- في الحياة لحظات يحس فيها الإنسان أن قامته تضيق بمشاعره!
وحرك رأسه مهموماً، ثم تنهد وأضاف:
- مع ذلك قد يكون في الذكاء... في فعل الكتابة تعويضاً عنه!
وفكر أنه لم يكن مبالغاً في وصفه لأعماله الأدبية، فقد التزم في كتابة مقالاته وقصصه الأصول والقواعد، التي تنبع من نفسه، من شعوره بالنوع الأدبي، يسجل فيها كل مايتصل بمجال مامن مجالات اهتماماته، قد يصعب على البسطاء إدراكها، بل قد يصعب ذلك حتى على الواعين أنفسهم! لقد كان يكتب مقالاته وخواطره وقصصه دون أن يتصور قارئاً أمامه، وإن تصوره، فإنما يتصوره من طرازه، وهذا بناء على تصوره لنفسه في شكلها الجديد.. في تهويماتها الحديثة.
لماذا لم تنشر إذن؟ لماذا حيل بينها وبين النور في شارع الحرية؟ لكم هو ملعون هذا الرقم الذي تحمله الحرية وإن كان هو رقم سنه العشرين! إنه رقم الخواطر والنصوص والمقالات، التي أرسلها إليه ولم تنشر.. لم يفتح لها المجال لتصل إلى نفسه التي أبدعتها أسطراً وأعمدةً تضيء صفحة من صفحات الجريدة. لقد جعلوه شارعاً للألم والضياع والموت، فصار طريق العبقرية في بلده محفوفاً على الدوام بالأشواك والعقبات والحواجز المروّعة. وامتلأ رأسه بخواطر قاتمة رانت على صفحة وجدانه وعمرت فمه بمرارة طحلبية.
كان قد عوَّد نفسه منذ مدة شراء الجريدة يومياً وقراءة الصفحة الثقافية منها، عله يجد فيها -بعدما يئس من نشر ماكتبه- خاطرة من خواطره. سرقها منه أحد محرري الجريدة ونسبها إلى نفسه، بعد أن أصبحت السرقة الأدبية أمراً شائعاً، وصار الارتزاق واقعاً ملموساً، لا ينكره ذو ضمير وأنفة. وكثيراً ماكان يخرج من جيوبه مسودات مقالاته أو خواطره أو قصصه ويقارن بينها وبين ما يقرؤه في تلك الصفحة الثقافية. فهل هناك ياترى من لص تستر بعمله، تستر بكتابة أبدعتها عبقريته؟ ولكن أنى له أن يعرف ذلك؟ قد ينتقل مايكتبه إلى صحفية أخرى بحكم الزمالة والعمل الصحفي حتى لا يكتشف مصير خواطره؟ أيبحث عن ذلك في كل الجرائد على قلة عددها؟ كلا، لن يشتري اليوم حتى جريدة "الحرية"، التي تفتقد الحرية في شارع الحرية!
كان اليوم الشتوي مشرقاً جميلاً، ولم يكن نوار يحب أن يعرف الكآبة في يوم كهذا. كان يحب دائماً أن يعثر على شيء يفرحه... وما يفرحه ينحصر في النزهة والتفكير والكتابة. لا ينبغي له اليوم إذن أن يحمل ضعف مايحمله غيره من آلام وأحزان ويذرع الشوارع والطرقات يائساً مهموماً، فليذهب للقيام بجولة بمفرده.. ماهو بحاجة إلى أحد. غير أن نفسه كانت في ذلك الحين تنازعه إلى الجريدة، لابد أن يعرف ماتحتوي عليه.. ولو من العناوين فقط، وهو كل ماكان يقرؤه منها في أيامه الماضية، والحق أنه لم يكن يهتم بها إلا حين بدأ يرسل إليها خواطره وقصصه.
