بتـــــاريخ : 11/12/2008 5:41:14 AM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1436 0


    الآنسة نورا

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : هزوان الوز | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

     

     

    قالت احدى الطالبات: لم أعرف انسانة معقدة مثل الآنسة نورا.‏

     

    وقالت أخرى: لابد أن أباها كان ظالماً في معاملته لأولاده.‏

     

    وقالت ثالثة: لا أدري متى يخلصنا رب العالمين منها.‏

     

    وقالت رابعة: وجهها أشبه بقواعد النحو والصرف.‏

     

    وقالت خامسة: ما يدهشني أنها في غرفة المدرسين دوماً مبتسمة ضاحكة.‏

     

    قالت الثالثة: أتعلمين لماذا تغضب منا؟‏

     

    سألت الأولى: لماذا؟‏

     

    فقالت الثالثة: لأنه لا يوجد ذكور في صفنا.‏

     

    سألت الثانية: ما أمر الآنسة نورا؟ ألم تجد زوجاً؟‏

     

    فقالت الرابعة: في اجتماع أولياء الطالبات، كانت نظراتها تتوزع فقط بين الرجال، حتى أنها ستأكلهم بعيونها.‏

     

    قالت الطالبة الأولى: لابد أنها أعجبت بوالدك يا أروى لأنه شخصية.‏

     

    فقالت أروى: كانت أمي تكسر رقبتها.‏

     

    قالت الطالبة الخامسة: مستعدة أن أحدث والدتي للبحث لها عن عريس شريطة أن تنجحني.‏

     

    فقالت أروى: أعتقد أن محالاوت والدتك ستنتهي بالفشل.‏

     

    قالت الطالبة الثانية: ألم تلاحظن في درس عمر بن أبي ربيعة كيف لانت ملامحها، وباتت تلحن أشعاره وتغنيها، حتى أعتقدت أنها ستحلق وتطير.‏

     

    فقالت الطالبة الرابعة بدلع أنثوي: معها حق، فأشعار عمر بن أبي ربيعة تجعل الحديد يلين.‏

     

    قالت الطالبة الثانية: يا جماعة يجب أن نساعد الآنسة نورا في ايجاد عريس قبل أن يفوتها القطار.‏

     

    وقالت الطالبة الأولى: الله يعين صاحب النصيب، تشعرين وكأن الاجرام يطل من عينيها.‏

     

    فقالت أروى ضاحكة: عندما رأيتها لأول مرة اعتقدت أنها من أصحاب السوابق.‏

     

    وقالت الطالبة الخامسة: لو ترينها كيف تدخن، فهي أشبه بالحشاشين.‏

     

    دخلت الآنسة الصف، وقفت الطالبات، وقعت عيناها على عبارات متفرقة كانت قد كتبتها الطالبات على السبورة (بعيد عنك حياتي عذاب).. (أنت ما بينك وبين الحب دنيا). (حبك ما ينتهيش.. مخلوق عشان يعيش).. (ربما جمعتنا أقدارنا ذات يوم)..(لا تلحقني مخطوبة).‏

     

    سألت بعصبية: من كتب هذه العبارات؟‏

     

    - ....‏

     

    - أية تافهة فعلت ذلك؟‏

     

    صفاء امسحي السبورة.. اجلسن.‏

     

    رمت حقيبتها فوق المنضدة، جلست على كرسيها، وأخذت تقلب أوراق دفتر الشعبة، قرأت أسماء الغياب، سألت مندهشة: لم يسبق أن تغيبت ليلى.. ماذا أصابها؟‏

     

    أجابت الطالبات جميعاً بصوت واحد وكأنهن جوقة: (عقبال عند الجميع.. اليوم ستلبس خاتم الخطوبة).‏

     

    - خاتم الخطوبة..؟!.‏

     

    أجابت الجوقة: العريس طبيب يعمل في الخليج، وفي إجازته القادمة سيتزوجان، وتسافر معه إلى هناك.‏

     

    - تسافر؟! والمدرسة؟!.‏

     

