بتـــــاريخ : 11/12/2008 4:33:25 AM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1070 0


    خيطان جديدان

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : جان الكسان | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

     

     

    تلقفه الزقاق الجانبي من حي الطنابر، اخر حي بطرف المدينة الشرقي في السابعة من الصباح، وجو آب يحمل كآبة ثقيلة مبكرة وكان على وجهه إعياء، وعلى جبينه تقطيبة حادة..‏

     

    الطريق نفسها.. المشاهد نفسها.. البيوت الفقيرة تتراكب حوله كالصناديق المهملة، والمعمل القديم يرسل أزيزه من الضفة اليسرى للنهر الصغير، وحذاؤه القديم يضرب الإسفلت بعدم مبالاة عاجلة، بينما تدوي في رأسه أصداء كثيرة مختلطة تدق فيه بعناد وقسوة وإلحاح.. اصداء أصوات أطفاله الستة، وأنين زوجته الحامل، وطلبات والدته العجوز.‏

     

    ماذا لو لم تنسلّْ ريح شتوية من النافذة الخشبية تلك الليلة؟ ماذا لو لم تصرخ زوجته فاطمة وتعلن أن مغصاً حاداً يقطع امعاءها؟. والطبيب.. طبيب القرية الوحيد يهرع دائماً إنساني الخطوة.. ملهوف النظرات.. حلال ما يقبض.. لم يقبض منه شيئاً تلك الليلة.. في المرّة الأولى لا يستوفي أجراً عن المعانية.. هذه عادته.. ويظل هو، إبراهيم، يحمل الحليب كل يوم للطبيب، فاطمة بخير، لم يعد المغص يعرف أمعاءها.. ماذا لو لم تنسل ريح شتوية من النافذة الخشبية تلك الليلة؟‏

     

    كانت الأصداء تتزاحم في رأسه وأذنيه وعينيه فيشعر وكأنه يدور في دوامة يتغلغل صفيرها في مسام جلده بتلاعب خبيث، واستطاع ان يميز أصداء كلمات أمه المتلاحقة:‏

     

    _. يا ابني دبرنا.. زوجتك ستلد اليوم.. هكذا قالت ام خليل الداية نحن بحاجة إلى الطعام، وإلى أجرة الداية، وإلى مصاريف كثيرة...‏

     

    وضاعت أصداء صوتها فجأة مع صوت مرور شاحنة، وعندما إنقطع الصوت انداح إبراهيم في الدوامة من جديد:‏

     

    قال طبيب القرية: أنت طيب ومخلص يا إبراهيم.. سآخذك معي إلى المدينة عندما انتهي من مهمة خدمة الريف في هذه القرية.. سأفتتح عيادة كبيرة في المدينة، وستعمل فيها مشرفاً.. ستعيش في المدينة انت وأسرتك حياة مرفهة، أفضل من حياتك هذه التي تدفنها هنا بين تراب الحقل وروث البقر‏

     

    مسكينة أمه.. لا تحاول أن تتفهم وضعه.. ألم يستلف من أبي حمدي، صاحب الفرن، أكثر من نصف مرتب الشهر.. أم انها لا تعرف أبا حمدي الذي تحتقن اذناه باحمرار الغضب كلما طلب منه شيئاً على المرتب!. إنه يخشى إنفجار أبي حمدي يوماً فيطرده من العمل ويحطم حياته وحياة أسرته، كما فعل ذلك الطبيب.. ومن يدري كم من الوقت سيقتل في البحث عن عمل جديد. طرح الطبيب أمامه موضوع النزوح على طبق من ذهب.. ولم يتردد.. باع الأرض والبيت والزريبة والبقرة على الرغم من إعتراض أمه وصراخ زوجته، وحمل أسرته وصرة المال وأولاده الأربعة ( أصبحوا بعد ذلك ستة ) وسكن بيتاً في حي الطنابر بعد أن دفع من مقدم أجره ربع ما يحمل من مال‏

     

    آه من هذه الزوجة.. ألم تستطع أن تمنع نفسها هذه المرّة من الحمل كما تفعل بقية النسوة؟.‏

     

    لم يستطع أن يفاتحها أو يفاتح أمه في الموضوع.. ستصرخ كل منهما في وجهه: هذه جريمة.. إن الله يبعث بالطفل ويبعث برزقته معه.. ولكن رزق هذا الطفل الذي سيطل على الدنيا بعد ساعات لا يزال مخنوقاً في جيب أبي حمدي، فكيف يطلب دفعة أولى؟ وماذا يفعل إذا تمنع أبو حمدي عن الدفع؟.‏

