بتـــــاريخ : 11/12/2008 6:42:50 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1298 0


    شـــــاعر و شـــيطان

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : ابراهيم كبة | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

     

     

    وقالت له ضاحكة ان صوته لم يخلق للغناء‏

     

    فقال انّ المهم هو السّعادة.‏

     

    - نـجيب محـفـوظ -‏

     

     

    لغط وجلبة ثمّ يعمّ الصمت. وتومض أمواج ضوء. عندئذ تتراءى معالم الأشياء أطيافاً. ثم يعقبها ظلام داس في فضاء لامتناه. وتتعالى أيضاً أصوات صاخبة. ثم يتبدى وجه سناء كأ نّما صاغه اشعاع، شقراء. ذات عينين خضراوين. فيرى كأنَه ذرّة هائمة في خضم ويطوى اللاشيء الأشياء كافة.‏

     

    أعصابي ثائرة وهائجة. وشعري لغط أعجم. وثرثرة جوفاء.‏

     

    اتعقّب لفظا. فأتردّى في شرك أوهام اللغة. وأهوي الى ظلام الظنّ. ثمّ لا ألبث أن أرى الأشياء تارة أخرى بلا أبعاد ولاجدوى لأنّ الاسم بلا معنى. أصاخ الي عزيف الجن. وتاه بين غرائب الأشياء. ولطائف الأحلام والأخيلة. وفي ( فينيسيا) زلزلته الأنفعالات. وتولاه الغيظ. حين عجز عن صياغة احساسه. حسبي حدس صائب لايخيب. تساءل : هل ظاهر الأشياء هو لبّ الأشياء. انّ أناشيدى عرى بين عالم المادّة وعالم الحقيقة لولا ا نّي لاأزال في حضيض العلم ونأنأة الاكتناه. وحين عنّت سناء. قال لنفسه ذاهلا :‏

     

    يقظة أم منام؟ ثمّ أضاف حين هاج لاعج الجوى.‏

     

    _ انّ سناء آية في اللطف وآية في الجمال.‏

     

    لفظته ( فينيسيا ) ذات ليلة شتاء. ترنّح ثملا. وسار الهوينا في طرقات خاوية. دوّى هدير شاحنة في شارع ( تل أبيض ) . ثم تلاشى في صمت عميق.‏

     

    _ لولاك انقرض الشعر والنظام.‏

     

    تجلّى طائف شعره قائلاً. ثمّ أضاف :‏

     

    _ وأمسى أثرا بعد عين‏

     

    لبث برهة لايريم. راعه منظره وصوته. عدا لايلوى على شيء.ياللشناعة.‏

     

    علا لهاثه. انهكه الجرى. تهاوى على الاسفلت خائر العزيمة تبدّى له مرة أخرى. أشاح نظره عنه. وصرخ هلعا.‏

     

    _ عبثا تسعى. لاأّم لك. انّي لا أروم بك ضرّا‏

     

    غرغر. وشلّ الفزع لسانه. ابتلعه الظلام والصمت. تسلل شعاع ضوء إلى مرقده. أنا بلا مثل أعلى في الشعر والحياة. بيتي جدث. وأنا آلة صمَاء. لازال العالم سديما وهيولى لامعنى له. عالم الحقيقة خيال باهت. وأنا تمثال من صلصال، الأشكال والألوان ذات معنى غامض لاسبيل إلى فهمه. وهي تارة متاهة. وتارة وهم محض. الألفاظ دلالات خاوية وطائشة.‏

     

    لاوئام بين شعرى وبين العالم. أنا الآن في مقام الاعجام. اللغة لاتسعفني. وقد هرمت قبل الأوان.‏

     

    . . .‏

     

    اقتادته خطاه إلى منزل سناء بلا وعي. جال حوله كعابد. لو أنّ الله حباه لطفا وظرفا لما أقصته بلا لطف ولا لين.‏

     

    واأ سفاه. انّها لا تعبأ به ألبتة. وشدّ ما تألم حيال لامبالاة سناء. نبذته نبذا. قضاء صارم أبرمه العبث والطاغوت. احتقن الدّم في عينيه حين تفرّس مليّا في طيف سناء.‏

     

    هام في آيات فتنة طاغية. ا نّه يئنّ من اصطفاق أفكاره وأشجانه أواه. عانى حتى أشفى على اليأس. ابتدرها قائلاً :‏

     

    _ اذا اجتمعنا معا يتهاوى كلّ حائل وكلّ سد‏

     

