-: معتمٌ واطئ كلحدٍ، نتن خانق مثل كهفٍ، ممتد متعرج؛ هابط صاعد كالمغص، وفي لحظة هرست قبضته الفولاذية عضدي، وهي المرة الأولى التي أعامل فيها بهذا اللطف!. سمعت نقرتين على خشب، تلاهما صوت فتح باب، ثم سمعت أمراً: ارفع العصابة عن عينيك. فعلت وقد أصابتني العشاوة لفترةٍ. أمرني بالجلوس، فلجأت إلى أول مقعد صادفته، وما خلت أن شيئاً بمثل طراوته ونعومته يمكن أن يكون في هذا المكان.
أتاني الصوت: هل عدت تبصر؟
-: ليس بعد.
أردف: المهم أن تسمع وتجيب.
غريب أمرهم، كيف لا يملون هذا المقت؟ يمضون سنوات وهم يسألون!.
تذكرت ذاك المسن يُحَدِّثُ أترابه أوقات العصر في سوق القرية، عن المستنطق أبان فترة الاستعمار في الأربعينات، فلا تنتهي حكاياته عن بطله الأثير والبغيض في آنٍ معاً، حتى أن أترابه لقبوه بالمستنطق!.
سألني: أتعلم كم مضى عليك هنا؟.
أجبت: لا.
قال: خمّن؟.
أجبت: أربعة.. خمسة...
قال: إجابتك تدل على أنك مرتاح عندنا.
استفزني بهذا التعليق المدغم.
أجبت: لم أُشر إلى راحتي وحسن الضيافة عندكم.
توقعتُ منه أحد أمرين: إما أن يسخر من جوابي كما سخرت، وإما أن يقلب سحنته ويعلن جلافته؛ وقد فعل، إذ أرعد صوته من صدغيه قائلاً:
-: تأدب وأجب بالقدر المطلوب.
أجبت: الحقيقة لم أكن مرتاحاً البتة.
يبدو أنني هيأت له فرصةً أتاحت له تقمص الطاووس الذي يسكنه، إذ أردف:
-: "البتة" هذه، إذا حذفناها، تكون أجابتك أنك كنت مرتاحاً إلى حدٍ ما. معك حق، لابد من منغصات حيثما كان الإنسان.. لقد أمضيت عندنا تسعة أشهر وبضعة أيام.
صحت: يا..ه.!.
سألني: ما بك؟.
انفلق غيظاً، واستبسل في محاولة الاستظراف والظهور بقناع الرِّقة، كي يعرف لِمَ ندت عني صيحة "يا..ه". تركته يلوك أعصابه كقطع مطاط، أخذ لفافة وأشعلها على ثلاث دفعات، رشف بعض قهوته، ثم بدأ يستعيد برودة الجليد التي يظهر أنها إحدى قواعد وقوانين هذه الحرفة.
قال: هكذا إذن.. تسعة أشهر قد فاتت عليك، وأنت تحسبها أربعة أو خمسة أشهر، لن يمكنك التنصل من اعترافك بأنك فعلاً كنت مرتاحاً.
كتمت غيظي وليظن ما يريد، لأني في حقيقة ذاتي فوجئت بأن المدة ما كانت إلا بضعة أشهر، وقد خلتها أربع سنوات أو خمساً. ولست أدري بالضبط إن كان الظلام يخفف من سرعة الزمن، أم أن الضوء يزيد من سرعته، أم أن حالة المرء النفسية هي الزمن بحد ذاته؟
اقترب مني ووضع لفافة بين أصابعي، وعاد إلى مكانه، صمتَ لبرهة، ثم عبث بقرص الهاتف، نطق بكلمات كالأحجيات، واستمر على هذا النحو زمناً حسبته دهراً وأنا أقارن بين اللفافة غير المشعلة وأحلام اليقظة.
اقترب مني ثانية وهمس: نسيت أن أشعل لك اللفافة، لابأس، هل أنت مستعد لمقابلته؟.
-: من؟
قال: الجنرال.
-: وجهاً لوجه؟!.
قال: جانب من ديمقراطيتنا. حاول الإيجاز, ولا تكثر الأسئلة.
منذ أن أُدخلت المكان، لم تتح لي فرصة توجيه سؤال، وهم يسألون ولا يملون، يحددون: أجب بنعم أو لا، أو يطلبون إجابة قد لا تنتهي لأيام، تمل الكلام ولا تعود تعرف ما الذي قلته وما يمكن أن تقوله أو تغفله، فتهذي وتلعن الساعة التي تآمرت فيها الدنيا معهم علينا، تخرج عن طورك كأن مساً قد ألم بك، يتورم دماغك داخل جمجمتك حتى يكاد يفجرها. خطر لي أن أعلن رفضي وعدم رغبتي في المقابلة، وقد تذكرت تلك الطرفة حين حاولت الصبيّة لفت نظر حبيبها إلى البحر فقالت: انظر كم هو كبير!. فرد عليها بدهشة: "العمى"!. كم يحتاج من العدس ليصير "شوربة"!؟
هبَّ من جلسته قائلاً: ستكون أمامك ساعة وبضع دقائق.
وعندما وجدني صامتاً، أضاف: لم تستفسر عما تفعله خلال المدة التي ذكرتها لك؟.
