وقعت عيني على كلام نفيس للماوردي، في صدد حديثه عن ضرورة إشباع حاجة الإنسان إلى الأمن.
يقول الماوردي: " ليس لخائف راحة، ولا لحاذر طمأنينة، فالأمن أهنأ عيش، والعدل أقوى جيش؛ لأن الخوف يقبض الناس عن مصالحهم ويحجزهم عن تصرفهم، ويكفهم عن أسباب الموارد التي بها قوام أودهم... ومن عمه الأمن كمن استولت عليه العافية، فهو لا يعرف قدر النعمة بأمنه حتى يخاف، كما لا يعرف المعافى بعافيته حتى يُصاب".
والدراسات الحديثة في علم النفس والاجتماع وغيرهما، كلها تذهب إلى ما ذهب إليه الماوردي، فنرى مثلاً أبراهام ماسلو في تصنيفه لحاجات الأفراد، حسب هرمه المشهور، يجعل الأمن من أولى الحاجات التي يجب إشباعها بعد الحاجات الفسيولوجية، كالنوم والماء والطعام والهواء... وربنا _جل وتعالى_ يشير إلى هذه الحقيقة في القران الكريم في قوله: " فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف" فمن الله على قريش بأن أنعم عليها بنعمتي الطعام والأمن، وقرن بين هاتين الحاجتين الإنسانيتين اللتين لا استغناء لأحد عنهما.
ولأهمية الأمن كان إبراهيم- عليه السلام- أبو الأنبياء يدعو ربه في تضرعاته" رب اجعل هذا البلد آمنا" فأُجيبت دعوته، فكان الحرم وما حوله في أمن وسلام"آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا".
روى الترمذي عن النبي – عليه الصلاة والسلام- أنه قال: "من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها".
وليس الأمن هبة يهبها الله بلا مقابل، إنما هي نعمة ربانية يتفضل بها على عباده المؤمنين الصالحين، ومن أشد عقوبات الله إيلاماً على الفرد والمجتمع أن يحرمهم الأمن ويلبسهم الخوف، فالزيغ عن منهج الله والحكم بغير ما أنزل الله من دين وشريعة مدعاة إلى رفع الأمن وحرمان الناس منه، فالأمن أخو الإيمان، إذا انتفى أو ثلم هذا الأخير زال الأول، قال المولى _سبحانه_: "وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون".
وقال أيضاً:"ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين".
والسؤال المتبادر إلى الذهن اليوم هو ما نصيب العالم الإسلامي من هذه النعمة؟
إن أغلب الأقطار الإسلامية محرومة من هذه الحاجة الإنسانية والضرورة البشرية، ومظاهر ذلك الحرمان تقفز إلى أعين كل مشاهد للفضائيات كلما جلس أمام التلفاز، وجدير بالذكر أن الدراسات الإعلامية، وخصوصاً دراسة تحليل محتوى وسائل الإعلام الغربية، تبين أن أغلب المواضيع التي تنشرها عن العالم الإسلامي، تندرج تحت ما يسمى بالاضطرابات والمشاكل والقلاقل والحروب، ولا تتعدى نسبة المحتويات الإيجابية إلا بضعة مواضيع قليلة خلال السنة، وتخلو مضامين الإعلام الغربي التي تتحدث عنا، من موضوعات المخترعات أو الابتكارات أو المعارف أو العلوم أو الثقافة الجادة إلا فيما ندر.
إن قائمة الأقطار المسلمة التي تعيش الخوف اليومي والرعب المتواصل طويلة، والملاحظ للوضع الأمني في دولنا المسلمة يشاهد ظاهرة عجيبة، وهي ظاهرة دوران سلطان اللا أمن والخوف بين تلك الدول، وتبقى كل دولة تنتظر دورها المصيري دون حراك فعال، إن الأمر أشبه بالأوركسترا المنظمة، كلما خبا صوت هنا أردفها صوت هناك، وللأسف أن سمفونية الخوف في عالمنا الإسلامي لم تعرف التوقف منذ قرون مديدة، وفي زماننا هذا تسللت أطراف معادية على حين غرة إلى الأوركسترا، حتى باتت "المايسترو" الذي يقود جوقة المغفلين إلى حتفها.
من العراق إلى فلسطين ومن أفغانستان إلى كشمير ثم السودان والصومال...وليس الوضع مثاليا في الجزائر أو مصر أو اليمن أو لبنان… فأينما وليت وجهك فالخوف سيد المكان وعدم الاستقرار هو السائد.
ويعود غياب الأمن في بلادنا الإسلامية إلى عدة أسباب منها: الخارجية كتسلط الأعداء المستعمرين، كالأمريكان في العراق أو الصهاينة في فلسطين أو الروس في الشيشان أو الهندوس في كشمير..أو لأسباب داخلية، كما هو الحال في الجزائر ومصر واليمن وسوريا وغيرها، وأغلب الأسباب الداخلية نابعة من الاستبداد الحكومي الجاثم على الشعوب، فلا يمنحها حق التعبير ولا حق المشاركة في الحكم والقرار السياسي، بل إن بعض الأنظمة السياسية تشتد وطأتها على شعوبها لدرجة حرمانها من أبسط الحقوق الإنسانية والطبيعية.