    اجابته باقتضاب وجفاء :‏

     

    _ لاسبيل إلى اجتماعنا. أنت لست أهلاً للحب‏

     

    * * *‏

     

    حين تلاشى جزعه قال لنفسه : لعلّه الوهم أو الخيال. لكنّ طائف شعره أولاه عناية فائقة _ أو هكذا خال _ وأملى عليه شعره وغناءه وبات بمثابة بصيرة وقريحة له.‏

     

    وحين حكى نهم الجنان نهم العقل. نال حظّه من متعة الذهن ومتعة الاحساس. وحينما ظنّ أ نّ شعره الهام صرف تساءل في ذات نفسه قائلاً : لعلّ اشعارى انبثقت من غريزة بدائيّة. أوهاجها حدس صائب. وافاه صوته كأنين أو حشرجة. لامرية في استحالة ديمومة حال.‏

     

    عقر همّه. بعد أن يئس من مواتاة النظام الجيّد له. انتابه انفعال نفسي عنيف. وتملّكته سنة كرى كغناء سحرى. جاشت الألوان والأنغام. وتماوجت في خياله وبين جوانحه. وارتقى إلى قبة السماء. لولا حشاشة في النفس هلكت لامحالة. تناغم مع جريان الأشياء وسيلان العالم. انبرى يعالج صياغة أبياتٍ شعريّة عن لوعة الغرام. ونيران القلى. وعبادة نساء عبادة الآلهة. الحلم اكسير سحرى شفاه من عناء البحث عن ألفاظ تؤدّى معناها. واتاه الحظ ونظم أبياتا عن قصة هيامه وغرامه. اختلج فؤاده مسرّة. وضاع أريج فردوس. حضّه حرمانه على اغتنام فرصة قلّما تتاح.‏

     

    أمسى دأبه تعقّب الطيف وسناء في اليقظة والمنام. وكلّما ألمّت به الأطياف الماما، أو سنحت له نظرة تعاطى خمرة الحبّ وخمرة الأدب ورغم الجفاء والحرمان. اصطفى سناء لنفسه طائعا.‏

     

    انّ مرآها مدعاة غبطة لاتوصف. شتّان حقّا بين جمال سناء وشناعة شيطان شعره.‏

     

    أوشكت أن أدرك خبايا الأشياء. شيطان شعرى اسطرلاب. اذا كان الكون عين ما تراه الأعين. وحين يتوارى تدوّى في خيالي عاصفة هوجاء حيال سيلان الأعيان.‏

     

    قال له :‏

     

    _ هلم ننظم الحصى لألىء في جيد سناء‏

     

    اهرق أحلام الحبّ والحريّة في نفثات شعريّة. ودأب على غشيان ( فينيسيا ) . لأنّ شيطان شعره لايتجلّى إلاّعقب احتساء كأس أو نزهة هادئة. الخمرة لظى. قال له يوما :‏

     

    _ الام تدوم السعادة‏

     

    _ إلى أن يذوى جمال سناء‏

     

    _ لكنّ الجمال لايبلى‏

     

    _ أنا قرين مجنون ليلى. ونزار قبّاني. لاغاية لي إلاّوصف جمال الأنثى.‏

     

    تمضي الأيام تترى. خريف تلو خريف. حين تجرى الأشياء على ما يرام. فإنّ ثمة كارثة خلف الآفاق. استوى له أخيرا نظم الشعر لولاشناعة طائف شعره.‏

     

    فاق شعرى أشعار الأوائل قتامة وأسى. انّه نبض الحياة.‏

    ترهلّت سناء وغاض الحسن. حبّذا لو واتاه الالهام بمنأى عن طائف شعره. لقد نهد إلى الاستقلال حقّا. لكن نقاب الألفاظ شفّ عن ترهج. ونضحت أشعاره خواء وسقما. غداة صمت فيض الالهام احجم عن غنائه. وعافته نفسه. تردّى في حضيض الأشباه مثل خشاش الأرض. توهمت ان الكون برمتّه يهمس لي همساً دافئا. أما الآن فقد برح الخفاء. وبات جليّا أنّ أشعارى عارية ليس إلاّ. شعر غثّ لاقيمة له. تبدّى له عقمه حين غشّى الخيال سديم عاتم حفّ به عماء. احتج وصرخ وشتم بلا جدوى. أضحى مثلا حيّا على تفاهة الانسان. وانغماسه بين ثنايا ذكرى باهتة. وأضغاث احلام. وقضاء عات ظالم.‏

     

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()