ولد بعد خمس بنات. فكان يفترض أن يكون مولده فرحة عظيمة في الحي كله. لكن زغردة واحدة لم تسمع في بيت أهله أو في بيوت جيرانه. لم يحدث ذلك لأن ابن شيخ الحارة ولد في ذلك اليوم نفسه، في تلك الساعة نفسها. بل ولد ثلاثة صبيان في حارته يومذاك حتى سميت تلك السنة سنة الصبيان. لكن ابن شيخ الحارة خطف الانتباه إليه باحتفال مشهود. نقل السجاد من بيوت المولودين في ذلك اليوم، وقطعت أغصان الكينا حتى من الشجرة التي غرسها جد الصبي وعقدت قوساً على بوابة شيخ الحارة . وهناك كانت العراضة الكبيرة التي بدت كأنها تهنىء قادماً من الحج!
سمعت في البيوت سخرية من ذلك، لكن الساخرين أنفسهم مشوا إلى بيت شيخ الحارة وقدموا له التهنئة والهدايا، ورووا له أن منجماً أكد مولد نابغة يحمل أبوه صفات المختار نفسها تماماً. انشغلت الحارة كلها يومذاك بالمنجمين والتنجيم وأعلنت أن الخير سينتشر في البلاد كلها طوال حياة المولود السعيد، وأن الكوارث ستنزل بها إذا مرض. لذلك قررت الحارة أن تحرس صحته .
قدم أهل الصبي يومذاك الكراوية لأصحابهم، في السر. لكن هؤلاء الأصحاب ذاقوا مقدار ملعقة منها فقط، ولم يمنعهم الخجل أن يعلنوا: لم تترك كراوية المختار مكاناً لغيرها! ووصفوا الكراوية التي قدمت في بيت المختار: زبادي كبيرة، ملأى بالفستق واللوز وجوز الهند!
يجب أن يعترف بأن حظه سيء! لولا ذلك لا نزلق كي يولد تحت نجم آخر! فرغم الأحداث التي واكبت مولده، كان في المدرسة متفوقاً.لكنه لم يذق مرة الاحتفال بتفوقه، حتى بين أهله. فالحارة كانت ترتب الاحتفالات بتفوق ابن المختار في دراسته في اليوم والساعة التي ينوي أهله فيها الاحتفال به. ويوم أحاط أهله احتفالهم بالسر خوفاً من العين ومن المصادفات، فوجئوا بما لم يتوقعوه: مات رجل وقور من أجداده. فتكتموا على موته كيلا يفسدوا الاحتفالات بتفوق ابن المختار، لكن هل يمكن أن يحتفلوا هم بابنهم!!
لحقته المصادفات حتى في ختانه. دعي الأهل والأصحاب إلى سيران في البستان. وحضّر أهله اللحم والرز . لكن ابن كبير التجار وصل يومذاك من غربته الطويلة فخرج أهل الحارة لاستقباله، ومعهم المدعوون إلى الختان من أقربائه . هل فضلوا الحفلة الكبرى للفرجة على الأجنبية الشقراء التي قيل إنه أتى بها، ووصل صيت جمالها بالبريد قبل أن تصل!
أصبح يتوقع الأحداث الكبيرة كلما فكر باحتفال أو دعوة يجمع فيها أصحابه . فكان يبتسم سائلاً أمه: هل تريدون عرساً أو مأتماً أو احتفالاً يهز الحارة؟ فيفهم من يسمعه مقصده . نعم، لم يعرف في عمره، أو يعرفوا، أن حارته لم تشاركه في حزنه وفرحه!
هل نسي ذلك كله يوم سحرته زميلته فأحبها، ولم يحترس فأظهر حبه! انتظرها ومشى معها ورأسه مستدير إليها كأن حفر الطريق لا توجد، ولا يوجد الرجال الغلاط الذين لا يفهمون أنه شريكهم في الأرصفة! دفعه أحدهم مرة حتى كادت كتفه تنكسر، وكاد يقع لو لم تمسك به حبيبته.
في ذلك اليوم اكتشف حبها العميق له! لو لم يرفض اقتراحها لأوصلته هي حتى موقف الباص، أو لأركبته تاكسي يوصله إلى باب بيته! بعد ذلك اليوم تجولا في طرقات المدينة حتى كاد يخيل إليه أنها انتهت . فهل يلومها بعد ذلك إذا تركته؟
رآها تركب سيارة فخمة إلى جانب رجل، وفهم لماذا اختفت من مجال رؤيته . تذكر أن ذلك التاجر الغني راقبها وهي تمشي معه . واكتشف رشاقة خطوتها وأناقة جسمها وحركة شعرها الذي يرف في ايقاع! ألم يلمح تلك السيارة مرات خلال سيرهما في الشوارع؟
عجز الحب عن الدفاع عن النفس أمام أموال التاجر وفخامته!
