مع ذلك.. فقد أتت الدعوة للاحتفال!
الدعوة التي لا تخطئك مهما تكومتَ في الركن الأكثر إظلاماً، الدعوة التي لا تتأخر، والتي صارت تلبيتها هماً يضافُ إلى الزوّادة المترعة، الدعوة التي لا تستطيع لرفضها سبيلاً.
ترفض!! وكيف ترفض؟! والاحتفال منتظرٌ ومرغوب ومدهشٌ ومثيرٌ ومليءٌ بالمفاجآت السارة.
هذا ما جاء في الدعوة، وهذا ما تثرثرُ به الألسنُ، وتلتقطه الأسماع، وتعبّر عنه العيون. ولم يبقَ إلا أن تقتنع أنت بذلك، أو تُقنع نفسكَ به، كما في كل مرة، كمقدمة للذهاب!
***
أي احتفالٍ هذا؟! وأية إثارةٍ أو جدّةٍ أو إدهاش؟!
الوجوه هي الوجوه، بعناصرها السليمة أو المشوهة، الناتئة أو الغائرة السافرة أو المقنّعة، هي نفسها حتى الأقنعة باتت رتيبة ومفهومة.
والهياكل هي الهياكل باهتزازها الماجن أو سكونها الوقور، بضحكها الهيستيري أو مساماتها المرسومة بإتقان أو وجومها المتحجرّ، بملامحها الغامضة أو الطبيعية أو المبرمجة، المنشرحة أو الكسيرة. أفتش بين الوجوه عن وجهٍ جديد، أو عنصر جديد في وجه قديم، عن قناع جديد. أفتش بين الأحياء عن أمرٍ مميز، شيءٍ أو شكلٍ أو خيال يبرر مجيئي. أبحث في كل ما أسمع عن إيقاع خاص يبعث في المادة الحية تحريضاً على حركة مبتكرة، أو رقصة مغايرة. وأمعن السمع في الأصوات التي تختلط، والألحان التي تتشابك، والضجيج الذي يمتلك ناصية الوقت والمكان دون أن يظهر أي شيءٍ يشي بمثير قادم، أو تومض إشراقة تنبئ بشعاع من كوكب جديد.
الخيبة بدأت بنصب شباكها التي أخذت تضيق شيئاً فشيئاً بينما يشتد أوار الاحتفال..
***
كل شيء يتكرر..
الشمس، بضحكتها المتبجّحة، تُشرق وتَغْرُبُ بانصياع، دون أن تقطب جبينها قليلاً، لتفكر بجهات أخرى يمكن أن تأتي منها أو تذهب إليها.
الريح التي تملك الأمداء كلها، تعيد، في كل مرة، حديثها ذاته، ونبوءتها عينها، همساً أو عربدة أو صراخاً؛ كلُّ نبضة تعيد ضخَّ القدر ذاته من الدم اللازم والكافي لاستمرار هذا الاكتئاب، أو القلق، أو الحيرة، أو الأسئلة؛ كل دقّة من الساعة المشنوقة في الجدار، صدى باهتٌ للدقّة التي سبقت، ونبوءةٌ باردةٌ للدقة التالية؛ كلّ يوم يشبه سابقه والذي يليه؛ كلّ عام أضمومةُ قشٍّ توضع على القبر الذي يتعمق ببرنامج غامض.
كل شيء يتكرر..
الحركة المجترة، الدوران البليد، العبور العقيم، الصوت الذي جفاه الصدى.. الضوء الذي يبعثر أشعته، ويتباهى باستعادتها انتثاراً أو انعكاساً، الأحداث والأفكار والزمن المعاش تسترجع في الذاكرة فرحاً أو حزناً، فَيُختصرُ العمر مرات، وتكرر العادة ما يجري بسهولة ويسر، فتتأجل أو تلغى احتمالات التجديد، وتنزوي الرغبة مكبوتة ضائعة.. حتى الألم الذي يشارك في صياغته ألف سبب وسبب، لموجاته طعمٌ واحد.
هل توقف الخلق، وضاع الابتكار؟! هل اكتملت عناصر التجربة؟! وهل اكتُفِىَ بهذه النماذج وهذه الأدوار، وأماكن العرض هذه وتلك؟! وماذا أفعل أنا المنتظرَ مفاجآت لا يهم إن كانت سارة أم لم تكن؟!
