يسألونه هل تتذكر الصف الطويل أمام بائع الزهر؟ هل تتذكر الحلوى ذات الرقائق والجوز التي كنت تحبها؟ والفوانيس المعلقة على الحارات؟ والساعة التي كنت تتأمل أشخاصها وهم يخرجون مع دقاتها؟ كنت تقف في طرف الساحة مستمتعا بها. هل تتذكر المقاهي في ثنيات الجبال، ومقاعدها الخشبية، وكؤوس البيرة الكبيرة، والنهر الذي يخترق المدينة، والطريق هناك؟
كان يقصد براغ، بلد جامعته، في كل صيف. لأنه كان محروما من العودة إلى مدينته. فهل كان يتصور أنه يسكت حاجته إلى الوطن، وهو يستعيد هناك كل سنة، الحارات والمقاهي والبيوت والجامعة وأثاث الغرف والأصدقاء؟ تنقل بينها وبين الجزائر عشر سنوات. شغل نفسه بالناس والأمكنة، لكنه فشل في أن يستعيض عن بلده بحب امرأة أو بأسرة! لعل قلبه لاينفتح إلا في سياق سعادة كبرى. تحكمه صور لايستطيع أن يبعدها ليقدم أخرى أصغر منها!
في زيارته الأخيرة، خيل إليه أنه أصبح يشبه أحد أساتذته. أستاذا لم يتزوج، ملأ غرف بيته بمكتبة كبيرة. كان يستقبله في الصباح الباكر. "أستيقظ ياابني مبكرا، أعمل في ضوء النهار، وأنام مبكرا. أنت لست مثلي. أنت شاب. اسهر! براغ حلوة في الليل!" لكن ذلك كان في الأيام القديمة. فالعاصفة اقتلعت حتى هذا البلد المستقر الحكيم. قال له أستاذه: عندنا لن يستمر ذلك! يفضلون أن يحدث الانقلاب دون فوضى. لكن حياة وأجيالا ستطوى. حتى يستكمل ذلك لاتتجول ليلا، ولاتتحدث بلغتك!
مع ذلك كان هناك أكثر أمانا مما هو في الجزائر. في الجزائر كان الخطر همجيا. لاتستطيع أن تحاور قاتلك أو أن تسأله عن سبب الموت الذي يرفعه عليك. لم يبلّغه أحد الحكم عليه بالإعدام. لكنه كان يشعر بذلك الحكم. وكأنه كان في سنوات حياته يتحرك أمام قضاة سريين، وهو يدرس طلابه، ويدافع عن الإصلاح الزراعي، ويؤكد أن العدل الاجتماعي أساس الملك. ويتحدث عن حرية الرأي التي ترسخ وحدة الوطن. ويرسم آفاقا فيها كثير من الحلم المسنود بالوقائع. ستكون يوم توزع الثروة العربية الكبرى بالعدل بين العرب، ويستطيع المواطن أن يبحر ويمشي ويطير ويسري، ويصعد جبال اليمن السعيد ويقطف منه القهوة، ويجمع التمر من نخل الصحراء، والصنوبر من الغابات، والتفاح والعنب والموز من البساتين والكروم والبيارات. يهبط تحت مستوى البحر، ويرتفع إلى الجبال المكللة بالثلج. ويتنقل بين آثار الحضارة العربية من الصحراء إلى البحر والنهر. يوم نكون هكذا هل يعاملنا الغرب أو الشمال كما يعاملنا اليوم؟ هل يستطيع أن يرسل طائراته فتقصف مدينة تاريخية وتدك فيها الملاجئ والجسور ومصانع الأدوية؟ هل يستطيع أن يمنع العرب من العلم والدواء، ويرعى القوة النووية الإسرائيلية؟ هل تستطيع إسرائيل أن تقصف لبنان وأن تعلن أن القدس عاصمتها الأبدية؟ هل يجرؤ رئيس شمالي أن يعلن أنه علّق ملف القدس، كأنه يملكها؟
اندفع جهاد إلى ذلك الحديث أمام طلابه. نسي أمامهم الموت! فهل كان يقصد أن يستنهض فيهم مقاومة الشر؟ بل كرر ماتعود أن يقوله. أضاف صفحة إلى سجل العمر الذي يحاسب عليه. لاتلم نفسك ياجهاد! لاتستطيع أن تتقدم خطوة؟ لكنك لم تتراجع خطوة!
