بتـــــاريخ : 11/5/2008 6:49:45 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1108 0


    إخترتُ أن أكون خنجراً

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : نزار قباني | المصدر : www.balagh.com

    كلمات مفتاحية  :

    لن أكون هذه الليلة شاعراً رقيقاً.. كما تنتظرون.
    لأن المفهوم العربي للشاعر الرقيق، يعني أن يدخل هذا الشاعر في سِلك الدروشة.. ويمشي من الحائط إلى الحائط طالباً من الله السِترَة...
    لذلك فإنني أعتذرُ عن قبول لقب الشاعر الرقيق .. أو الشاعر المستور .. لأن الرقة والسترة هما من أعمال الجمعيات الخيرية. بل هما مؤامرة مضادة للشعر.
    وأعترف لكم بادئ ذي بدء، نني شاعر غير منضبط وغير مريح .. وغير مؤدب .. وأنني لم أقص أظافري الشعرية منذ أن كنت في العاشرة من عمري.
    أعترف لكم أيضاً أن عندي حساسية مفرطة من رائحة السلطة، سواء كانت سلطة بوليسية .. أم سلطة نسائية.
    أعترف لكم أيضاً أنني مشاغب وعدواني. وأنني الآن عاطل عن العمل، لأنني قتلت جميع أسيادي .. وجميع أرباب العمل الذين اشتغلت معهم .. كما قتلت مدرس التاريخ الأهبل الذي لا يزال يصر على أن مدينة غرناطة لا تزال ولاية من ولايات أمير المؤمنين .. وأن مسجد قرطبة الكبير لا يزال تابعاً لوزارة الأوقاف في المغرب ..
    ولأن كتاباتي لم تلتزم بمنطق القبيلة وقناعاتها، فقد وجدت نفسي كالشعراء الصعاليك .. على رصيف الشارع العربي.
    وتلك هي ضريبة الكلمات التي ترفض زواج المتعة .. وترفض أن تنام مع السلطة في فراش واحد .. فالزواج من السلطة هو جحيم في النهار .. وكوابيس في الليل ..
    وخير للكاتب أن يبقى عازباً إلى أبد الآبدين .. من أن يتحول إلى خادمة سيرلانكية .. تنتقل من مالك إلى مالك، ومن متعهد إلى متعهد .. وفقاً لمتطلبات السوق السياسية، وقوانين العرض والطلب.
    لو كان على الشعر أن يكون مؤدباً، ومهذباً، ويعمل بتعاليم السلف الصالح، من أن خير الأمور الوسط، وأن القناعة كنز لا يفنى .. لتحولت القصيدة إلى قطّ من خشب ..
    ولو كان على الشاعر أن يتمسكن .. ويستول .. ويلبس الثياب المرقعة .. ويبحث عن وظيفة أميرية، أو صحن حِساء .. لتحول الشعر إلى تكية للدراويش ..
    ولو كان على الشاعر أن يُدير خدّه الأيسر لمن يضربه على خده الأيمن ..ل تحول حكام العالم إلى مجموعة من الملاكمين ..
    ولو كان على الشعر أن يبقى دائماً في الأرض الحرام، أو في المنطقة المنزعة السلاح، أو يقبل بمراقبة قوات الطوارئ الدولية، لتحول الشعر إلى دبلوماسي محترف، يشتغل عند السيد حافيير بيريز دي كويلار.
    ولو كان الشعر من فصيلة الحيوانات الأليفة .. كالحمام الزاجل .. والكناري .. لاشتريناه من عند بائع العصافير ..
    ولو كان الشعر موظفاً عثمانياً، يلبس الطربوشَ الأحمرَ، ويُطَقطقُ بمسبحتهِ خلالَ ساعات العمل، وينطوي نصفين أمامَ الباب العالي .. لكان نصف الشعر العربي مكتوباً باللغة التركية.
    ولكنّ الشعر يرفض كل الأعمال المنزلية الآنفة الذكر، كما يرفض رفضاً قاطعاً أن يكون زوجة لا تستطيعُ الخروج من بيت الطاعة.
    عندما يختار الشاعرُ أن لا يقول شيئاً .. وأن لا يُغصبَ أحداً .. وأن لا يعتدي على عذرية نَملة .. يقولون عنه إنه مؤدب .. وجنتلمان .. وابنُ ناس ..
    ولا أدري ما هو معيارُ الجنتلمانية في الشعر .. وما هي البروتوكولات التي تجعل من شاعر منبطح على بطنه منذ ثلاثين عاماً ابنَ ناس .. ومن شاعر يحطّم بقبضته زجاجَ الشمس ابنَ آوى ...
    والسؤال الذي لابد من طرحه هو التالي:
    هل نحن بحاجة إلى شعراء معلّقين كالبراويز على حيطان وزارات الثقافة والإعلام .. أم نحن بحاجة إلى شعراء يُضرمونَ النار في ثيابهم على الطريقة البُوذية؟
    هل نحن بحاجة إلى شعراء يلبسون الأحذية اللماعة، والقبات المُنشّاة .. ويكتبون القصائد المنشّاة .. أم نحن بحاجة إلى شعراء يقلعون جلدهم، ويلبسون العاصفة؟
    ثم لا أجري، إذا كان الوطن العربي، في صورته الحاضرة، بحاجة إلى شعراء يأكلون الشعر بالشَوكة والسكين .. أم بحاجة إلى شعراء متوحشين ينقضُّون على هذا الخراب الكبير كالنسور الجارحة؟
    إنني بدون تردد مع القصيدة المتوحشة!
    مع القصدية التي لم تقرأ كتاباً واحداً عن فن الجلوس على المائدة، أو فن تنسيق الأزهار على الطريقة اليابانية، أو فن تقبيل أيدي النساء على الطريقة الإنجليزية.
    لا تستطيع القصيدة أن تكون عاقلةً في غابة من المجانين..
    ولا تستطيع أن تكون مانيكاناً.. في كَرنَفالٍ من القُبح..
    ولا تستطيع أن تضع الخلاليل في ساقيها.. وترقصَ حتى مطلعِ الفجر .. لرجال الميليشيات.
    ليس هذا زمن العصافير .. ولا زمن المواويل .. ولا زمن الورد واللوز والعنب..
    وليس هذا زمن ابن زيدون، وابن المعتز، وابن نباتة الأندلسي، لأن الأندلس كلها صارت في ذمة الله .. وصار تطبيق القرار 242 مطلب جميع الأندلسيين.
    والعالم العربي يتآكل كل يوم كبرتقالة عَفِنة .. وينام على مسلسلات الرعب .. ويصحو على مسلسلات الرعب...
    ان هيتشكوك العربي، هو البطل القومي الوحيد، الذي تملأ تماثيله ساحات المدن العربية...
    أما الشعب العربي فهو موضوع في الفريزر .. وهو بالتعبير المصرفي كمبيالة مؤجلة الدفع حتى إشعار آخر..
    وفي هذا الإطار الهيتشكوكي الرهيب .. العابق برائحة الموت، والبارود، والمسدسات الكاتمة للصوت .. مطلوب من الشاعر أن يضرب على طبلته .. ويهز وسطه .. ويشارك في الفرح..
    إنني من زمان بعيد، مستقيل من وظيفة إحياء الأفراح.
    ففي هذا الزمن العربي الذي لا وصف له، لم يَعُد أمامي خيارات كثيرة.
    فإما أن أكون حمامة تسكنُ في قبّة مسجد..
    وإما أن أكون خنجراً في لحم عصور الانحطاط..
    ولقد اخترتُ أن أكون الخنجر...

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()