    انطلق صوت احدى الطالبات سائلاً باستخفاف: وما فائدة المدرسة؟!.‏

     

    - المدرسة ضرورية كي نتعلم، نتعلم حتى نصبح قادرين على العمل، قادرين على الانتاج.‏

     

    تدافعت الذكريات إلى مخيلتها، كانت صغيرة لها أحلام مراهقة، تحلق في أجواء فسيحة، طالبة في ثانوية التنوخي، في كل مكان تحاصرها نظرات الاعجاب وتنهدات الشبان، في كل مكان تلاحقها النظرات المفتونة بجمالها ورشاقتها، ورغم أن عبارات الغزل كانت تدغدغ بالفرحة روحها، ظلت تدخر عواطفها وتغرقها في المذاكرة حتى تنتهي من دراستها، وتلتقي برجل أحلامها، تساعده في معركة الحياة ليكون بيتهما سعيداً، وتجنبه الحياة الصعبة التي يعيشها والدها في كفاحه المرير من أجل أن يقيم أود عائلته، ويدفع لها ولأخوتها مصاريف المدرسة.‏

     

    عندما نالت الشهادة الثانوية كانت قد اتخذت قرارها، سوف تعمل وتنتسب لكلية الآداب في الوقت نفسه، لتوفر على والدها نفقاتها الخاصة، ومن جهة أخرى لترد له بعض الدين.‏

     

    حاول والدها أن يقف في وجه قرارها، لكنها كانت قد أصرت، فرضخ مرغماً لعنادها، وتوظفت في مستودعات مديرية الزراعة.‏

     

    أفاقت من خواطرها على صوت احدى الطالبات.‏

     

    - آنسة هل ستجيبين على أسئلة الدرس الماضي أم ستعطيننا درساً جديداً؟‏

     

    - لا.. لا.. كل طالبة تخرج الكتاب والدفتر، وتبدأ بمراجعة الدروس السابقة.‏

     

    كان لها أيضاً خاتم خطوبة، مساء أحد الأيام، وأثناء عودتها من الجامعة، تسير وحيدة حاملة كتبها، التقت به قادماً من الجهة المعاكسة، نظراته عبرت المسافة القصيرة بينهما لتعوم في وجهها جميل القسمات، لم يكن في الدرب أحد غيرهما، ولما أوت إلى فراشها في تلك الليلة أدهشها أن صورته مترسبة بذهنها ترسب الطين في قاع النهر، حاولت ازاحتها عن بالها فلم تقدر، ثمة شيء خفيف يترعرع فيها، يشدها إليه، ويحثها على الحنين لرؤيته ثانية.‏

     

    في اليوم التالي لم تصدق ما رأته عيناها، في مقصف الكلية هو ذاته كان يجلس خلف الطاولة المقابلة، بعينيه الغسقيتين وبشرته البيضاء، وشعره الأشقر، انفرجت شفتاه عن ابتسامة عذبة رقيقة، حاولت أن ترد التحية، لكنها داعبت شعرها بيدها وغادرت المقصف برشاقة ودلال، ليظل بصره عالقاً بخطواتها، شارد الذهن، مشتت الأفكار.‏

     

    بعد عدة أيام من متابعته المستمرة، تقدم منها بعد أن غادرت قاعة المحاضرات، قال والكلمات ترتعش على شفتيه: اسمي مازن.. طبيب.‏

     

    قالت مبتسمة: إني لا أشكو من شيء.. صحتي جيدة.‏

     

    - ما رأيك أن نجلس في المقصف؟‏

     

    - متعبة بعد العمل والمحاضرات والوقت أصبح متأخراً.‏

     

    - لن آخذ كثيراً من وقتك.‏

     

    - أرى أن نتمشى حتى موقف الباص، وكلي آذان صاغية تسمعك.‏

     

    تمتم: حسناً.. كما تشائين.‏

     

    تقدم لخطبتها، وضع الخاتم في اصبعها، لكنها مع الأيام اكتشفت أنه يحمل الكثير من الأفكار البالية، ويدور في دوائر من الشك والانهزام، كان كمن يقف فوق جدار يهتز من تحته.‏

