هذا الأمر مما جعلني أدرس مواد غير تخصصي .
كل ذلك كي تجري السفينة بأمان .
مضت السنة بين مرض ( بلا إجازة ) حيث كان زملائي المعلمين يتحملون عناء الذهاب بي إلى مراكز صحية نقطع الصحراء لأخذ إبرة مسكن في آخر الليل توقف ألم المعدة المزمن . . . لأكمل المشوار مع الطالب الذي أصبح جزءا لا يتجزأ من حياتي والذي كان يخرج معي كل يومي خميس وجمعة ليدرس دروسا خصوصية في الرياضيات خاصة لأنها بدون معلم في المدرسة وبقية المواد العلمية الأخرى بشكل عام .
كنت أقطع أنا وإياه المسافات الطويلة تجاوز الأربعمائة كيلو متر ، سعيا وراء تحصيل نسبة ممتازة في شهادة الثالثة الثانوية . . .
ولله الحمد أتت الاختبارات الثانوية وجاء معها الهم ، فهي نهاية المطاف .
كان في تلك السنة أحد مستشاري الوزير يتصل علي بنفسه ليطمئن على وضعي ووضع الطالب ويزيدني
راحة وسكينة ويخبرني بأن أموري في شؤون المعلمين بالوزارة على خير ما يرام وأنك بإذن الله ستنقل
حالما تأتي حركة النقل الخارجية بعد الاختبارات إلى مدينتك أو محافظة قريبة منها .
اتصل علي كي يزيدني طمأنينة خصوصا وأن الوزير السابق ( الرشيد ) ترك الوزارة للدكتور عبد الله العبيد ، مما أثار لدي الخوف من ضياع حقي . . .
ولله الحمد نجح الطالب ونال الشهادة الثانوية بنسبة تقارب 97% .
فرحت كثيرا له وكأنني أنا من نجح وليس هو . . . كأن هما كبيرا وحملا ضخما سقط عن عاتقي ..
حمدت الله كثيرا . . . ومباشرة بادرت مستشار الوزير السابق ( الرشيد ) أخبره بنجاح الطالب بنسبة عالية ولله الحمد والمنة . . . فرح هو أيضا وبشرني بأن الحركة ستصدر قريبا وسأرى فيها ما يسرني بإذن الله . . .
وجاءت حركة النقل الخارجي . . . بدأت أبحث عن اسمي أبحث وأبحث !!!!!
فلم أجد شيئا . . . لما دخلت على بياناتي الرسمية في موقع الوزارة آنذاك وجدت الصاعقة !!
لم أنقل !! والسبب أن في بياناتي غياب ثمانية أيام بلا عذر !!!
مع أنني لم أغب يوما واحدا بعذر ! فما بالك بدون عذر !!
من وضع ذلك !! من السبب !!
صدمت كثيرا وتألمت أكثر . . . علم الطالب بوضعي وباختلال مواعيد الوزارة !!
حزن علي كثيرا . . . حزنا كاد أن يلغي فرحته بنجاحه الكبير . . .
اتصلت بالمستشار وأخبرته بالخبر ، فلم يزد على أن قال :
والله لقد خرجت ورقة نقلك إلى مدينتك من مكتب الوزير . . . !
وجئت إلى الوزارة . . . و قد ضعت بين إقالة الوزير السابق وجهل الوزير الحالي بقضيتي . . .
ذهبت إلى ذلك المستشار الذي كان يتصل بي ويسأل عني دائما فلم أجده !!
ولما سألت عنه ، قالوا لي :
لقد أحيل على التقاعد !
عندها وقفت كالمشدوه !!!
لم يعد أحد في الوزارة يعلم بحالي وقضيتي !
إنه الشيء الذي لم أتوقعه أبدا .
التقيت بالوزير ( عبد الله العبيد ) وأخبرته بأمري ، فقال لي :
إذا كان لك حق فستأخذه أما غير ذلك فلا . . . !
وأما مسألة وجود ثمانية أيام في بياناتك فلك الحق أن ترافع فيها حتى تزال عنك . . . !
خرجت من الوزارة مع سيارة الأجرة أترنح من هول ما بي . . . همت على وجهي لا أعلم أين سأذهب !
ذهبت الإجازة الصيفية في قلق وتعب ومشقة . . . وبدأت السنة الثالثة . . . وبقيت في القرية النائية . . .