استقر رأيه أخيراً على أن يشري الجريدة على الرغم من الخيبة، التي كان ينتظرها منها، فهي ترفض بعد أن تعترف باسمه وبكلماته وأفكاره. وتوقف أمام بائع الجرائد، وأخذ يتأمل الجريدة، ويتساءل في نفسه: أتراني سأجد فيها خواطري أو شيئاً من كتاباتي؟ وغمره سوء الظن بها، لكنه وجد يده تمتد إليها وترفعها رغماً عنه. فهل له أن يكتفي بتصفحها؟ إن ذلك قد لا يرضي البائع، وقد يقول له كلمة تؤذي سمعه وصدره، خصوصاً بعد أن شرع منذ مدة يحس بقيمته الذاتية... بعبقريته في فن الكتابة الأدبية مع أنه لم يجد بعد من يؤمن بهذه العبقرية، التي ستشغل المستقبل.. فذلك مايؤمن به هو إيماناً جازماً!
قر رأيه على أن يشتري الجريدة... من أجل العادة لا أكثر ولا أقل، والعادة قد تصبح ضرورة بشكل ما، يتصفحها ثم يرميها في سلة المهملات إن وجدت أو يتركها على كرسي من كراسي المقاهي أو مقعد من مقاعد الحديقة، التي اعتاد الجلوس فيها ليعاود قراءة مسودات كتاباته، والجريدة التافهة تستحق أكثر من مجرد الإهمال، إلا أنه لم يكن من عادته أن يمزق ورقة مكتوبة.. حتى تلك التي يكتب فيها خواطره.. كان يعتقد، دون أن يعرف من أين له ذلك، أن الورقة المكتوبة لا تستحق أن تمزق، فانسحب إيمانه هذا على ورق الجريدة!
دفع ثمنها وابتعد مسرعاً بعد أن طواها ووضعها في جيب سترته، وظل سائراً، فقد صعب عليه في اللحظات الأولى أن يجد الجرأة على فتحها. كان يخشى فظاعة خيبة الأمل المتوقعة حين لا يجد فيها مايبحث عنه! وعندئذ يتخلص منها في غضب، ويتركها تنزلق من يده، فيلحقه بعض الطيبين -فالدنيا لم تخل بعد منهم تماماً!- ويعيدها إليه، وهو يخجل أن يقول له.. خذها، فقد انتهيت منها! من يدري، فلعله رآه وهو يشتريها قبل لحظات دون أن يلقي نظرة على محتواها؟ لا مفر إذن من الاحتفاظ بها، ولكن لم لا يتوقف - أو يظل سائراً إذا شاء- ويجرب فتحها وإلقاء نظرة على صفحتها الثقافية؟ إنه لن يخسر سوى ثورة أعصابه، وكم من مرة خسرها!
فتح الجريدة، فتعثرت أصابعه في صفحاتها، وتخطتها مندفعة بحثاً عن الصفحة الثقافية، وإذا بنظرته تتجمد، وتتجمد معها رجلاه، فتوقف في وسط الطريق، لم يصدق مايراه، وشعر بدبيب في قفاه، بدأ يمتد تدريجياً في شعر رأسه ويوشك أن يقفه، واعتراه ما يشبه الدوار، واهتزت في صدره دوامة سريعة، فصب كل قواه البصرية على الصفحة... على جانب منها، يمسحه مسحاً.. يجرده جرداً، ويقتلع الحروف من أماكنها، ويختزنها في ذهنه وفي أعماقه، دون أن يدري ماتعنيه! لم يعِ في بداية الأمر إلا عنوان قصته واسمه، وكأن ماكتب تحتهما لا يعنيه إطلاقاً، أو هو لا يعنيه مؤقتاً على الأقل. كانت ثمة نجوم تلتمع تحت نظراته، ويحس لنظراته نفسها التماعاً وصفاء ينتشران على الصفحة كلها، وكان هناك صفير عذب يتصاعد في أذنيه.
صدمه أحد المارة، فانتبه إلى نفسه، واعتذر له معترفاً بخطئه لبقائه في وسط الطريق. واقترب من أحد الأبواب وأسند ظهره إليه، وانطلق عندئذ يقرأ ماكتب. وقد أحس أن الدبيب، الذي كان قد غمر رأسه، يعود مرة أخرى بشكل أقوى محدثاً في أعماقه لذة ناعمة. فهو يقرأ كلمات خرجت من صدره، انبعثت من وجدانه، انصبت من فيض قلبه انصباباً، يالها من عذوبة تنسح فوق لسانه! وياله من بريق يغمر ذهنه! على ذهنه النابض أن يتمهل ليستقبل البريق الذي صدر عنه وعاد إليه.. أن يحتفي بأفكاره البراقة وعباراته الصافية. وبورك الذهن، الذي يبدع مثل هذا البريق!
