أرمق الآفاق، بعينين تحترقان. أصرخ ملء فمي:
- أين أنت أيّها الصبي؟
كنتُ مثله عندما بدأت الحكاية، وبعدد أعوامه تماماً، فرأيت نساء يبكين، وأطفالاً يفرون كالفئران، وشيوخاً يبسملون، ثم يكبرون ويركعون، ورأيت توابيت وجثثاً عارية غسلت على عجل، وبعضها لم يغسل، رأيت دموعاً تملأ أنهاراً وبحاراً، وسمعت بكاء وعويلاً وصراخاً، وسمعت أصواتاً كهزيم الرعد وقصف الصواعق، وشاهدت حرائق ودماراً وسجوناً ومصحات ومشافي ومقابر وحفراً، وحديداً محروقاً، وأيدي ورؤوساً مقطوعة، مبتورة، ورأيت وسمعت منذ كنت مثله، لكني لم أسمع ضجيجاً ودويّاً وانفجارات من قبل، كما أسمع الآن:
- ماذا هناك أيّها.. الصبي؟
اقترب حتى تبينت زغب وجهه الأصهب، ولون عينيه الداكن:
- إنّه الفرح أيّها العجوز، وهم يحتفلون
- أيّ فرح يا ولدي، ومن الذي يحتفل؟
ضحك الصبي. بدت أسنانه وقد صبغها التبغ بلونه، صفراء متنافرة ومتناثرة:
- ألست من هذه الديار؟
- أنا من كلّ هذه القرى.
سيسخر منّي. أشرت بيدي إلى الشرق والغرب والشمال والجنوب. سيظنني معتوهاً دون شك. ابتسمت بمودّة:
- أنا... من هنا.
دار حول نفسه، وواجهني بطلعته:
- كيف لا تعرف أنّهم يقيمون فرحاً كبيراً؟
- كيف لي أن أعرف، وقبور موتاهم لم يجف ترابها بعد؟..
يضحك الصبي، ويغرز نظراته في وجهي:
- وتقول أنّك من هنا. أيعقل ما تقول؟
- والله.. لقد صدقتك القول.
يهز رأسه مستغرباً:
- ولعلك لا تعلم أنّ رجالاً خطفوا عدداً من فتيات..
أقاطعه:
- بلى... انّي أذكر.
- هؤلاء الرجال سيتزوجون، فأهل الفتيات المخطوفات وافقوا على تزويج بناتهم للخاطفين.
أتذكر، أنّ غرباء ركبوا أيام الخوف وظلام الليالي. حرموا سماءنا من طيورها، وحقولنا ومغانينا من فراشاتنا، وزهورها، حتى أزهار الأقحوان وشقائق النعمان أبادوها، وكمّوا أفواه الرعاة. جمعوا أغانيهم في حقائب وزجاجات وباعوها. حجبوا ضوء القمر الذي كان ينير أماسينا، ومنعونا من مياه الينابيع والأنهار، أمّا أراضينا. أراضي جنّة عدن، فأكلتها المقابر والحفائر.
سأل الصبي:
- أنت حزين جداً. هل اختطفت إحدى بناتك؟
ارتفع صوت الطبول، ربّما هو عزيف الجن، أو يشبه ما سيحدث عندما تقوم القيامة:
- كلّ المخطوفات.. بناتي.
- ستحضر الاحتفال في هذه الحال، فلماذا لا ترتدي ثياباً جديدة وتحلق لحيتك؟ أنت لم تفعل ذلك منذ زمن.
أتذكّر أنّي كنت ثرثاراً مثله. سألت النساء لماذا يولولن ويندبن، أقعيت إلى جوار الشيوخ، استرق النظر إلى هيئاتهم، وأصيخ السمع إلى بسملاتهم وتكبيرهم، ومشيت خلف الجنائز والتوابيت، ووقفت على أنقاض المنازل، وغصت في أعماق الحفر والخنادق.
سألت الصبي:
- هل أحضر الاحتفال؟
- ولماذا لا تحضر؟ سيكون فرحاً لم تر الأرض مثله. قلت لنفسي "لا يهمّ عندما يعمّ الظلام يكتسح السهل والجبل والوادي" وقلت "والأمر كذلك عندما تشرق الشمس". أحسست بكرب: كيف سأحضر؟ قد أصدق أنّ القيامة قامت، وأنّ الشمس انطفأت ولن تظهر ثانية، لكنّي لا أصدق ما يحدث وقلت لنفسي أيضاً "لعلي خرفت أو أدمنت التشاؤم والحزن. ربما متّ وأنا لا أدري. لمن هذه القبور كلّها؟ هناك قبر يضمّ رفاتي دون شك، وهناك امرأة دفأى سكبت عبرات من أجلي وروت ظمأ الضريح، وهناك منزل سقط سقفه فوق جثّتي، أو خندق انطبقت ضفتاه لتحجبا عنّي النور والهواء وتكمّا أنفاسي".. سمعت صوت الصبي، يهيب بي:
- عليك أن تسرع. بدّل ثيابك الرثة، ونظّف نفسك جيداً. إنّه احتفال لا نظير له.
