بتـــــاريخ : 11/13/2008 8:19:19 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1188 0


    الهويس

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : سامي حمزة | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :
    قصة الهويس سامي حمزة

    جــوريَّــة و الـجـوّال"‏

    - شبت رشيقةً كالسهم، تثير غيرةَ النساء قبل هوس الرجال، وهنَّ يرينَ لهفتهم على جوريّة المهرة الحمدانية، عند النبع أو في المرج، وقد سرى في الحيِّ ما أطلقه الشباب عنها، وتشبيه فتياتهم بها. حتى بعد أن سُرِقَتْ ظلت مثلاً، وبقيت صورتها حاضرةً في الأذهان مزدانة بطلاوةٍ وعنفوانٍ، وبعضهم لا يخفي حسرته عليها وإن حاول كتم غيرته من سارِقِها، لأنه حَظِيَ بما لم يحظ به غيرهُ.‏

    كان "حرير" الجوّال قد سئم رعي حمير الحي وكدشه ، وضاق من إهمال الناس له، وأيقن أَلاّ أهمية لوجوده يوم داهم السيل المرعى، فتراكض أصحابُ المواشي فزعين يتخبطون في الماء والطين لتخليصها من الخطر المحدق بها، حتى إذا تسنى لهم توازعها، وجد نفسه وحيداً في بريّةٍ موحشةٍ خاليةٍ من أنيسٍ سوى حمارته، لو سأل عنه أحدهم مثلما سأل عن بقرته العجفاء!. لو اهتم به أحدهم اهتمامه بحماره المدبور!.‏

    -: لو كانت لك قيمة حمارٍ لسألوا عنك.‏

    تضخم الألم في أعماقه، وطغى حنظلاً في جوفه، وازدادت مرارة حلقه؛ إذ تنداح عواطفه على تفكيره، فيقبض فتحة ثوبه عند الصدر ويمزقها إلى سرَّتِهِ وينيخ على ركبتيه كجملٍ هائجٍ رافعاً وجهه إلى السماء، ضارباً صدره بألم المكبوت الذي لم يعرف الحيّ حباً كالذي يغلي في قلبه، ولا أحد يدري.‏

    -: إلام يا رب الخلق؟.‏

    وتسيح دموعه على خديه فتعلق بشعر لحيته الكثة، أملاحاً مصهورةً بمرجل قلبه، ويفرُّ قلبه في الصباح لقدوم صبحه تقود جوريّة، وكلما اقتربت ازداد نبض القلب وانبثقت هواجسه كمن يتوجس النوائب. سيحدثها، سيقول "القصيد" بقدِّها ونحرها وجيدها وهدب عينيها وخصرها وشعرها.‏

    -: يا صبح...‏

    وتتقدد الألفاظ الندية على شفتية المتفدعتين، وتسري البرودة في نخاع الظهر، وترتخي مفاصله، وتلفحه ريح الخيبة للمرة التي لم يعد يعرف عددها، حين عقدت صبحة رسن جوريّة، فانطلقت هذه وأدبرت تلك...‏

    صاحت الشياطين، وعوت الذئاب، وأنشبت عشرات القطط مخالبها في صدره، فالتوى زفيره يُضرم النار في أحشائه.‏

    -: هاهي ذي قد أكدت لك مرة أخرى أنها لا تعيرك اهتماماً، ولا فرق عندها بين حمارتك وبينك.‏

    فدبَّ كالمجنون نحو جوريّة. اقتادها واعتلى الصخرة والجفاف يمزق لهاته، وتعاظمت صبحة في خياله هادئة مستسلمة جوريّة الآن. وحين حاول امتطاء صهوتها هوى مرتطماً بالقاع كخرقة بالية مبللة، إذ قفزت جوريّة تصهل كما لم تصهل من قبل، وراحت تجوب المرعى، فقعد على الصخرة محموماً تتفجر في صدغيه وقحف رأسه كلماتها: صبحه يا بنات لن تكون إلا لمن يأتيها على صهوة فرسٍ مثل جوريّة، فيأخذها رغم أنف أكبر رأسٍ في الحي.‏