انتهى من قراءة ماكتب، وأعاد قراءته مرة أخرى، ومافتئ متكئاً بظهره على الباب دون أن يشعر بمن يدب حوله من المارة. رجلاه لم تشعرا بعد بالحاجة إلى الحركة. تكفيه حركته الذهنية مع أفكاره وجمله وألفاظه ومعانيه -مع عبقريته! لقد اكتشفت الجريدة أخيراً قيمته، واعترفت الحرية بحريته المبدعة. وتعطف رقم الحرية على سنه... عليه، وأتاح له أن يواجه نفسه، ويقف أمام أفكاره، هناك فرق بين أن يتأمل هذه الأفكار وهي في ذهنه وبين أن تشربها عيناه من الجريدة.. أن تقرأها مع الغير. لعل هذا الغير يقرأ في هذه اللحظة بالذات، في مكان ما، في آلاف الأمكنة، ماخطته يده ويحاور هذه الأفكار بدوره. الفكرة لا قيمة لها إلا إذا قرأها الغير سواء قبلها أو رفضها. وهل هناك من يرفض أفكاره؟ المهم أن يطلع عليها كما اطلع عليها هو الآن، لكن الغريب في الأمر أنه يحس اللحظة بقرابته من هذا الغير. أيكون حقاً هو الذي كتب هذا؟ إنه لم يقتنع بعد بذلك تمام الاقتناع. الموضوع فوق مايمكن أن يتصوره ذهنه في هذه الآونة، إلا أن عليه أن يؤمن بانتمائه إلى هذه الزاوية في الجريدة، هناك كلمات وجمل وعبارات لا يشك في أنها منه.. من فنه ومن عبقريته، وماهو بحاجة إلى من يثبت له ذلك. حسبه اسمه وعنوان قصته من شاهدين على عبقريته! هذه حقيقة لا يمكن أن يكذبها أحد. ما أروع أن يجد الإنسان نفسه أديباً! تلك هي الصفة الباهرة! وتحول الدبيب إلى حركة سريعة امتدت حتى رؤوس أصابعه، فحركها كمن يشعر بموسيقى خاصة!
ومر في الشارع بواجهة أحد المحلات، فرأى صورته في مرآة طويلة فيها، فوقف يتأمل قامته.. عله يكتشف أنه قد طالت قليلاً، ولما لم يلاحظ مايجلب الانتباه، رفع عقبيه، وقال في سره:
- ومع ذلك فقد طالت حقيقة وتصوراً!
وذهب إلى مقهى بإحدى الساحات العامة، كان من عادته أن يجلس فيه مع من خانهم الحظ مثله، فلم يوفقوا في نيل الشهادة الثانوية، ومن لم يجدوا من يمهد لهم الطريق إلى وظيفة ما، فلا وظيفة من غير صلة من الصلات الموصلة، مع أنه في غنى عن الوظيفة مؤقتاً! لم يجد في المقهى أياً من معارفه، لكنه لم يكن يشك في أنهم سيحضرون مثلما حضر هو نفسه، فأخذ كرسياً وجلس إلى مائدة، شغل جانباً منه بعض الشبان، لأنه لم يكن يرغب في الجلوس في مكان منعزل، وحرص في الحين على أن يعرف من خلال حديثهم نوع ثقافتهم، أعربية هي أم فرنسية، ولم يكن المشكل بالنسبة إليه مطروحاً، فهو متمكن من الثقافتين أو من اللغتين، لكنه فضل الكتابة بالعربية، لذلك فمن حقه أن يبحث عمن يفهمه. إنه يحمل جريدة في يمناه، والجريدة تحمل اسمه، وظهور اسمه فيها يقتضي منه أن ينضم إلى غيره، أن يعيش بين الناس، لا ليستمد منهم موضوعاً يكتب عنه فقط، وإنما ليعرفوا منه أيضاً أن له اسماً في الجريدة، واسمه يعني الآن، بعد ظهوره فيها، القوة، بل يعني الوزن والقيمة، والامتياز، وعلى من يحقق لنفسه ذلك فليبتعد عن الكتابة!