لذلك طلب من أمه أن تخطب له فتاة من حي بعيد، من أسرة متواضعة، وأن تبقي الخطبة في السر حتى ليلة العرس . فقالت أمه لأهل العروس أنها تخشى الحسد والعين، وأكدت أن العرس المطنطن سيعوض الخطبة السرية .
كان يتلفت كلما زار بيت خطيبته، ليتأكد أن شخصاً لم يتبعه .وكان كالسمن والعسل مع خطيبته وأهلها . كانوا يتركونه وحده مع خطيبته عندما يحضرون القهوة . فيسمحون بالحد الممكن من خلوة لا تمنع الشابين من التعارف، ولا تسمح به.
رتبت خطوات العرس، وعلقت بذلة العروس في غرفتها لتحفظ بهجة السر . وانشغل الأهل بشراء التفاصيل التي يعرفون أنها ستظل ناقصة حتى يستكملها الزوجان عندما يكتشفان أن الحب يأكل ويطبخ وينام وينشر الغسيل، ويغلي الثياب البيضاء في وعاء، ويبدل شراشف السرير، ويهتم بكبس المخلل في قطرميزات، وبحبك البامياء حبالاً لتجف . ويمد الملوخية على ملاءات .
كيف وصل في تلك الزحمة ذلك الشاب مع أمواله التي كنزها في عشر سنوات في الخليج؟ قالت أم الفتاة لأمه الذاهلة: قدم ابنك خير! لم يخطبها قبله أحد! لم تخترها امرأة من نساء الحارة لابنها! منذ خطبها ابنك نستقبل كل يوم خطابين، فنفهمهم أنهم تأخروا لأن البنت مخطوبة . لكن النصيب يخرس اللسان . عندما زارنا أهل هذا الشاب أعجبوا بالعروس، ولم يثنهم ما أعلناه فعادوا مع ابنهم . رآها صدفة، صدفة . وكأن الله، جل اسمه، أغلق أفواهنا عندما طلبها بنفسه منا! نصيب.. نصيب..
قالت أمه: بل الأموال، الأموال! يلحقك الأغنياء أينما مشيت، ويتبعون خطاك يا ابني حتى أكاد أؤمن بالجن، أستغفر الله! يحلو في عيون الناس كل ما تمد يدك نحوه! ينتبهون إلى ما تنبه إليه! لم تقل له أمه: يسرقون اللقمة من فمك! لكنه فهم ما لم تقله .
ما العمل إذن؟ هل قرر في ذلك اليوم أن يترك الدنيا لأهلها القادرين على إنفاق الأموال على الفتيات وإغراء العرائس، وترتيب الاحتفالات بالولادة والختان ونجاح الأولاد في المدارس والجامعات والأعمال؟ هل أحب تلك الفتاة التي لم ينتبه إليها أحد قبله، ولذلك لم يطق بعدها الحياة؟
قالت أمه: بحثت تحت الملاءات وفي البيوت المظلمة حتى اكتفشتها. لولا ملابس الخطبة وصبغ الوجه بالحمرة لما انتبه إليها أحد . مع ذلك كبّرها ابني بموته في عين خطيبها! فوصل خطابون جدد إليها بعد مأتمه . أنا أعرف أنه لم يمت من الحب! ولكن من يفهم ذلك! لم يحزن الأم أن ابنها طق ومات، فقط. بل أن ابن شيخ الحارة الذي ولد معه في اليوم نفسه، مات بعده بدقائق . وفي ذلك اليوم نفسه وقع سقف مقهى فخم فوق مجموعة من الشباب كانوا يرقصون مع مجموعة من الشابات الجميلات. صاحت أمه: يا ويلي، لحقوه حتى إلى القبر!
لم يجد أهله آسا يتقدم جنازته ويزين قبره! وكم كان يحب الآس! لم يجد أصحابه حتى زهر الأكاليل الرخيص لجنازته، ولم يجدوا حتى شرائط سوداء يشيرون بها إلى موته.
انشغلت أمه عن الحزن بالتفكير في مصيره: لم يعطونا حتى الآن رخصة بدفنه! قال لها صاحبه: البلد كلها مشغولة بغيره! وكاد يقول لها " قدمه خير " لكنه صحح جملته فقال: قدمه جرّارة! وروى لها أنه رآه يدخل مطعماً يكاد يفلس، فإذا بالناس يتدفقون إليه!
بعد ذلك الكلام تسلل بعض الشباب خائفين على أنفسهم، وقالت النساء: فأل الله ولا فألك!