عاد من الجامعة متوهجا، يردد كلمة أبيه: لايصح في النهاية إلا الصحيح! كان طفلا يومذاك، ومضافة أبيه محطة الثوار إلى فلسطين ومعبر الجرحى والسلاح. ورأى أباه يجلس جريحا على دابة ويدثره بعباءته، ويودعه: لايصح في النهاية إلا الصحيح! وهاهو بعد عقود من السنين يسمع كلمات أبيه نضرة فواحة كياسمين الصباح!
كان يعبر الشارع بسيارة وقت قتلت فتاتان. التفت ذاهلا. رأى صبيتين تقعان على الأرض، إحداهما سافرة والأخرى محجبة. أدهشته السرعة والبساطة التي تطوى بها الحياة! ظل يلتفت. فقال رجل في السيارة: قتلت المحجبة لأنها تمشي مع سافرة كافرة! وضع كفه على فمه، ليمنع صرخة أم ليمنع الغثيان؟ فهم أنه لايستطيع أن يرد موتا عن أبرياء. لايستطيع أن يدافع عن امرأة. لاشهامة اليوم! نزل من السيارة وعبر الطريق، ثم عبر الممر إلى بيته دون أن يتلفت مستطلعا. لن يستطيع أن يفلت من الموت!
قال له زميله في اليوم التالي: كانت الجزائر على القائمة بعد العراق! ستفكك البلاد العربية بالقتال، وبالفقر، وباليأس، وبالأوهام! لاتعاد بالقصف فقط إلى العصور الحجرية. تعاد إلى هناك أيضا بالعصابات! نحن اليوم مناطق حيوية، مواقع آبار ومياه ومعادن وعمال. ولايفترض ذلك أن نكون أقوياء، بل أن تكون إسرائيل قوية لتدير ذلك المشروع! ثروتنا؟ لاتحلموا بها! أحرق العمق الجغرافي، ولن تبقى لنا حبة قمح أو نهر أو قطرة ماء!
في تلك الليلة تذكر مدينته. استحضر وجه أبيه الذي مات في غيابه، وصوت أمه التي ماتت في غيابه. خطر له أن يتصل بأخيه بالتلفون لكنه خشي عليه. استعاد بيته المبني من الحجر الأسود. جلس هناك مواجه الفلاة. غمره ضوء المساء، وبقي ساكنا حتى مشت إليه أمه في العتمة ووضعت يدها على كتفه. شعر برطوبة حبات التين وبدبقها. مسح يده مسرعا حيث أحرقها حليب التين. لم تنضج تلك الحبة. بل نضجت، ياابني، نضجت! ظهر القمر متوهجا، برتقاليا، كبيرا. راقبه وهو يرتفع ويصغر ويصبح فضيا. وأقبل البرد فارتعش. ثم وصل الناس فملأوا المضافة. استقبلهم أبوه. وكانت أباريق القهوة ساخنة على جمر المنقل.
وبدا له أن مايمنعه من العودة إلى بلده سخيف وظالم. ذنبه أنه لم يمسك لسانه، وجهر برأيه؟ كان مخلصا، مستقيما فلم يبحث عن الدروب الملتوية والأقنعة التي تقال بها الحقائق. آه، تبحث عن ذنوبك؟ فهل خطر لك يوما أن تقتل إنسانا؟ هل خطر لك أن تقطع رزق إنسان أو أن تسجن إنسانا؟ هل قبلت أن تعاون من يهاجم بلدك؟ لم تملك غير عقلك ولسانك وأحلامك. كنت أعزل في هذا العالم الذي ينظم فيه الشر والفساد وتحشد في الدفاع عنهما العصابات والسياسة والمؤسسات. بحثت عن سند الحلم في العالم، فانهار ذلك العالم فجأة. لم يبق فيه مأوى تلجأ إليه. الطيور المهاجرة في الشباك. ولافضاء! فهل تريد أن تشخص في هذه الليلة لماذا أنت وحيد وحزين؟ لأنهم هجموا عليك، كما يهجم الظلام على الضوء! أنت المدن المقصوفة، المساجد القديمة والجسور الرائعة التي صوبت إليها القنابل في سيراجيفو. الجامع الأزرق الذي هدم في كابول. الجسر القديم الذي دمر في بغداد. الحقول المحروقة في إقليم التفاح. أصابوك هناك، وهناك، وهناك! لكنك مازلت معافى. لأنك تتذكر مسار حياتك وتمشي فيه مرة أخرى..
