بتـــــاريخ : 6/6/2008 3:00:13 PM
الفــــــــئة
  • التربيــــــــــة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 546 0


    العناية بالمواهب

    الناقل : العلا | العمر :35 | الكاتب الأصلى : د. محمد الحمد | المصدر : islamtoday.net

    كلمات مفتاحية  :
    مقالات مجتمع

    يكثر في الآونةِ الأخيرةِ الحديثُ عن ذوي المواهب، وعن وجوب العناية بهم، وحسن رعايتهم.
    وهذا دليلُ خيرٍ، ومظنةُ أن يخرج للأمة رجالٌ أفذاذٌ ينفعونها، وترفع بهم رأسها، وتستغني عن أممٍ غيرها في شتى مناحي الحياة.
    ولا ريب أن مجال التربية والتعليم أوسع المجالات وأرحبها للعنايةِ بذوي المواهب، ورعايةِ ذوي النبوغ من الطلاب؛ فشأن المربي الحكيم الناصح أن يقبل على التلميذ المتقد ذكاءً، ويأخذ بيده في طريق التحصيل، حتى يعرف كيف يكون عبقريًّا.
    وإن مما يهيئ الطلاب ذوي المواهب لأن يكونوا من العباقرة النابغين، ويقيهم -بإذن الله- من عِثار الطريق: تقدير النوابغ، وإذكاء هممهم، وإعطاءهم الفرصة للإبداع، ومراعاة التوازن في مديحهم وإطرائهم، وملاحظة ميولهم، وتوجيههم لما يناسبهم.
    هذا وإن مما ينبغي التنبيه عليه لمن أودع الله فيه خصلة من خصال النبوغ أن يشكر الله على هذه النعمة، وألاّ يصرفها في غير مرضاته -عز وجل-.
    كما عليه أن يلزم التواضع، والاعتدال، وترك التطاول على الأقران خصوصاً، وعلى الناس عموماً؛ حتى يسلم من الحسد وغوائله، والغرور وآفاته.
    كما عليه أن يحرص على الإفادة من كل أحد، ومن كل موقف من شأنه أن يرتقي بموهبته ونبوغه، وهذه مسألة مهمة في هذا الباب؛ فقد تساعف الإنسان الأمور؛ فتسير على نحو ما يريد، وقد تخالفه الأمور؛ فتجري على خلاف ما يشتهي.
    وقد يُوفّق بمن يعينه ويأخذ بيده، وقد يُخْذَل فلا يجد إلاَّ من يعوقه ويقف في طريقه.
    وكثير من الناس يفيد من الأمور التي تجري في صالحه، ولكنه يقف مكتوف الأيدي إذا وقف أمامه أمر، أو حال دون بغيته حائل.
    أما النابغة العاقل الحازم، ذو الهمة العالية، والبصيرة النافذة - فيحرص كل الحرص على أن يوظف الأمور كي تسير في صالحه، وأن يفيد من جميع المواقف التي تمر به مهما اختلفت عليه، فتراه "ينتفع بكل من خالطه وصاحبه، من كامل، وناقص، وسيئ الخلق، وحسنه، وعديم المروءة، وغزيرها.
    وكثير من الناس يتعلم المروءة ومكارم الأخلاق من الموصوفين بأضدادها، كما روي عن بعض الأكابر أنه كان له مملوك سيئ الخلق، فظ، غليظ، لا يناسبه.
    فسُئل عن ذلك، فقال: إني أدرس عليه مكارم الأخلاق!
    وهذا يكون بمعرفة مكارم الأخلاق في ضد أخلاقه، ويكون بتمرين النفس على مصاحبته، ومعاشرته، والصبر عليه"(1).
    قال ابن حزم-رحمه الله-: "ولكل شيء فائدة، ولقد انتفعت بمحك أهل الجهل منفعة عظيمة، وهي أنه توقد طبعي، واحتدم خاطري، وحمي فكري، وتهيج نشاطي، فكان ذلك سبباً إلى تواليف لي عظيمة، ولولا استثارتهم نشاطي، واقتداحهم كامني ما انبعثت لتلك التواليف" (2).
    وهذا الأديب الكبير عباس محمود العقاد يقول في صدد الحديث عن أساتذته، وعن استفادته منهم: "استفدت في مرحلة التعليم الابتدائي من أستاذين اثنين على اختلاف بينهما في طريق الإفادة؛ فإن أولهما قد كان قاصداً، والآخر أفادني على غير قصد منه، فحمدت العاقبة على الحالين.
    كان أحد الأستاذين الشيخ فخر الدين محمد الدشناوي، وكان يميل إلى التجديد والابتكار في التعبير، ويمنح أحسن الدرجات للتلميذ المتصرف في مناحي الكلام، وأقلها للتلميذ الذي يقتبس من نماذج الكتب.
    وكانت دروسه تلتهب حماسة ووطنية، ولها تأثيرها البليغ في نفوس التلاميذ، خصوصاً في زمن كانت تئنّ فيه البلاد من وطأة الاحتلال.
    أما الأستاذ الثاني فمدرس الحساب"(3).
    ثم تحدث عن مدرس الحساب فقال: "كان يؤمن بالخرافات، وشفاعات الأولياء، وكان محدود الفهم في دروسه، ولا سيما المسائل العقلية في دروس الحساب"(4).
    وبعد أن ذكر بعض المواقف مع ذلك الأستاذ قال: "ولكن الدرس الأكبر الذي أحسبه أكبر ما استفدته من جميع الدروس في صباي كان بصدد مسألة حسابية من تلك المسائل العقلية.
    كنت شديد الولع بهذه المسائل، لا أدع مسألة منها دون حل مهما يبلغ من إعضالها.
    وكان الأستاذ يحفظ منها عدداً كبيراً محلولاً في دفتره يعيده على التلاميذ كل سنة، وقلما يزيد عليه شيئاً من عنده.
    وعَرَضَتْ في بعض الحصص مسألةٌ ليست في الدفتر، فعالَجْنا حلَّها في الحصة على غير جدوى، ووجب في هذه الحالة أن يحلها الأستاذ لتلاميذه فلم يفعل، وقال على سبيل التخلص: إنما عرضتها عليكم؛ امتحاناً لكم؛ لتعرفوا الفرق بين مسائل الحساب، ومسائل الجبر؛ لأنها تشتمل على مجهولين.
    لم أصدق صاحبنا، ولم أَكُفَّ عن المحاولة في بيتي، وبقيت ليلة ليلاء حتى الفجر، وأنا أقوم وأقعد عند اللوحة السوداء حتى امتلأت من الجانبين بالأرقام، وجاء الفرج قبل مطلع النهار، فإذا المسألة محلولة، وإذا المراجعة تثبت لي صحة الحل، فأحفظ سلسلة النتائج وأعيدها؛ لأستطيع بيانها في المدرسة دون ارتباك أو نسيان.