أجبت: ولِمَ أسأل، بالتأكيد سترشدني إلى ما يجب عليَّ فعله.
-: مهذب.. يظهر أنك مهذب، أما الساعة فتقضيها في الحلاقة والنظافة. أليس لديك ثياب أفضل من هذه؟
-....
- ستجد ثياباً مناسبة بانتظارك. ثم عليك أن ترتاح بعض الوقت.
قلت: سأفعل.
أردف: لا تكن آلياً.. المفروض أن تسأل عن الدقائق التي ما بعد الساعة.
قلت بملل: وما قيمة دقائق معدودة؟
زمجر: لا تتغابَ، أهم ما في الأمر هي تلك الدقائق.
-: كيف؟
-: ماذا تظن إذن. كل شيءٍ محسوب هنا، ولكل ثانية قيمتها.
كدت أنفجر من الضحك، لكني تذكرت تكسير العظام وحقن الإيدز فارتدعت واستفسرت.
-: كيف تكون تلك الدقائق هي الأهم؟ أرشدني؟
صاح: هاها.. وصلنا إلى حيث يجب.
- أشعل لي اللفافة وأكمل-
-: هي مدة محسوبة لتلتقط خلالها أنفاسك، وتكون باشاً هاشاً قبل دخولك عليه. تعاظم الوقت الممطوط، وأنا لا أحسن ضبط مشاعري، وهل أنا راغب -أصلاً- بالمقابلة كي أقبل بكل ما يجري الآن؟
أمر لي بكأس عصير، وأكد لي أن خيراً ينتظرني، وألمح أنه من المستظرف أن أنسى ما مرَّ بي خلال الفترة المنصرفة.
أنسى!! إذا كانت المستحيلات ثلاثاً فهذا رابعها، وإن كانت سبعاً فهذا ثامنها، قال أنسى!. كيف أنسى، وماذا أنسى ولماذا أنسى؟
فُتح باب فأمرت بالدخول. كان قاعداً فقام، تقدم خطوة ماداً يده، صافحني وكاد يعانقني، ثم دعاني لأجلس، وانتظرني حتى اتخذت مكاناً، فبادرني: كيف الصحة. كيف الحال؟. وتابع دون توقف: قد لا يكون مؤكداً ما تناهى إلينا، لكن ليس أمامنا إلا أن نفترض أنه صحيح، ثم إننا سنطوي الكثير من الحيثيات، وعلى هذا الأساس يبقى أن نعرف، لماذا تكرهنا، أو لنقل: لماذا لا تحبنا؟.
قلت: وبماذا تؤثر عليكم كراهيتي، وماذا تفيدكم محبتي؟.
قال: لاحظ أنني أكلمك بهدوء، مقابل ذلك يستحسن أن تجيب عن السؤال بجوابٍ واضح.
قلت: أجيب ولا خوف علي؟
ضحك كأنه يفعلها لأول مرة في حياته. انتبهت أن مصوراً قد التقظ لنا عدة صور وهو يجلس بجانبي مبتسماً، وبعد أن انصرف المصور، همس: تكلم إني أصغي.
قلت: حسبت أن الكلام لم يعد لازماً.
سأل مستغرباً: لِمَ؟
أجبت: أليس كل الأمر متعلقاً بالصور؟
هبَّ من جلسته وراح حتى آخر القاعة، ثم توقف واستدار، وبدأ يتقدم كأنه دبابة. قمت من مكاني وأنا في وضع مزرٍ أمام هذا الضاري في أجمته.
صحت: لم أستخدم العنف ضدكم.
صاح: بل استخدمت آخر ما في جعبتك. لماذا ترفض التطبيع؟.
قلت: لأن هذا آخر ما في جعبتي.
طال صمته وقد أسند رأسه بين يديه ثم قال: تعلم أن كثيرين رحبوا وإن لم يجهروا بذلك. لماذا لم تلبِ أية دعوة إلى حفلات سفارة سيدة العالم الجديد؟ ألا ترغب برؤية ناطحات السحاب؟ ألست بحاجةٍ لرصيد في أحد البنوك؟ لدينا معلومات تؤكد ولعك بالنساء. لا تقل إنك راضٍ بحالك وأحوالك. ألا تعلم أننا بتنا نصدِّر "الفودكا" إلى موسكو وتوابعها؟ لابد أنك سمعت أننا نكاد ننتهي من السيطرة على مياه المنطقة. العالم يكاد يمسي كرة بين أقدامنا. ثم سكت وأطال النظر إلي، انتبه إلى صمتي وشرودي وخمَّن أنني لم أسمع كلامه. اقترب حتى عامدني وأنا في مقعدي وقال: ما وراء صمتك أيها المسكين؟
قلت: إنني أحلم أيها الجنرال.
استدار واتجه إلى مكتبه. ضغط زر الجرس، فدخل عملاق، فأشار له إلي، اقتلعني من مكاني كرافعة، وأخذني عبر الممر الضيق الطويل.
جلست حالماً.. نمت أحلم، أيقظني صوت ورق يُدفع من تحت الباب. كانت صحيفة، وجدت فيها صوراً عديدة، وبينها صورتنا أنا وهو، وتحتها عنوان عريض "عملاً بالديمقراطية ولوائح حقوق الإنسان و..."!.