وصل الشاب إلى المقبرة في أول المساء، دون آس ودون أكاليل . لم يجد سيارة ينقل بها ويعلن منها اسمه ويقال: ترحموا عليه يرحمكم الله! لو لم يحمله أصحابه المخلصون الذين أتوا إليه بعد حضورهم مأتم ابن شيخ الحارة، لبقي في الحارة كأنه لم يقصد الخروج منها . رفعوه على أكتافهم مرة، ووضعوه على الأرض مرة . التفتوا فلم يجدوا أحداً غيرهم وراءه . فاضطر أولئك الأصحاب المخلصون إلى الاعتذار من صديقهم المحبوب، فالطريق طويل، والعزم قليل، والله نفسه لا يأمر إلا بما يستطاع! تركوه فكشف الغطاء ونهض، وأكمل طريقه الطويل ماشياً .
لم تعرف تلك التفاصيل أمه التي جلست وحيدة في البيت . لكنها قدرت وهو بعد أمام الباب أنه لن يصل إلى ملجئه الأخير إلا بشفقة الملائكة . فتركته هناك وجلست في صدر الغرفة كمن ينتظر المعزين . يجب أن تقوم بذلك الطقس من طقوس المأتم على الأقل! فلا صوت بكاء يعلن للميت أن فراقه مؤلم للمحبين، ولا تلاوة تخفف عنه الوحدة وتشعره بأنه يودع في مهابة . ولا زهر ولو كان "الغريب"! فالمقرئون والأزهار والناس في اتجاه آخر، تستدعيه عواطف أخرى منها طلب الستر ومنها الطموح.
من غير الأم يستطيع أن يتخيل الغرفة الفارغة مزدحمة بالملائكة الطيبين، يلبسون ملابسهم البيضاء النظيفة ويجلسون صامتين! جلست الأم بينهم مستمعة إلى الحفيف حتى فتح الباب ودخلت امرأة عجوز فكادت تظنها من الجن . ثم تأملتها وفهمت أن الانسان إذا تقدم في السن ضيع أنواعاً من العواطف، منها الشعور بالخوف . وبدا لها أن الإنسان إذا فقد من يخاف عليهم ويحبهم، فقد الرغبة في الحياة . لم تكن أم المتوفى قد شارفت على تلك السن . لكنها باحت للمعزية العجوز بشعورها بالراحة، لأن ابنها وصل إلى مكان وزمان لا سباق فيه . وقالت لها: يستمتع من يتحمل أثقال الحياة بمرة واحدة يحمل فيها على الأكتاف .
وكان ابنها وقتذاك يمشي في الطريق الطويل . ويرى الأكاليل معلقة على الجانبين، والآيات القرآنية والكلمات المأثورة على ورق كبير، في إطارات من خشب معلقة على شرفات البيوت .
رأى من الأزهار ما لم ير مثله في حياته كلها . واستمتع بذلك . لو يستطيع أن يواسي أمه ويقول لها: وفرت ذلك عليك وعلى أصحابي، فها هو الزهر يحف بطريقي من أوله إلى آخره!
توقف برهة عند البوابة . هل يودع الأمس الذي امتد على حياته؟ هل يودع المدينة التي لم تودعه؟ لا مجال للعتب أو الحزن! فالعالم الجديد، أيضاً، لم يرسل موفداً لاستقباله! دفع البوابة وكانت بوابة رائعة، واسعة، مزخرفة، مدهونة باللون الأبيض، خلفها أشجار كثيفة، حديقة عظيمة! لم يجد عند الباب حارساً يدله إلى مكانه، فهل يستطيع أن يصل إليه في هذه العتمة؟ من يتناول منه الورقة التي في يده؟ من يسجله؟ هنا أيضاً لا مكان له؟ أيتكرر هنا أيضاً ما حدث له يوم عبر المسافرون كلهم الحدود قبله مع أنهم وصلوا بعده؟ وما حدث يوم حمل أوراقه إلى المؤسسة ليطلب عملاً، فنودي كل من كان بعده؟ قال لنفسه: يا للحرية! وتجول حراً كالهواء .
تجول حتى غيبت العتمة الأشجار والأرقام . وعندئذ سمع ترتيلاً شجياً فتبع الصوت . فرأى هناك ابن شيخ الحارة كالمحتفى به وسط شباب وكهول عرفهم في حياته . رأى وسط مرج من الشموع والأزهار، الأغنياء الذين خطفوا منه يومه الأخير، والفقراء المحتفين بهم! سحرته الشموع والأزهار والثياب الناصعة التي تتألق في ضوء الشموع . أينضم إليهم ويرتل معهم؟ أيترك مأتمه ليشترك في احتفالهم؟
استدار عن ذلك السحر . قرر أن يتجول في العتمة . لكنه وجد نفسه وسط حلقات من الناس، وراءها حلقات . كان اتجاه حركتها نحو المركز حيث ابن شيخ الحارة والأغنياء والفقراء والشموع . فاندفع عكسها . لكنه كان يقاد إلى المركز كلما خطا خطوة في الاتجاه المعاكس . كأن ريحاً تدفعه . وكان يبدو كأنه هو الذي اختار اتجاهه