    قلت: لقد حللت المسألة.
    قال الأستاذ: أية مسألة.
    قلت: المسألة التي عجزنا عن حلها في الحصة الماضية.
    قال: أو صحيح؟ تفضل، أرنا همتك يا شاطر!


    وحاول أن يقاطعني مرة بعد مرة، ولكن سلسلة النتائج كانت قد انطبعت في ذهني؛ لشدةِ ما شغلتني، وطُوْلِ ما راجعتها، وكررت مراجعتها، وانتظرت ما يُقال.
    فإذا الأستاذ ينظر إليّ شزراً وهو يقول: لقد أضعت وقتك على غير طائل؛ لأنها مسألة لن تعرض لكم في امتحان.
    وإذا التلاميذ يعقبون على نفحة الأستاذ قائلين: ضيعت وقتنا، ما الفائدة من كل هذا العناء؟" (5).
    ثم عقّب العقاد على هذا الحدث بقوله: "كانت هذه الصدمة خليقةً بأن تكسرني كسراً لو أن اجتهادي كان محلَّ شك عندي، أو عند الأستاذ، أو عند الزملاء.
    أما وهو حقيقة لا شك فيه فإن الصدمة لم تكسرني، بل نفعتني أكبر نفع حمدته في حياتي، وصح قول (نيتشه): كل ما لم يقتلني يزيدني قوة.
    لأني لم أحفل بعدها بإنكار زميل، ولا رئيس، وعلمت أن الفضل قيمته فيه، لا فيما يُقال عنه أيا كان القائلون"(6).
    بل إن كثيراً من العقلاء يتعلم من الحيوانات البهم أموراً تنفعه في معاشه، وأخلاقه، وصناعته، وحربه، وحزمه، وصبره.