أدار الجريدة بين يديه عدة مرات، عل من بين الشباب من يعرف اسمه دون أن يبادله الحديث قبل اليوم، ويتعرّف هذا الاسم حين يقرؤه تحت عنوان قصته، وتمنى عندئذ لو أن صورته -وكان قد أرسلها إلى الجريدة غير من مرة... خوفاً من عدم وصولها أو ضياعها بين الصفحات- كانت منشورة مع القصة حتى تسهل على من يراه معرفته.
لكن ذلك كله لم يكن ممكناً، فوجد نفسه في النهاية مدفوعاً إلى أن يبدأ حديثاً مع أقربهم إليه... مع جاره، وهو شاب انعقدت ملامحه، وبهت وجهه وغارت عيناه، فسأله:
- هل قرأت جريدة اليوم؟
نظر إليه الشاب في ارتخاء، وقال:
- لا أحب قراءة الجرائد. فهل في جريدة "المناضل" من جديد؟
شعر نوار بامتعاض، وقال:
- لست أحدثك عن "المناضل". المناضل بالنسبة إلي صحيفة فاشلة، قلما تقدم شيئاً ذا قيمة، وإذا هي قدمت شيئاً، فإن ماتقدمه يظل محصوراً في ناحية معينة.. في سياسة مرسومة بصورة اعتباطية، إنما أعني جريدة "الحرية" الواسعة الانتشار، فهمتني؟
قال الجار الشاب:
- الحرية لا تأتي بجديد. إنها مجرد حاك يعيد ماسبق أن سمعناه من مصادر مختلفة.
انتفض نوار:
- إن "الحرية" تأتي بجديد حين لا ننتظر منها ذلك. ومن ثم فعليك أن تتصفحها كل يوم. ولو أنك اطلعت على عدد اليوم مثلاً، لعرفت أن هناك جديداً تحت الشمس. فانظر فيها أولاً، فهمتني؟
وقدم له الجريدة، فأخذها الجار الشاب منه وراح يتصفحها ويقلب الصفحة تلو الأخرى دون توقف، ثم قال:
- مجرد عناوين سياسية فارغة، ليس فيها عنوان واحد يغري بالقراءة، وبقية العناوين لا تعني شيئاً!
أسرع نوار يعترض عليه قائلاً:
- يجب أن تتصفح الجريدة دون أحكام مسبقة، لقد قضت الأحكام المسبقة على كل جديد لدينا. إقرأ أولاً، ثم احكم! فهمتني؟
نظر إليه الجار الشاب في استغراب، وقال:
- ماذا أقرأ؟ ليس هناك مايقرأ. كل ما أجده فيها ميت. لا حياة في جريدة "الحرية"! ولا في غيرها -على قلته- إطلاقاً، أترانا عرفنا معنى الحرية حين نسمي باسمها شارعاً أو جريدة؟ ليس فيها غير الأخطاء الفكرية واللغوية والنحوية.. والصرفية!
قال نوار في عصبية:
- هذا من جملة الأحكام المسبقة. الحكم الصحيح يتطلب أن تقرأ الصفحة الأخيرة! فهمتني؟
نفد صبر الجار:
- أنا لا أقرأ الصفحة الأخيرة أبداً. فما يكتب في ذيل الصفحة لا قيمة له!
- لكنها الصفحة الأدبية! فهمتني؟
- الأشياء القيمة، أدباً كانت أم غيره، تنشر في قلب الصحيفة.. في وسط الجريدة. ومادام هذا الأدب ينشر في الصفحة الأخيرة فهو تافه، فعندما يصل القارئ إليه، يكون قد ملَّ تصفح الجريدة! تلك هي حقيقة ماينشر من أدب في جريدتك هذه!
حاول نوار أن يتمالك أعصابه، وقال:
- هذا يدل على أنك لا تتبع مايكتب أصلاً، فهمتني؟
- وهو كذلك. أنا فوق ما يكتب. ولا أحب المرض!