وماذا أصنع برغبتي القديمة الجديدة الملحّة في تغيير ترتيب الفصول؟! أو إضافة فصول وإلغاء أخرى؟! وحشر أيام السنة في بوتقة يوم، أو فرد ثواني اليوم الواحد شهوراً وأسابيع..؟! وماذا أفعل بقدميّ اللتين تتأففان من عبور المفازة ذاتها مرة أخرى، وتفضلان المسير في اتجاهات جديدة؟! وماذا أصنع بعيني اللتين ملّتا المشاهد وصار لا فرق عندهما الفتح أو الإغماض؟!
كل شيء يتكرر..
المفاجآت بهتت، والدهشة غابت، والإثارة ماتت، والتوقع ينوس. أين مفاجآتكم يا أصحاب الدعوة؟! خدعةٌ أم استهتارٌ أم استدراج أم عادة؟! كلّ مرة أقول: إلى هنا يكفي، لن أخدع ثانية، هذه آخر استجابة وآخر حضور للاحتفال. وحين تأتي الدعوة، وأقرأ الإعلان عن الإثارة والجدّة والمفاجآت، تخونني الإرادة، وتراودني الرغبة في الاختبار من جديد، لأقع في الفخ ذاته، وأغرق في طمي الخيبة فأندب حظي وألوم نفسي بالطريقة عينها أيضاً.
وما يزيد الأمر عسراً، والوقت تآكلاً أن الصوت لا يني يصيح بعد كل فقرة مجترّة: انتظروا مفاجأة مهمة، المفاجأة التي تدهش قادمة بعد قليل، تيقظوا! احبسوا أنفاسكم! تمالكوا أعصابكم واستعدوا!! وتضج الساحة بالتصفيق والهتاف والصفير، ردودَ أفعالٍ واحدةً لكل ما يقدّم من فقرات دون تمييز: كلماتٍ أو خطاباتٍ أو غناء أو رقصاً أو تمثيلاً.. فيما تضجّ في رأسي عبارات الشتيمة والقدح لصاحب الصوت، وللمشاركين في التقديم، والحاضرين أيضاً، وبالعبارات ذاتها! وأحسّ انقباضاً، لأن عبارات جديدة أشدّ قدرة على التعبير عن غيظي، وفقدان أعصابي، وقلة حيلتي وعجزي، تأبى أن توافيني. وأفكر في التعويض عن هذا بفعل شيءٍ يكون مفاجأة حقاً لأصحاب الاحتفال، والمحتفلين، ولي أنا على الأقل.
سأقوم إلى الأضواء أفجرها، وأثقّب الطبول وأمزّقها، وأكسر المزامير، وأدمّر الآلات الحديثة أو القديمة، سأقلب الطاولات والكؤوس وأركض كالمجنون.
وما إن بدأت بالحركة الهيستيرية، حتى ضجّ الحاضرون بالتصفيق والهتاف والصفير، وحملوني على الأكتاف فرحين مسرورين، ورقصوا وغنوا وهللوا لمن فاقهم سكراً وانتشاءً، واشتعل الحماس من جديد..
وفكرت في الخروج والسير كيفما اتفق، لا يهم الاتجاه، بل الأهم الانسحاب أو الهرب أو الخلاص القريب.
هذه ليست المرة الوحيدة التي أفكر فيها بهذه الطريقة، بل إن هذا يتكرر أيضاً منذ الدعوات الأولى التي كان الحماس لها، والاندفاع إليها، لا يُحَدّان.
لكن الذي يستطيع إقناعي بالحضور في كل مرة، يقنعني أيضاً بلا منطقيةِ الخروج قبل انتهاء الطقوس، ولا عقلانيةِ التفكير بالاحتجاج بهذا الأسلوب، وشواذِ مثل هذا التصرف؛ وأن لا بأس من الانتظار لاحتمال أن يكون في ما سيأتي ما يريح النفس من عناء اللوم، ويخفف من أعباء الوقت التالي بعد نضوب الاحتفال.
الآن يبدو تصميمي صلباً، وعنادي راسخاً، وفعلي أكيداً.. وهممت بالتنفيذ.. ووقفت متأهباً للمشي أو الهرولة.. لكن الصوت عاد ناصعاً فتيّاً واثقاً:
ترقبوا!! المفاجأة المدهشة قادمة.. تيّقظوا!! زبدة الاحتفال في طريقها إليكم.. ستلقَون ثمن انتظاركم.. تمالكوا أعصابكم واستعدوا!
فقعدت ساهماً.. حائراً.. منتظراً..!!