     

    يا فتاح يا عليم.. كل يوم وهمه معه....‏

     

    في الأيام الأولى لنزوحه إلى المدينة شعر بفداحة الخطأ الذي ارتكبه يوم باع أملاكه في القرية وجاء يعيش حياة الضياع هذه في زحمة المدينة وضجيجها.. يحس انه يختنق وأنشوطة قاسية تلتف حول عنقه وهو يعمل في عيادة الطبيب عشر ساعات في اليوم ليعود ليلاً إلى البيت الذي تأكل أجرته نصف مرتبه، في حي الطنابر، ليرتمي على فراشه مثل القتيل‏

     

    حث إبراهيم الخطى.. عيناه تأكلان الطريق بتساؤل يائس والهموم تملأ كيانه فيدور في الدوامة وقد خيل إليه أن إسفلت الطريق حية سوداء طويلة ماكرة تتلوى أمامه لتعذبه.. وأن أزيز المعمل القريب لا يختلف في إزعاجه عن دقات إبنه محمود عندما يحاول في ساعة القيلولة التي تفصل بين دوامه الصباحي والمسائي إدخال مسمار في خشب قبقاب ثقيل..‏

     

    ليس هناك وسيلة ركوب توصله بشكل مباشر إلى الفرن، ولهذا يسير إليه على قدميه...‏

     

    فرن؟..‏

     

    .من قال انه فرن واحد؟..‏

     

    إن أبا حمدي يمتلك عدة أفران في المدينة.. بعضها للخبز، وبعضها للكعك وللحلويات، إضافة إلى العقارات والحوانيت...‏

     

    أين يذهب أبو حمدي بهذه الأموال؟.‏

     

    يقول أبو رشيد ان أبا حمدي يصرف على الراقصة سميرة ما يكفي لإعالة مئة أسرة فقيرة..‏

     

    (( يخرب بيتك يا أبا حمدي.. زوجتان.. ولا حق سميرة؟. ))‏

     

    ويمد ابو رشيد رقبته أكثر وهو يهمس:‏

     

    أبو حمدي يذهب إلى الملهى الذي تعمل فيه سميرة كل ليلة.. يجلس في مقصورة خاصة داخلية، وتجلس سميرة إلى جانبه تسايره وتمازحه وتعابثه ريثما يحين موعد نمرتها، وعندما تسلط عليها الأنوار ويبدأ الرقص، ينتقل إلى مائدة قريبة من الحلبة التي ترقص عليها، ويخرج من جيبه كدسة من ذوات الخمسمئة، وينثرها فوق رأسها فتتساقط تحت قدميها.. يفعل هذا كل خميس..‏

     

    (( واحدة فقط من تلك الأوراق تنهي تكاليف الولادة))‏

     

    ويتابع أبو رشيد: سميرة لا تحبه.. انها تحب ماله.. وماذا ستحب في هذا الكهل ذي الرأس الصلعاء والبطن الأكرش؟.‏

     

    بعد عام من نزوحه إلى المدينة كانت المفاجأة.. جاءت العيادة صبيّة مغناج، أدرك للتو انها متمارضة وليست مريضة سألت عن الطبيب.. دخلت عليه دون استئذان.. وعندما لحق بها إلى الداخل كانت قد جلست على الكرسي أمام الطبيب وقد وضعت ساقاً على اخرى..‏

     

    وكانت تلك البداية.. صرفه بعدها الطبيب من العمل، وعينها بدلاً عنه مشرفة وسكرتيرة.. وظل عاطلاً عن العمل ستة أشهر صرف خلالها ما كان يدخره، قبل أن يتدبر له أبو رشيد، قريب جاره، عملاً معه في أحد أفران أبي حمدي.‏

     

    كيف سيطلب من أبي حمدي سلفة جديدة على المرتب.. إنه لا يجرؤ حتى على الدخول إلى غرفته والوقوف بين يديه.. فهو يخشى أن يستبد به الغضب ويطرده من العمل..‏

     

    ليس له أحد يحميه.. ليس له نقابة أو نظام ضمان إجتماعي.. لقد اشترط عليه أبو حمدي أن يتخلى عن جميع هذه الحقوق حتى يوافق على تشغيله في الفرن‏

     

    . . .‏

     