    قيل لرجل: من علّمك البكور في حوائجك أول النهار لا تخل به؟
    قال: من علَّم الطير تغدو خماصاً كل بكرة في طلب أقواتها على قربها وبعدها، لا تسأم ذلك، ولا تخاف ما يعرض لها في الجو والأرض.
    وقيل لآخر: مَنْ علَّمك السكون، والتحفّظ، والتماوت حتى تظفر بإربك، فإذا ظفرت به وثبت وثوب الأسد على فريسته؟
    قال: الذي علم الهرة أن ترصد جحر الفأرة، فلا تتحرك، ولا تتلوى، ولا تختلج حتى كأنها ميتة، حتى إذا برزت الفأرة وثبت عليها كالأسد.

    وقيل لآخر: مَن علمك حسن الإيثار والبذل والسماحة؟
    قال: مَنْ عَلَّم الديك يصادف الحبة في الأرض، وهو يحتاج إليها ولا يأكلها، بل يستدعي الدجاج، ويطلبهن طلباً حثيثاً حتى تجيء الواحدة منهن، فتلتقطها وهو مسرور بذلك، طيّب النفس به.
    فإذا وضعت له الحب الكثير فرّقه ههنا وههنا، وإن لم يكن له دجاج؛ لأن طبعه قد ألِفَ البذل والجود، فهو يرى أنه من اللؤم أن يستبدّ وحده بالطعام.
    وكذلك كرام الأسود وأشرافها يُتعلّم منها الأنفة وعزة النفس؛ فهي لا تأكل إلاَّ من فريستها، وإذا مرت بفريسة غيرها لم تدن منها ولو جهدها الجوع (7).
    ومن جميل ما ينبغي على النابغة في هذا الشأن أن يفيد من تجارب الآخرين؛ فالحياة كلها تجارب، واستفادة من التجارب، وميزة إنسان على إنسان، وأمة على أمة هي القدرة على الاستفادة من التجارب وعدمها؛ فالحادثة تمر أمام جمع من الناس فيستفيد منها أحدهم بمقدار مائة، وآخر بمقدار خمسين، وثالث تمر منه الحادثة على عين بلهاء، فلا يستفيد منها شيئاً؛ فكم من الناس من لهم أعين ولكن لا يبصرون بها، وآذان ولكن لا يسمعون بها، وقلوب ولكن لا يعقلون بها!!
    والفرق بين من يستفيد من التجربة ومن لا يستفيد أن الأول يستطيع أن ينتهز الفرص في حينها، وأن يتجنّب الخطر قبل وقوعه، على حين أن الثاني لا ينتهز فرصة، ولا يشعر بالخطر إلاَّ بعد وقوعه.
    وحينما تقرأ كتب التاريخ تقرؤها؛ لتستفيد من أعمال الناس، وما وقع لهم، وما صدر منهم، وما كان من نتائج أعمالهم، وتقرأ سير العظماء؛ لتتشبه بهم، وتدرك مواضع عظمتهم (8).

    وأخيراً هذه همسة في أذن الموهوب وهي ألاّ يكثر من لوم أساتذته، أو أهل بيته، أو زملائه ممن يرى أنهم قصّروا في حقه، ولم يقدّروه قدره، أو يرعوه حق رعايته؛ فهؤلاء لم يعلموا بأنك موهوب، أو نابغة حتى يرعوك.
    وقد يكون لديهم ما يشغلهم عنك، أو يكونون ممن لا يعنيهم نبوغك من عدمه

    كلمات مفتاحية  :
    مقالات مجتمع

    تعليقات الزوار ()