وحيدا مريضا . . . لم أنقل حتى نقلا داخليا يقدر جهدي . . .
فأصبت بـ بغض لكل ما هو جديد . . . من الحياة و المدارس والطلاب والمعلمين . . .
بقيت في تلك القرية عاما ثالثا . . .
ربما لم تسألوني عن الطالب ( الموهوب ) !؟
سمعت بوجود بعثات خارجية لطلاب الثانوية فقمت بإخباره بها وأمرته أن يتوجه إلى وزارة التعليم
العالي لكي يلتحق بالبعثات . . . فأنا أعرفه حق المعرفة إنسان اعتاد على الخير والهدوء والرزانة ، ويحب الدراسة . . .
ولله الحمد جاءته بعثة لدارسة الطب في بودابست في المجر في أوروبا !
من قرية لا تعرف من العلم إلا السوافي والأتربة والخواء والقلاقل إلى جامعة مرموقة لدراسة الطب .
بشرني بقبوله وباكتمال أوراقه وقرب توجهه إلى أوروبا للدراسة هناك . . .
فرحت له كثيرا لأن وجوده هناك كان سيكون خيرا له بإذن الله .
فرحت فرحة مشوبة بالحزن على ضياع :
المعروف بين الناس .
انتهت السنة الثالثة لي في القرية مرت تلك السنة كوخز بالأبر !!!
مرت والمرض يقبع في داخلي لا يزول . . .
مرت السنة وانتهت ونقلت إلى الرياض . . .
وبالتحديد في محافظة ثادق شمال الرياض . . .
انتقلت أحمل معي ذكريات من الألم الحاضر والأمل الميت تحت جثة الحاضر . . .
بقيت في ثادق سنة مرت بسلام ولله الحمد إلا من المرض !!
فكأنه رفض أن تمر تلك السنة إلا بصفعة منه تذكرني بما كان من صفعات !!!
قدمت على حركة النقل الخارجية وطلبت مناطق ( قريبة يخيل إلي ) ، من مدينتي التي أسكن بها . . .
قدمت على الحركة مع أن المدرسة هناك في ثادق أحب إلي من كل شيء لأنني ارتحت بها كثيرا .
ولكن لسبب في نفسي وهو تحطيم حاجز الذكريات الماضية ، لعلي أرضي نفسي التي جرحت جرحا غائرا لن يندثر السنين تلو السنين . . .
ولكن . . . !!
وما أقسى لكن !!
خرجت الحركة الخارجية ووقعت في مدرسة هي صورة من مدرستي الأولى . . .
حيث الصحة تتقلب على كف عفريت !! لم أسكن في هذه القرية الجديدة خوفا من تكرار التجربة الأليمة !!
فأخذت يوميا مع بداية هذا العام أسافر من منزلي في مدينتي إلى القرية الجديدة ذات الطابع الصحراوي
الوعر في مدرسة تشابه حال مدرستي الأولى . . .
ولأن المسافة بعيدة على مريض مثلي أخذ المرض يعود شيئا فشيئا حتى استحكم . . .
والآن أعمل في هذه المدرسة ومعي في جيبي المضادات الحيوية حتى أستطيع أن أقاوم عناء السفر
وعناء ذكريات الأمل المؤلم !!
أيها الأحبة في الوزارة . . .
هذه قضيتي أمامكم اليوم . . .
لا أريد منكم إلا إعادتي إلى ثادق ولن اطلب منكم أن تدخلونني في مدينتي . . .
لا أريد أن تكافؤونني على رعاية الطالب / فايز .
لا أريد رد اعتبار منكم على كل ما مضى لي من خسائر صحية في الدرجة الأولى . . .
لا أريد منكم النظر إلى صحتي ومرضي وهزالي ومضاداتي الحيوية وأقراص المسكنات . . .
وأوراق ترددي على المستشفيات الخاصة والعامة . . .
بل أريد شيئا واحدا هو أريد أن تعيدونني إلى مدرستي السابقة أريد أن أنهي حياتي التعليمية فيها .
هذا ما أريده كي أنسى كل ما فات من أمل حار ألما . . .
وإلا فاقبلوا استقالتي فإني راحل عنكم فقد آلمتموني حد النزف . . .
وأنا خصيمكم عند الله يوم القيامة .
( وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون )
كتبه بدمعه . . . .
خالد الروقي
معلم اللغة العربية .