    وهوت فكرةٌ في رأسه كسيفٍ يهوي على رقبة غافٍ فشقت تفكيره وشطرته.‏

    -: أتفعلها يا ولد؟. افعلها واصنع رغبتك. واجعل من قدها فرس ليلك، مثلما ستكون جوريّة فرس نهارك وغزواتك، فتكون الفارس الذي امتطى اثنتين من الأصائل في وقت واحدٍ، واجعل لك من صبحة ذريةً بعدد شعاب الجبل، واجعل من جورية جذع شجرة خيل أولادك، ولتكن فارساً خلّف فرساناً.‏

    امتدت يده فامتلأت قبضته بأضمومة ورد النرجس، فأبرزها على كفه وتقدم بها نحو جوريّة، حتى حاذاها فأمسك جيدها، وبكل قوته قفز على ظهرها، وصاح صيحة انتصار، وراحت به مسعورة مأخوذة بالمفاجأة، هي المهرة التي لم تعتد أن يعتلي صهوتها أحد. كالسهم ومثل رصاصة طارت به، يتطاير الحصى والثرى خلفها زوابع غضب مستثار، وينشق الهواء بعنف صدرها، ويتمزق المدى بقوائمها، وبرأسها تعلن اللعنة على كل ما يصافدها، فلا تذر ولا تُبقي من سهل ومرتفع، غضب قد ذهب بكوابحها، وإهانة لم تحتملها، جعلتها كوحشٍ قد استضرى.‏

    وحرير قرادةٌ تلتصق بظهرها، أحس بورطة غير مرةٍ إلا أنَّ نار قلبه من صبحة كانت تجعله كعنترة.‏

    غرقت جوريّة بعرقها، والتهب جوفها عطشاً، فزفرت وتوقفت، فكبا حرير من فوقها ملقىً عند رأسها وقد امتلأت رعباً، وأنهاه الخوف والتعب فأخذ يئن، وجوريّة تشخر.‏

    - ها أنت ذي يا جوريّة، نصف دربي إلى صبحة.‏

    همَّ بامتطاء صهوتها، فهوى ساقطاً، حاول ثانية فأطاحت به.‏

    -: ماذا.. أيضيع الحلم هنا؟!‏

    تَدَلَّه لها. سامها العذاب. لاطفها. أهانها. دون طائل، وبدأت حمى الرغبة ترضخ للواقع، ثم ثارت الأحلام براكينَ تقذف الرغبة والإصرار، ثم ما تلبث أن تسكن سكون العاصفة التي تعصف بكل شيءٍ فتخرب وتدمر ثم تنتهي إلى وحشةٍ وفراغ، ولا يعود لها اسمها!!‏

    جوّعها. ربطها إلى عربة حمولة وجالَ بها البراري والقرى، ثم حاول امتطاء صهوتها فأخفق.‏

    -: لست فارساً.‏

    -: بل هي ليست أصيلة.‏

    حاول كثيراً وطويلاً، ولم يتمكن حرير أن يكون فارسها بعد تلك المرة. يئس فباعها واشترى كديشة وعمل حيث حلَّ جوّالاً يغرق في صمته وحزنه، فصار بنظر أصحاب البهائم؛ الدرويش الذي لا يبغي سوى لقمة العيش، فيزداد إصراراً على الصمت، ودموعه تنسكب في داخله طويلاً. إلا أن قدوم جوريّة بعد حين وخلفها فلوان "فرس وحصان" في جبين كلٍّ منهما غرة بيضاء، حركت قرارته فأدرك أنه قد خسر نهائياً وصار محالاً عليه الاستمرار، وجوريّة أمامه تستجر إليه خيال صبحة كلَّ دقيقةٍ، فقرر إنهاء عذاباته. وعندما قاربت الشمسُ الغروب، وبات قريباً موعد عودة القطيع، اقترب من جوريّة ووقف أمامها وقال: سامحيني. رغبتي الأخيرة أن أسمي الفلوين، فهي صبحة وهو حرير. ثم اختنق بعبرة بكاءٍ جاشت في صدره، واستعصت على مآقيه، فدفع القطيع شمالاً نحو القرية، وأدار كديشته نحو الجنوب، ومضى شبحاً يغرق في الغسق مختفياً بظلمة أول الليل.

    كلمات مفتاحية  :
    قصة الهويس سامي حمزة

    تعليقات الزوار ()