كان كل ماحدث فيما بعد تفصيلات. ظل طوال اسبوعين ملقى في بيته على الأرض. لايعرف أحد سواه كيف دفعوه على العتبة بين الموت والحياة. ويحاول هو أن يتكلم، لكن همسه لايصل إلى سمع الأحياء. لم يقرأ أحد عليه الحكم بالإعدام، ولم يطلب منه قاتلوه أن يدافع عن نفسه. ضربة على رأسه، ثم ضربة أخرى على جبهته! سقط على الأرض ونزف دمه وماءه. انصرفوا عندما اطمأنوا إلى موته. وكان يردد في نفسه: آه، يابلد المليون والنصف شهيد! كنت أنشد نشيد الجزائر في المدرسة، قبل أن يصبح نشيدها الرسمي!
ظل يتأمل حياته وحيدا اسبوعين طويلين، طويلين. وزع ماجناه في عشر سنوات على المهاجرين الذين فقدوا عملهم ومأواهم. على الذين انهارت منظماتهم وفقدوا أمانهم. على الذين أصبحوا أفرادا دون مجموعات. على الحالمين بالرحيل إلى بلاد لاتقبلهم. وكان خلال ذلك يسمع طلقات الرصاص في الشارع، ويسمع نداء النساء المذبوحات. تليت عليه أسماء أصحابه المقتولين بعده. وكان ذلك يعلو على صوت الأخبار التي تذاع من راديو بقي مفتوحا قرب رأسه. الأخبار التي تهنئ بأعياد، وتصف احتفالات، وتزين بلادا في يوم هزيمتها، وترفع أقواس النصر في مدن مكسورة. في ثنيات الأخبار هجع القتلى في الشوارع، وتراكمت البيوت المقصوفة، وتطايرت قنابل الغاز والرصاص. حاول أن ينهض ليسند شابا أصيب في رأسه، وفي تلك البرهة فتح الباب ودخل رجال صوروه ورسموه وسجلوه بين القتلى. حاول أن يرتب نفسه، ويستعيد دمه وماءه. حاول أن ينهض، لكنه لم يستطع ، وعندئذ بكى..
أهكذا يعود هو الشاب محمولا إلى مدينته؟ ولأنه كذلك يعبر الحدود؟ لايستطيع أن يتجول في الأسواق المزدحمة والحارات الضيقة! لايستطيع أن يتناول كأسا من نبع بلده البارد! لن يجتمع أهله وأصحابه وجيرانه في المضافة حتى الصباح ليلة استقباله! ولن ترد بيته الصبايا اللواتي تركهن فتيات صغيرات وجئن ليتفرجن عليه! اجتمعت الدموع في حلقه وعينيه. هل كان يتمنى لو يستطيع أن يتجول في البلاد التي كان يرسمها لطلابه في الجامعة، ليختار منها مكانا يؤويه غير مدينته؟ أم كان يريد أن تعتذر له مدينته ليغفر لها منفاه؟ لاتعتذر المدن من أحد، ياجهاد! لايطلب منها مالا تملكه!
شعر بأن مكانه يضيق. ورغم كل مانزفه من مائه، وجد دموعا يذرفها طول الطريق، ووجهه مغمور بالسماء، وهو يهتز على ايقاع حامليه. حتى توقفوا به في مكان واسع لم يعرفه من قبل. على مد العين فاجأته قبور الشهداء. كان مكانه في آخر المقبرة، بين أمكنة كثيرة مجهزة للعائدين. قرأ الشواهد التي عبرها. كان أصحابها شبابا أصغر منه. قتلوا كلهم في غيابه، وحملوا مثله إلى هذه الغابة من بعيد. أطرق في أسى: رغم ذلك مازلتم تنتظرون المزيد من العائدين! لمست يد كتفه. لابأس! آه، نعم! هنا على تخوم المدينة يستطيعون أن يجتمعوا وأن يتحدثوا في حرية. أن يلوموا وأن يعتبوا على من ضيع الزمان. هنا يستطيعون أن يستمروا في عداوتهم عدوهم، ويستطيعون أن يكرروا مايمحى من الكتب والخطابات والجرائد والإذاعات. ويستطيعون أن يعلنوا أن العصابات التي تنزع عن المدن العربية حضارتها، تقتل من سجلهم العدو على قوائم الإعدام.
جفف جهاد دموعه مسرعا. وخرج من مكانه الضيق.. فهم أنهم كانوا ينتظرونه من زمان!