    تنبه إبراهيم إلى نفسه عند أول منعطف.. وشعر انه بحاجة لأن يشغل رأسه بأي شيء غير هذه الأصداء المتناوحة والأفكار التي تعذبه، في هذه الزاوية حيث يتفرع الطريق خاصم سائق باص الحي الشرقي لأنه رفض أن يقف لأثنين من الأطفال كاد البرد أن يجمد أطرافهما.. أما البيت الذي على الناصية فلا يمر أمامه إلا ويتذكر حادثته مع ساكنيه: كان عائداً من العمل ليلاً، وعندما انعطف نحو الزقاق تناهى إلى أذنيه من ذلك البيت صراخ إمرأة تستغيث وتطلب النجدة، فما كان منه إلا أن اقتحم الباب ودخل ليجد رجلاً يضرب إمرأة شابة بقسوة ووحشية وهو يجرها من شعرها على بلاط الدار وقد استطاع إبراهيم أن ينقذها من بين يدي الرجل، ولكنه دفع ثمن ذلك ليلة باردة قضاها في ( النظارة ) لأنه تدخل في الشؤون الخاصة للناس، والتي لاتهم إلا أصحابها..‏

     

    ومنذ تلك الليلة لم يعد يتدخل في حياة الناس، بدأ يسير في ظل الجدار و لايطلب إلا الستر... حتى حكاية نعيمة لم يجرؤ ان يرويها لأحد.. ولا لأبي رشيد.. إنه الوحيد الذي يعرف قصة نعيمة مع أبي حمدي..‏

     

    إنها زوجة زميله أبي عايش الذي كان يعمل على العجانة... كان أبو عايش مريضاً، يشكو من الربو الذي إزداد معه بسبب تسرب ذرات الطحين إلى رئتيه وهو يفرغ كل يوم في المعجن عدة أكياس من الدقيق..‏

     

    زاره في بيته.. ودخلت نعيمة تقدم القهوة.. لفت انتباهه جمالها المبهر.. سبحان الخالق.. بدر مصور...‏

     

    غض الطرف ولعن الشيطان و خرج شبه هارب من هذا الجمال... وعندما مات أبو عايش تأثراً بمرضه، رفض أبو حمدي أن يصرف له تعويضاً، أو يعتبر الوفاة إصابة عمل على الرغم من وساطات ورجاءات حميع عمال الفرن.. ولكن أبا حمدي غير رأيه عندما زارته نعيمة تطالب بحق زوجها..‏

     

    بدأ يداور ويناور ويساوم وهو يستقبل الأرملة في الغرفة الخلفية الملاصقة للفرن وإبراهيم يراقب كل شيء عن كثب..‏

     

    كانت نعيمة النعجة السمينة البيضاء التي يتحايل عليها الجزار المتربص بها وقد حمل سكينه..‏

     

    وكانت نعيمة فقيرة، ومحتاجة، خلفت في البيت ثلاثة أطفال فاغري الأفواه ينتظرون طعاماً بعد أن رحل معيلهم الوحيد...‏

     

    حاولت نعيمة في أول الأمر أن تقاوم، ولكن أبا حمدي كان ملحاحاً.. وبدأ ضغط الحاجة يسوق قدميها إلى المسلخ.. وعندما حاول إبراهيم أن يحدثها وأن يحذرها من الولوج إلى المسلخ الذي يجرها إليه الجزار المتربص كانت السكين تحز الرقبة..‏

     

    ولا ينسى إبراهيم تلك المقابلة العاصفة بينه وبين نعيمة، وهو يلحق بها إلى حيث تسكن في حي الطنابر.. الحي الذي يسكن فيه قالت له: ماذا تريد؟.‏

     

    _ أريد أن أتحدث إليك في موضوع مهم..‏

     

    _. ولماذا لم تحدثني عندما خرجنا من الفرن؟.‏

     

    -. إنه موضوع خاص، ولا أستطيع أن أتحدث عنه في الشارع‏

     

    -. وما هذا الموضوع؟.‏

     

    _. أنت تعلمين محبتي للمرحوم أبي عايش؟.‏

     

    _. هل سننبش القبور؟.‏

     

    _. اعوذ بالله.. انني أشرح لك فقط عن مدى محبتي للمرحوم زوجك‏

     

    -. لم يعد زوجي.. أصبح مرحوماً.. وأنت الذي يقول ذلك.. المهم.. ماذا تريد؟. أوجز واختصر.. انا لا أستقبل رجالاً في بيتي..‏

     

    -. سأختصر.. سأختصر.. الموضوع يتعلق بأبي حمدي؟.‏

     

    -. ما به؟‏

     

    -. أريد أن أقول لك انه....‏

     

    وتقاطعه نعيمة.‏

     