والاستبداد أول خطوات الخوف العام؛ لأن غياب العدل وفشو الظلم دعوة صريحة للعنف المضاد، فدفع الظلم غريزة متأصلة في الإنسان، ولا يقنع بالظلم إلا من ماتت فيه تلك الغريزة.
ولما كانت الأنظمة المستبدة تغلق منافذ التعبير والتغيير السياسي والاجتماعي الشرعي في وجوه المضطهدين، يلجأ هؤلاء إلى ركوب سفينة التعبير والتغيير بالثورة والانقلاب والعمل المسلح، بما فيه من إراقة الدماء وتدمير البلاد وتحطيم مقدرات الدولة.
ومن أسباب غياب الأمن نشوب خلافات داخلية بين الفرقاء في الدولة الواحدة، مثل: السودان ولبنان والصومال...، حيث يتقاتل المواطنون، كل حزب بما لديهم فرحون، وتتدخل الأطراف الأجنبية لتفرض أجندتها السياسية، فيصبح كل فريق وكيلا للمستعمر وناطقا باسم العدو الأجنبي بشعور أو بدون شعور، وفي النهاية تتشرذم الدولة الإسلامية وتُنتقص من أطرافها، والنموذجان السوداني والعراقي أفضل من يمثل هذه الحالة، حيث إن البلدين على وشك التقسيم.
ومما يزيد الطين بلة في أزمة غياب الأمن في العالم الإسلامي، انسياق بعض من يدعون تمثيل المشروع الإسلامي، وراء أفكار متنطعة خارجة عن الضوابط الشرعية، تسهم بشكل خطير في نشر صورة مشوهة عن فريضة الجهاد ومبادئ الإسلام في الحرب والسلم.
وبسبب الدعاية الإعلامية المغرضة يتم إبراز الشباب المسلم على أنه كله على هذه الشاكلة، بينما يتم عمدا التعمية على جهود شباب الصحوة المنضبطين بقواعد الشرع، وهم الأكثرية في العالم الإسلامي، والهدف من ذلك أخذ المنضبطين بجريرة المتنطعين لمنع الصحوة ورجالها من تسيير عقلاني شرعي لدفة الدعوة، ولذلك لا نستغرب إذا علمنا أن كثيرا من العنف المنسوب إلى الشباب المسلم، ما هو إلا أحداث مفتعلة يقف وراءها المتآمرون.
المتتبع للساحة الإعلامية في العالم اليوم لا يسمع إلا بمن يشوه صورة الإسلام، حتى بين أهله، مما يدفع الشعوب المسلمة إلى نبذ الخيار الإسلامي في الحكم مستقبلا، لأن هذا الخيار ارتبط دائما بعدم الاستقرار والويلات في الإعلام المغرض وفي أذهان السذج، حتى بتنا نسمع كلاما بينهم مفاده "أننا تعبنا من أصحاب اللحى فمنذ أن برزوا على الساحة لم نذق طعم الأمن والراحة"!!.
أمام علماء الصحوة اليوم دور ضروري ومحوري، وهو تهدئة العالم الإسلامي وبث الطمأنينة في النفوس، ورفع درجة الوعي حتى لا يتم استدراج المسلمين إلى مستنقع اللا أمن، الذي يخدم المتصيدين في الماء العكر من أعداء الأمة، ولقد تأخرت كل الأعمال الإسلامية في حقل الدعوة بسبب هذه الظاهرة، وتوقفت مشاريع خيرية وعطلت نشاطات هائلة على المستوى المحلي والعالمي، في الوقت الذي فتحت على مصراعيها أواب التنصير والعلمنة والعولمة الثقافية والغزو الفكري والأيدلوجي.
إن جو الخوف ومناخ اللا أمن يصنعه أعداؤنا، لإرباكنا وإشغالنا عن جهودنا التي لا تثمر في هكذا جو ومناخ، والمسلمون بحاجة إلى استقرار حتى يستطيعوا ترتيب بيتهم من الداخل وتنظيم أمورهم، والدعوة الإسلامية تفتقر إلى الهدوء لتكمل مشوارها التجديدي البعيد المدى، الذي بدأته بعيداً عن الأفعال الانتقامية والتكتيكات الآنية وردود الأفعال المتشنجة.
إن "الصحوة بحاجة إلى صحوة"، تقطع الطريق على الفوضى المنظمة، التي صيرتها مجرد طبل يملأ الجو ضجيجاً، وهي لا تعدو أن تكون جزءاً من السيمفونية التي يعزفها "المايسترو" الأجنبي باقتدار.