تسميات كثيرة يوصف بها عصرنا الحالي. فهو أحيانا عصر المعلومات، وأخرى عصر الصورة. كما أنه يعتبر أحيانا أخرى عصر التكنولوجيا الجديدة للإعلام والتواصل، وفي أحيان أخرى العصر الرقمي. تسميات كثيرة تتآزر، وهي تمسك ببعض سماته ومميزاته، لتوصيف عصر مختلف بطابعه الخاص الذي شمل البشرية جمعاء، حتى وإن كان هناك تفاوت، بين الأمم والشعوب، في دخوله والإسهام في تحولاته الكبرى.
يبدو لي أن كل هذه التسميات، وهي توظف في مجالات مختلفة كسمة مهيمنة للعصر، تشترك في إيحائها إلى قواسم مشتركة تجد مدلولها الحقيقي في كوننا ندخل حقبة حضارية جديدة من تاريخ البشرية، عنوانها المركزي هو الانتقال إلى المرحلة الرقمية التي تهيمن فيها الأجهزة الرقمية التي من خلالها يتم التواصل: الحاسوب، الدفتر الرقمي، آلة التصوير الرقمية، التلفزيون الرقمي،،،
فكيف انتقل الأدب إلى الرقمية؟ ولماذا؟ وما الانعكاسات والآثار التي خلفتها عليه؟
إن الأدب في العصر الرقمي أدبان: أدب مكتوب قديم، وآخر رقمي جديد.
أما الأول فأدب له تاريخه الخاص وجذوره الضاربة في القدم. وأما الثاني فهو أدب قيد التشكل، ويعمل جاهدا على تثبيت نفسه، والبحث له عن موقع يفرضه حيال الأدب المكتوب، وسط حماس المشتغلين به والمنافحين عنه، وقلة اكتراث المنتصرين للأدب بالمعني التقليدي.
يتجسد الأدب الأول من خلال الكتابة والكتاب الورقي. أما الثاني فلا يتخلق، إبداعا وتلقيا، إلا من خلال الحاسوب الذي تحقق نتيجة التطور الحاصل على مستوى التكنولوجيا الجديدة للإعلام والتواصل.
فهل نحن، هنا والآن، أمام أدبين مختلفين فقط باختلاف الوسيط الموظف في إنتاج النص وتلقيه؟ أم أن اختلاف الوسيط أدى، أيضا، إلى إدخال اختلافات جذرية بينهما لأن للوسيط دورا كبيرا في ذلك؟ ومن ثمة، غدا الأدب الثاني، بسبب الوسيط المركب الذي يوظفه، مختلفا جذريا عن الأول، وهو بذلك "أدب جديد" يشق طريقة الخاص، مقدما بذلك ممارسة جديدة هي الآن بصدد تشكيل "تاريخ" ها المتميز عن الممارسة القديمة؟
هل يمكننا الحديث عن أدب رقمي بدون استحضار تاريخ طويل من ممارسة الإبداع الأدبي؟ أم أنه من اللازم اعتبار هذا الأدب الجديد، فقط، مسارا متحولا عن نهج قديم من الإنتاج، ولا بد تبعا لذلك، ومن وضعه في سياق تطور التجربة الأدبية مع تغير الوسيط؟
ما هي مميزات هذا الأدب الجديد التي تؤكد اختلافه؟ وما أنواعه؟ وأشكاله؟ وهو هذه الأنواع والأشكال جديدة تماما أم أنها، فقط، تعديل وتطوير لأشكال وأنواع قديمة؟
كيف يمكننا التعامل كقراء ونقاد ودارسين مع هذا الأدب الجديد بأنواعه وأشكاله؟ هل بالعدة النظرية الأرسطية وامتداداتها في النقد الغربي؟ أم بأدوات النقد العربي والتصورات البلاغية العربية وتطويراتها الجديدة؟ أم لا بد من اقتراح تصورات ومقاربات ومفاهيم وإجراءات جديدة تتلاءم مع خصوصية هذا الأدب؟ كيف يمكن للقارئ أن يتعامل مع الإبداعات الأدبية الجديدة، أمتخيل القارئ التقليدي الذي تشكل وعيه ووجوده القرائي من خلال السماع حكايات الجدات، أو قراءة الأمهات قبل النوم، أم بدينامية قارئ جديد بشكل وجوده مع معاينة الرسوم المتحركة في التلفزة أو من خلال التحكم في آلة تحريك ألعاب الفيديو، ويمتلك أدواته لاكتساب المعارف الجديدة، وقابل للتكيف مع رهانات التحولات الطارئة؟
ما أكثر الأسئلة والإشكالات التي يفرضها علينا هذا الموضوع المعقد والمتشابك. وتزداد الأمور تعقيدا عندما نتبين أن الاختلافات، في محاولة الإجابة عنها، لا حصر لها بين المشتغلين بالرقميات في أمريكا والغرب وكندا وأستراليا.
إن التصورات متعددة والمقاربات متنوعة، ولا يمكن للمرء أن يتوصل إلى مقاربة دقيقة للموضوع إلا بعد الإحاطة بأهم النظريات والتنظيرات الشائعة والمتداولة عالميا من جهة أولى، والعمل على استيعابها مقرونة بإنجازاتها الإبداعية، ثانيا، وفهم لخلفياتها ومراميها ومقاصدها القريبة والبعيدة ثالثا.
هذا إلى جانب اتخاذ الموقف الملائم من كبريات القضايا المطروحة ببصر المستشرف وببصيرة الناقد المفكر من جهة رابعة. وأي حماس أو تطرف، في هذا الاتجاه، لا يمكنه إلا أن يجعل دخولنا إلى عالم الرقميات، الأدبية منها على نحو خاص، محفوفا بكثير من المخاطر التي تسيء إلى علاقة ممكنة وضرورية مع ما يتحقق من إنجازات في هذا المضمار