    -. أسمع.. قبل أن تقول أية كلمة عن الرجل.. لقد قدمتم لي أنت وزملاؤك عمال الفرن صورة مغلوطة عن الرجل.. صورتموه وكأنه مجرم، أو دون قلب.. قلتم لي أنه سيأكل حقوق زوجي، ولن يدفع لي ليرة واحدة.. وتبين أن كلامكم كله كذب في كذب.. لقد دفع لي حقوق المرحوم كلها، وفوقها حبة مسك، وقدم لي بدل كسوة لأولادي.. ولما اخبرته أن صاحب البيت الذي أسكنه في حي الطنابر سيطردني انا وأولادي من البيت بسبب تراكم الإجار، دفع كل المتراكم، وسيقدم لي ولأولادي بيتاً مجانياً نسكنه في حي آخر.. ماذا تريد أن تقول عن الرجل بعد هذا؟. هل تريد أن تقول إنه نسونجي؟. كلكم هكذا أيها الرجال.. انت نفسك شعرت أنك تأكلني بعينيك يوم زرتنا في البيت وكان أبو عايش مريضاً.. أنت أنظم منه؟.‏

     

    -. ولكنك لا...‏

     

    -. أسمع.. لا أريد أن أسمع منك كلمة عن الرجل.. وانت تعرف مصيرك لو علم أنك زرتني لتستغيبه.. اضبط لسانك وهذا خير لك.. واعتبر هذه المقابلة كأنها لم تتم.. وانا كذلك ثم أن عليك ان تنصرف الآن.. لقد اقتربنا من البيت، وأنا لا أستقبل رجالاً في بيتي.. ماذا سيقول عني الجيران إذا رأوك تدخل بيتي وأنا إمرأة أرملة مستورة!. هيا.. مع السلامة..‏

     

    ماذا جئت تفعل في المدينة يا إبراهيم؟. كيف سمحت لطبيب القرية أن يخدعك بالوعود ويجعلك تبيع كل ما تملك هناك لتعيش هذه المعاناة القاسية؟‏

     

    كيف سيعود إبراهيم إلى بيته صفر اليدين؟.‏

     

    أحس بالضيق يشد أضلاعه إلى داخل قفص صدره، وخيبة كبيرة مثل الدوامة تلفه وهو فيها مثل قصبة فارغة في مهب الريح.. في القرية لم يكن كذلك، كان ملء ثيابه.. يحمل سكة الفدان بيد واحدة، ويعمل عشر ساعات في الحقل دون ان يتعب.. يأكل قدراً من البرغل ورغيفين وثلاث بصلات.. كان يشعر أن أحلامه تتحدى المفازات وتظل في إطلالة عالية كصهيل الخيل المتمرد وقد حطم عناد قمة..‏

     

    يشعر اليوم أنه انتهى من حيث كان عليه أن يبدأ.. فماذا بيده أن يصنع.. إنه عاجز تماماً عن قلب مفهوم بدايته ونهايته في هذه المدينة التي تتقاذفه أزقتها وشوارعها وساحاتها وبناياتها وأناسها الذين يبدون أحياناً حوله مثل العمالقة الأسطوريين وأحياناً مثل الخيوط الملونة الرفيعة التي تنضفر أنشوطة تلتف حول عنقه لتخنقه...‏

     

    وعندما اقترب من الفرن مرت إلى جانبه سيارة فارهة.. عرفها من لونها ومن وجه السائق.. ومن الراكبة في المقعد الخلفي..‏

     

    إنها نعيمة...‏

     

    واستفاق من ذهوله على صوت أبي رشيد وهو يربت كتفه بيده . التفت إليه وسأله:‏

     

    -. هل رأيت ما رأيت؟.‏

     

    -. وهل تستغرب؟.‏

     

    -. إذن انت أيضاً تعرف القصة؟.‏

     

    -. أجل..‏

     

    -. ظننت اني الوحيد الذي أعرفها..‏

     

    -. وماذا يبدل في الموضوع ان كنت تعرف القصة وحدك ام نعرفها معا ؟.‏

     

    -. وماذا نفعل؟‏

     

    -. لا نفعل أي شيء.. تعال معي.. لا يزال في الوقت متسع لبدء وردية العمل.. هنا مقهى قريب.. سأدعوك إلى فنجان من الشاي مع القرفة..‏

     

    -. أريد أن أذهب إلى أبي حمدي واطلب منه سلفة.. زوجتي ستلد الآن‏

     

    -. أبو حمدي مشغول الآن.. ألم ترّ الزائرة التي جاءته؟. تعال إلى المقهى، نرتاح قليلاً ونشرب الشاي ثم نذهب إلى الفرن..‏