- أي مرض تعني؟
- أنا لا أحب أن أقرأ لأمرض، التفاهة تمرضني، وما أتعس البلد الذي تصبح فيه التفاهة مرضاً مقيماً! وما لنا نحن شعار غير شعار الزمانة!
- اسمح لي أن أقول لك.. إنك لا تعيش بيننا.
- ومن قال لك إني أريد ذلك؟ أنا لا أزال أعيش في العالم، الذي كنت أعيش فيه. أنا مازلت أحلم.. أعيش باستمرارية الحلم!
- ولكنك لن تستطيع نقل حلمك إلى حاضرنا.
- وهل عرفت أنني أرغب في ذلك؟ فلنترك هذا! أرجوك فهمتني؟ فهمتني؟ فهمتني؟
وأعاد الجريدة، التي كان قد أبقاها بيده حتى تلك اللحظة، فقال نوار:
- عفواً، كنت أريد أن أحدثك عن اسمي، الذي ظهر اليوم في جريدة "الحرية" لأول مرة.
مال أحد الشبان على الجار الشاب، وهمس في أذنه:
- كل هذا مقدمة لدعاية ذاتية!
ابتسم الجار الشاب، وقال لنوار:
- ولِمَ؟ هناك أسماء كثيرة تظهر بين فترة وأخرى، ولكنها لا تهمني بأي شكل كان! والأسماء عندنا أسماء!
- أرجو أن تغفر لي تطفلي عليك، فقد كنت في حاجة إلى مناقشة مثقف لمعرفة رأيه في قضية تخصني.
قال الجار الشاب، وهو يحرك سبابته:
- أنا أكثر من مثقف! وأنا لا أجالس الأصدقاء هاهنا إلا لأن الجلوس في المقهى ليس ثقافة! ثقافة المقهى ارتخاء! للثقافة أمكنتها الخاصة، ونحن نجد المكان ولا نجد الثقافة، كفانا تفاهة!
قال نوار في ألم نوعاً ما:
- أجل، كفانا تفاهة الأحكام المسبقة! فهمتني؟
أسرع الجار الشاب يؤكد ماقاله بحركة من يده:
- تفاهة ! وفهمتني تفاهة!
وأشاح بوجهه عنه. وظل نوار جالساً في مكانه لحظة، ثم أخذ قهوته، وانصرف إلى جماعة أخرى، بدت له أكثر إيناساً وبهجة. وسحب كرسياً وطلب الإذن ثم جلس، وكان يعرف أحد أفراد تلك المجموعة معرفة سطحية، وبمجرد أن أخذ مكانه بينها، قدم إليه الجريدة، لأنه توسم فيه الخير والتقدير، مشيراً بإصبعه إلى مكان قصته من الجريدة. وكان يدعى صائماً، وتمنى في أعماقه ألا يكون صائماً عن الكلام! فالصوم عن الكلام يعني ضياع الحق، وضياع المجد الناتج عن الأدب والفكر، وهو يعد نفسه منذ اليوم أديباً ومفكراً.
تناول الصائم الجريدة، وقرأ القصة بسرعة وهو يمسح جانبي شاربه المقوسين.. متجاوزاً بعض السطور إلى أن وصل إلى نهايتها، فقال في نفسه: " شاب يستحق التشجيع!"، ثم قال له:
- أجدت وأحسنت! الوطن في حاجة إلى مثلك. عليك أن تواصل الكتابة، سنفتح باباً جديداً في باب الفكر إذا أنت عالجت مثل هذا الشكل.. مشكل النوم والموت على عتبة باب مؤسسة عمومية!
شعر نوار أنه ينتفخ كالقربة، وقال:
- شكراً لك على شعورك الطيب، شكراً! هل يعني أن ما كتبته يعني شيئاً بالنسبة إليك؟ فهمت سؤالي؟
- طبعاً. كل مايكتب يعني بالنسبة إلي شيئاً!
- كل مايكتب؟
- أعني كل مايكتب بالعربية! ومن يكتبه صديق، وأنت صديق مادمت قد كتبت!