     

    وبدأ الجدار ينهار، ففي أحد الأيام زارهم في البيت، وكان عكر المزاج، سألته:‏

     

    خير.... ماذا جرى؟‏

     

    أجاب بحدة: أختي ريما الله يقصف عمرها.. تريد أن تبهدلنا.‏

     

    - ما الذي حصل؟‏

     

    - سيرتها على كل لسان بالحارة... الله يسود وجهك يا ريما ويخلصنا منك.‏

     

    - إلى الآن لم أفهم شيئاً.‏

     

    - أكثر من شخص شاهدها تتجول في أبي رمانة مع عزو.‏

     

    - ومن هذا عزو؟‏

     

    - عزو النجار.. يعمل في المنشرة القريبة من بيتنا.‏

     

    - ربما كان صادقاً في حبه لها.‏

     

    -نورا عن أي حب تتحدثين.. إنه جربان لا يساوي قرشاً.‏

     

    - أهو انسان أم لا؟ لديه أحاسيس ومشاعر كالآخرين أم لا!؟.‏

     

    -غدا (سأمصع) رقبته، وأفهمه أن أعراض الناس ليست مضحكة.‏

     

    - إني لا أفهمك يا مازن.. قبل أن تتقدم لخطبتي تجولنا وجلسنا في أماكن مختلفة، فلماذا هم لا يملكون الحق في ذلك؟‏

     

    - ما الذي أصاب عقلك؟ ريماوعزو يتجولان؟ إذا حصل هذا ثانية فستكون نهايتاهما.‏

     

    - نهايتاهما؟‏

     

    خيم عليهما صمت مطبق، حدثت نفسها: أن يتعرض انسان للموت بسبب علاقة خاصة، حتى الحيوانات لا تقتل بعضها بعضاً لهذا السبب، ما أغبى الانسان.‏

     

    داهم ذهنها هذا التساؤل: قد تتعرض إلى مصير ريما وعزو، الذي يقتل شقيقته يقتل العالم كله إذا اقتضى بعض الشك وتهيأت له الوسائل.‏

     

    الحزن يشق مجراه في أرضها رويداً، رويداً، وتدفق النبع يزداد غزارة، حتى طاف الحزن عن مجراه ذات يوم، ووقع مالم يكن بالحسبان، فقد أظهرت نتيجة التفتيش المفاجيء الذي قامت به لجنة من الوزارة أن هناك نقصاً في عدد المضخات في المستودع الذي بعهدة نورا، وقدرت المفقودات بقيمة (157) ألف ليرة سورية، كانت العملية مدبرة من قبل رئيسها لأنها لم تنصع لغرائزه، ولم يكن أمامها خيار.. إما أن تسدد المبلغ خلال أسبوع أو تواجهها عقوبة السجن، حينها تمنت أن يقول لها خطيبها أي شيء، فقط تمنت كلمات مساندة لتعيش عليها، لتواجه المصير بها، ولكنه لم يقل أي شيء، فقط رمى سماعة الهاتف واختفى بعدها.‏

     

    تخبطت في أمواج اليأس، إلا أنها لم تستسلم له، ولم تنفض يدها من هذا الزمن الذي لا يلائمها، فتدثرت بالصمت والاحتجاب، بينما ظلت عيناها مسافرتين نحو الأزمنة الآتية، تنتظر فارسها القادم، وتحلم بالعيش معه في جزيرة صغيرة، تحمل فيها الأشجار فاكهة من كل نوع، يضمها إلى صدره ويبوح لها بحبه، فتبكي... تبكي من الفرح العظيم، وتنام في حضنه.‏

     

    طال انتظارها على أرصفة المحطات، فقطارات الدفء.. الحنان غادرت ولم تأت بعد؛ والزمن كلب مسعور ينبح بدون جدوى، سئمت حياتها الروتينية البليدة التي لا تنتهي، في عمق نفسها المتعبة تحس بسجنها وضيق الخطوات التي تسير بها، ويمضي الوقت، يضيق بها الفضاء، تقترب جدران كل مكان فتكاد تخنقها، تجد هذا في المدرسة والمنزل، وحتى الحدائق، سئمت حياتها التي ليس فيها إلا العمل، كانت تطلب الحياة.. الحياة.‏