     

    لم يكن إبراهيم قد دخل مقهى منذ أن قدم المدينة.. فهو ليس من زبائن المقاهي، وليس لديه وقت يضيعه في المقهى، ولا هو مستعد لدفع نفقات إضافية، فوجئ بمقهى غريب من نوعه.. قال عنه أبو رشيد انه مقهى شعبي.. مقهى الدراويش.. صالة مستطيلة، ممتدة نحو الداخل، صفت فيها مقاعد جلدية مستطيلة ومتقابلة..‏

     

    في آخر الصالة ملحق هو ديوان نصف دائري، صفت فيه بدوره مقاعد جلدية قديمة, وألصقت على الجدار الأيمن مجموعة من الصور الملونة تمثل الزير وعنترة وسيف بن ذي يزن.. في يمين كل منهم سيف مسلول، وتحته حصان أشهب، والغضب يتراقص على شواربهم المعقوصة.. والويل للاعداء..‏

     

    أما الجدار المقابل فخال إلا من إعلانين كتب على احدهما سعر الشاي، وهو المشروب الوحيد في المقهى، اما الثاني فيرجو الزبائن عدم إيداع امانات في المقهى..‏

     

    وفي منتصف المكان عدة الشاي يقف أمامها صاحب المقهى بصدارته القذرة ويديه المبتلتين ودخينته التي لا تفارق شفتيه...‏

     

    جلس إبراهيم صامتاً ينظر إلى صور الفرسان المعلقة بانتظار فنجان الشاي.. ولا يدري كيف أخذته الحال فتصور أن هؤلاء الفرسان هم ثلاثة قضاة خرجوا من التاريخ ليعقدوا محكمة ينظرون من خلالها في ظلامته..‏

     

    قال لهم: يا سادتي فرسان العرب.. نحن في زمن خاسر.. في زمن ردئ.. انقلبت فيه المفاهيم وزادت تخمة الأغنياء اما الفقراء فقد ازدادوا فقراً.. هل أروي لكم قصة أبي حمدي معي ومع أرملة أبي عايش؟. يبدو أن هناك كثيرين من امثال أبي حمدي.. القصة طويلة ومؤلمة.. هناك خلل كبير في هذه الدنيا لا نستطيع الخروج منه.. لماذا تخليتم عنا أيها الفرسان وهربتم إلى هذا الجدار؟.‏

     

    وتنبه إبراهيم من سدوره على صوت أبي رشيد يلكزه:‏

     

    -. ما بك؟. أراك شارداً.. لقد برد الشاي..‏

     

    ...‏

     

    في الفرن.. سأل إبراهيم عن أبي حمدي فقيل له أنه في الغرفة الخلفية. كان الوقت يمر سريعاً.. والحالة لا تحتمل التأجيل.. فقرر إبراهيم أن يجازف، وليحدث ما يحدث.. تقدم من الغرفة.. سمع صوت همهمات.. طرق الباب ودقات قلبه تتلاحق مع الطرقات.‏

     

    بعد قليل، فتح الباب، وظهر أبو حمدي غاضباً:‏

     

    -. أنت.. ماذا تريد؟.‏

     

    -. زوجتي ستلد بعد قليل.. أريد سلفة..‏

     

    -. تريد سلفة؟. خذ..‏

     

    ودوت صفعة قوية على خد إبراهيم، أفاق من هولها على صوت أبي حمدي وهو يصرخ به قبل أن يدخل ويصفق الاب خلفه:‏

     

    -. أغرب عن وجهي.. انت مطرود..‏

     

    وعند طرف الفرن كان أبو رشيد واقفاً يشهد ما يحدث.. فتقدم من إبراهيم وأخذه من ذراعه خارج الفرن، واخرج من جيبه ورقة مالية بخمسمئة ليرة قدمها له وقال: خذ هذه الآن وأذهب إلى البيت وتدبر أمر الولادة.. وغداً يفرجها الله..‏

     

    ...‏

     

    عند باب داره استقبلت إبراهيم الجارة أسماء بزغرودة ضعيفة سرعان ما اختلجت لتختنق في رقبتها الطويلة المعروقة: مبروك يا جارنا.. مبروك..‏

    ودخل إبراهيم الغرفة، فأذا وزجته ممددة في الفراش بوجه أصفر شاحب، على شفتيها إبتسامة لا معنى لها وفي عينيها حكاية قديمة.. وكان في اللفائف التي إلى جانب الفراش خيطان جديدان نزلا حديثا إلى الدنيا الكبيرة

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()