راح الضجيج، يقترب ويبتعد، أشعر به يدّوم في رأسي، ويستبيح نبضي وداخلي، ويشتدّ الدويّ، وتتلاحق الانفجارات، ثم يهدأ الكون. تعبر لحظات سكون، خلسة، أصيخ السمع، وأتذكّر وجود الصبي:
- لماذا أحضر؟
بحدّة ونزق، يضرب الأرض بقدميه. يرفع يديه كمن يتنكّب راية، أو يحمل شيئاً ثقيلاً. ألمح في اليدين مسدساً. خنجراً، وقنابل:
- ستحضر وأنت صاغر..
أحسّ بالقهر والذلّ، وتجتاح جسدي روائح العبيد والمستضعفين:
- إنّهم يشفقون عليك، يتيحون لبناتك أن يعشن في طمأنينة تحت ظلال سيوفهم، فماذا تريد أكثر من ذلك؟
يكبر الصبي، يتعملق، في فمه /غليون/ مشتعل. عيناه تسكبان اللظى فوق ملامحي وهيئتي، وفي اليدين يلتمع نصل، وتئز رصاصات، والضجيج ينفجر من جديد:
- أنت عاجز عن المقاومة.
أمدّ نظراتي. أعجز عن تبين الآفاق:
- سأحضر. لابدّ من الحضور.
يقترب الصبي. يعود الزغب الأصهب إلى وجهه، ويبرز لون عينيه الداكن:
- كلّهم يقولون ذلك.
- كلّهم؟
إنّهم يبحثون عن نهاية أعظم إيلاماً. لم أبك من أجل الطيور والحقول والفراشات وأزهار الأقحوان وشقائق النعمان. حزنت. نعم كان حزني عظيماً عندما نفقت أغنيات الرعاة، وانطفأ ضوء القمر، وتشوّه وجه الأرض الخصبة، لكنّي لم أبك أبداً... ستعود الطيور والفراشات، عندما تزهر الحقول والحدائق، وتختال سنابل القمح الشقراء، على مساحة المدى المغسول بالأشعة، أمّا الآن، حتى وهم يحتفلون يفكّرون بنهاية أشدّ إيلاماً، لعجوز لم يهزم منذ (ذي قار):
- بم تفكّر؟
أدرت وجهي، فأصطدم بالضجيج والدوي والانفجارات:
- إنّي أفكّر بالاحتفال يا بني.
طار جسد الصبي في الهواء، فرحاً:
- إنهم مقبلون، وعليك أن تكون في المقدّمة.
المقدّمة للرايات والبنود والسيوف، لمن تضيق بهم حفائر الأرض. لشمس أخرى وعشاق آخرين وكون آخر، ولزمان لم يحن بعد:
- أنتظر عودتك نظيفاً، مزهواً وسعيداً، فالمكواكب ستعبر من هنا، ويجب أن نكون في المقدّمة.
يتطاير وأطرافه ترقص، فأستعيد مشاهد أجساد مزقتها القنابل والألغام، وتناثرت أشلاؤها. أرفع يديّ. أغمر بهما وجهي. أسمع أصداء بعيدة، تقترب وتقترب. تلتصق بأذني، تضجُّ تطغى على الأصوات والأصداء، تركب المدى خيول لأعدّ لها. يعلو صليل سيوف. تهتزّ الأرض تحت الحوافر. أرفع اليدين، فأشاهد الصبي يعدو باتجاه الضجيج والدوي والانفجارات.
يدير العجوز ظهره، ويسير بخطا وئيدة، وعندما يتحوّل الصبي إلى نقطة سوداء صغيرة، يلتفت العجوز. يرنو بعينين تتفجران بالدموع. يمسح عبراته. تتدانى الأصداء البعيدة: "البحر من ورائكم، والعدو من أمامكم، وليس لكم والله إلا الشهادة أو النصر" تحمحم الخيول. تهزج السنابك، وتشدو السيوف، ينفتح المدى على اتساعه. تغادر نظرات العجوز الأديم. ترتفع قليلاً قليلاً. يتلوّن الوجه القديم. يبدو كقمّة مضاءة في الفراغ الرحب، وحول الوجه المضاء، وعلى أطراف الأفق، يتوهّج لون السماء، بينما الشمس تساقط أشعتّها، فوق الجسد المنتصب، فيمتدّ ظلّه ليغمر المسافات، إلى الغرب من مكانه، وكانت أصوات الاحتفال تخبو وتتلاشى، وكأنّها آتية من عالم آخر، أو هي بقايا حلم فاجأه لون النهار وإشعاعاته