- أنا أحترم مثل هذه الصداقة! لك مني كل الاحترام! فهمتني؟
- هذا واجبي، على الصديق أن يعجب بمايكتب الصديق!
وكان إلى جانبه شخص آخر، لا يعرفه نوار، استمع إلى مادار بينهما، فأخذ منه الجريدة، وأخذ يقرأ القصة في الصفحة الأخيرة، وهو يحك جبينه بصورة مستمرة، بينما واصل الآخران حوارهما حول أفكار مماثلة، وأخيراً حرك رأسه حركات سريعة، ثم نظر إلى نوار وقال له:
- لقد تسرعت في نشر قصتك، لقد كان نشرها ملء فراغ.
مرت بنوار لحظة قلقة من الصمت. ثم سأل المتحدث:
- كيف؟!
قال المتحدث، وقد التمعت عيناه ببريق حاد:
- أفكارك هذه...
فقاطعه نوار:
- أكنت تريدها أن تكون أفكار غيري؟ فهمتني؟
- أفكارك هذه غير ناضجة، لو كانت لغيرك لكانت ناضجة!
- هل يمكنك أن تخبرني كيف تنضج الأفكار؟
- تنضج الأفكار حين تكون واضحة!
- ومايعني هذا؟ فهمت قصدي؟
- يعني أن أفكارك بلا مقدمة ولا نتيجة.
- فهمت قصدي؟
- يعني في قصدي أنا أنها.. هلوَسة!
شعر نوارَ بغضب شديد استولى على نفسه، وملأ قلبه، لكنه وجد نفسه مضطراً إلى ضبط نفسه، فهذا الشاب الذي يكبره بسنوات قليلة، يسخر منه، فسأله:
- اسمح لي، ماهي مهنتك؟
فأجابه المتحدث:
- تاجر قدير!
سارع نوار يسأله:
- فهمت، التاجر تاجر، ولكن بماذا تتاجر، فهمتني؟
- لدي متجر للأفكار!
- بيعاً وشراءً! فهمتني؟
- قد فهمتك. بيعاً، إذا شئت أنت!
- ومادخلي أنا في الموضوع؟ بيني وبينك مسافة أطلسية! فهمتني؟
- ومن لا يفهم فهمتني؟ إنها لكذلك إذا شئت أنت أيضاً!
- وإذا أنا لم أشأ، أيها التاجر؟
- قل التاجر المستشار! فهمتني؟
- لك ذلك، أيها المستشار! أرجو ألا تكون لك هذه الوظيفة في الجحيم!
- تأكد أنني سآمر هناك بحرق أفكارك الفجة! فهمتني؟
وهنا تدخل الصديق، وقال لجليسه:
- إنك تبالغ في الممازحة!
قال المتحدث بنبرة جادة:
- لست أمازحه! فهمتني أنت؟
- ونظر نوار حوله، فلم ير أياً من معارفه، فقام وغادر مقهى التمتمة غاضباً، إنه لم يجد من يفهمه، من يقرأ قصته، التي كتبها بمشاعر صادقة، ويحاول أن يسبر أغوار أفكاره البعيدة، فأحد الذين قرؤوها أمامه، رفضها، وأخر جامله لكتابته بالعربية، بينما سخر منه الثالث، وأصر على جدية سخريته! ومضى إلى البيت والجريدة في يده. لم يرد حملها تحت إبطه، اسمه يجب أن يحمل في اليد، ولا ينبغي أن يركن تحت الإبط! اليد تبارك ما تحمله... احتراماً لمعاناة الخلق، وعنواناً للقيمة الكبيرة.. للمكانة النيرة في مجتمع لا يقدر الأديب والفنان!
كان الوقت ظهراً، وأطلع أهله على الجريدة، وكان يردد:
- انظري، ياأمي، انظروا، يا إخوتي، أرأيت يا أبي: هذا اسمي في الجريدة!
فامتدت الأيدي إليها وكادت تمزقها فرحاً به وباسمه. وطلب من أحد إخوته أن يذهب لشراء أعداد أخرى حتى يكون هناك عدد لكل فرد من أفراد الأسرة. وتناول طعامه والصفحة الأخيرة من الجريدة لا تفارق ذهنه.