     

    ومرت السنوات على هذه الوتيرة، لم يتغير فيها شيء، اليوم كالأمس، والغد كاليوم وكالأمس، إلى أن حام حولها طائر الحب قبل أربع سنوات، كلماته المترعة عذوبة وحناناً وشعراً كم أذابت قلبها، فاستمعت إلى نشيده الساحر دون أية مقاومة منها أو نفور، بل فرحت بمقدمه وتغنت معه.‏

     

    طائر الحب كان زميلها مأمون، مدرس الرياضيات، ولولاه ما أطالت المكوث في غرفة المدرسين، ففيما سبق لم تكن تطيق ذلك، حتى همس لها ذات يوم:‏

     

    - إن كل واحد منا في حاجة إلى الآخر.‏

     

    قال لها أيضاً : أنت تسكنين في قلبي.‏

     

    أخبرها بكل خلجات نفسه، حدثها عن ماضيه الحافل، عشقها عشقاً ظنه لا يحتمل، أصبح يتنفس عبر ايقاع واحدمع أنفاسها.‏

     

    وسألتها زميلتها يسرى، مدرسة الفيزياء مازحة: بعد أن تتزوجا.. ماذا ستنجبان قصيدة شعر أم معادلة من الدرجة الثانية؟.‏

     

    ولم تمض فترة وجيزة حتى غاب طائر الحب، انقطعت أغانيه عن أذنها، لكن ألحانه بقيت تنبعث من قلبها، حيث استدعي مأمون إلى الخدمة الاحتياطية، كانت وحدته من الوحدات المكلفة بصد الغزو الاسرائيلي للبنان، وهناك زرع روحه وعطر التراب بدمه.‏

     

    أرسل لها قبل استشهاده بيوم واحد رسالته الأخيرة، كانت عبارة عن قصاصة صغيرة لا تزال حتى الآن تحفظها بين نهديها، كتب فيها:‏

     

    ( نورا‏

     

    ثمة جدران مهدمة تنتظرسواعدنا‏

     

    ثمة ألواح بيضاء تنتظر ريشتنا‏

     

    ثمة أرصفة تنتظر خطواتنا‏

     

    ثمة عصافير لم تغرد بعد.. وتنتظر لقيانا)‏

     

    أخرجت من حقيبتها دفترها الخاص الصغير، وبدأت تقلب أوراقه، حيث أنها الصقت صورة مأمون على الصفحة الأولى، ومنذ استشهاده تعودت أن تكتب فيه رسائلها إليه، قرأت في احدى الصفحات:‏

     

    ( كل همسة بين شفاهنا تناديك، كل اختلاجة بين قلبينا، كل ضغطة أرسلتها يدك إلى يدي، كل عبث حلو جالت فيه أصابعك بين نهدي، كل حب فاض من جسدك فأغرق جسدي حياة، كل شيء.. كل شيء يناديك).‏

     

    وفي صفحة أخرى قرأت:‏

     

    ( أي سحر نسجته حولي، إنك تقبض على جذور غرائزي وأعصابي وعقلي جميعاً، بحثت عن وجهك في كل الوجوه، نشرت شراع قاربي وجدفت في بحار ومحيطات العالم كي ألملم تفاصيل وجهك).‏

     

    قرع الجرس معلناً انتهاء الدرس؟ نهضت، وقفت الطالبات، وقبل أن تهم بالخروج من الصف، أخرجت من محفظتها ورقة نقدية من ذوات العشر ليرات، وضعتها على الطاولة، وقالت:‏

     

    - بلغوا صديقتكن تهانيَّ.‏

     

    صمتت قليلاً.. ثم أردفت:‏

    - أتمنى أن تجمعوا مبلغاً من النقود لتقدموا لها هدية قيمة في هذه المناسبة

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()