حديقتي.
ولكني لم تكن لي حديقة حتى تكون لها مهجة، وكانت هي واقفة معي في الباب، ولكم أحس بالضياع عندما أقف بالباب، خاصة إذا كان ضيقاً، وهو يعني عندك فوق ذلك أنني غير منتمٍ! فقلت لها بصوت مسموع:
- تعالي معي.. سأقودك إلى مطعم، فقد تعلمنا ألا نجد أنفسنا إلا في المطاعم، تكاد تكون سيرة حياة بالنسبة إلينا! تعالي لتتناولي معي شرائح اللحم.. و تكتشفي فيها ذاتك!
وقد أصرَّت في البداية على أنها هي التي تدعوني، فقد سبق لي أن دعوتها مع صديقة لها شاعرة إلى أكل البيزا في محل كان عبارة عن ممر يتسع لشخصين ممشوقين. وحين ذكرتني دعوتي إياها مع الصديقة، عادت إلى ذهني ملابساتها وظروفها بكل تفاصيلها وإن غاب عني تاريخها، وتراءت لي وهي تحني نظرها وتأكل وكأنها لا تأكل... كانت تأكل ببطء شديد.
وقد خيل إلي وأنا أنظر إليها آنئذ أنها تقرأ مستقبلها في البيزا الإيطالية، بينما كانت صديقتها تأكل بشهية، لأنها كانت على يقين من أنه لا شعر والجوع يغزل أمعاءها غزْلاً. كانت كأبطال هومير يتناولون طعامهم ثم يدفنون موتاهم، ولكنها هي لا تدفن موتاها، وإنما تتناول طعامها، ثم تكتب شعراً حداثياً، وتتغنى بدموع... كالسمك. الشعر عندها غناء الألم أو هو غناء روحٍ ترتدي عباءة الطعام والتشرد و... العذاب!
ولم تلبث داعيتي اليوم وضيفتي في ذلك اليوم... أن انتهت من البيزا بعد أن قرأت تصوراتها الهائمة في عجينها ولحمها وزيتونها وحشائشها الخضراء، وفي عيون بيضها بوجه خاص. وقد أسفت لذلك، لأني كنت قد دعوتها لتأكل لا لتقرأ طالعها في عيون البيض وماجاوره! فالكرم كرم، ومكافأة الكرم الأكل بلذة بيّنة، فالمضيف كالطاهي الذي يشعر بنشوة حين يرى الضيوف يتبارون في أكل ماطهته يداه، ففي ذلك الدليل على مهارته في فنه وإتقانه له. وأظن أن إحداهما- هي أو صديقتها الشاعرة لا أذكر، والمرجح أن تكون هي -طلبت مني مساعدتها في ذلك، غير أنني لم أفعل خشية أن أكون مثل رجل حمل بيزا إلى صديقه كرماً منه، ثم نَاصَفَه في أكلها نهماً وعينه على مابيد الصديق!
عندما دعتني هي في هذه المرة، لم تنسَ أن تدُسَّ ورقة نقدية في جيبي كي أؤدي الحساب نيابةً عنها، فهممت بإعادتها إليها وأنا أقول:
- ادفعي أنت الحساب، كي تعيشي المفاجأة!
ولكنها رفضت أن تأخذها مني، فلا يليق بالمرأة أن تدفع ولو كان النادل امرأة، فسألتها:
- ولِمَ ؟! ألا تؤمنين بالمساواة؟!
فأجابت وقد رفّت رموش عينيها رفيفاً باسماً:
-بلى.. ولكن ليس في دفع الحساب!
قلت لها:
- حقاً إن إيمانك بالمساواة ليس قوياً.
ضحكت ضحكة كان لها مايشبه رنين الفضة أو هو رنين الفضة. ودخلنا بعدئذ مطعماً قريباً، وكنا طالبي رحمة من ناديه، فلم يكن معنا الكثير من المال في ذلك اليوم بالذات.. والأسعار سفافيد حامية. وصعدنا إلى الشرفة الداخلية المربعة، التي صفت في امتدادها كراسيّ وموائد من طراز واحد تتسع لشخصين مثلما تتسع لأربعة أشخاص، فالمسألة مسألة تكيف مع عدد الزبائن فرقاً وجمعاً!
وجلسنا في أول مائدة من المطعم، الذي كان أعلاه في الحقيقة يشبه مغارة على نحو ما، زرعت في جدرانها الأربعة مصابيح على مسافات متقاربة، وكانت هذه المصابيح عبارة عن مجموعات ثلاثية، تبدو وكأنها تخرج من فقاقيع مفرطحة الشفاه.. وهي إلى الآذان أقرب منها إلى الشفاه. وكانت أضواؤها الحمراء والصفراء والخضراء توهم بأشباح، تعبر أجواء المغارة من حين لآخر في صورة ظلال يصعب تبين أشكالها المحددة، قد تجعل المرء يتهم خياله بالإسراف. وقبل أن أعلق على ذلك. وكنت قد صعدت إلى شرفة هذا المطعم الداخلية لأول مرة، قالت وهي تبتسم ابتسامة مشعة تبهر القلب والعينين:
- إن هذا المطعم، الذي كنت قد ترددت إليه قبل اليوم، ليذكرّني بالعصور الحجرية.
فقلت لها:
- أنا إذن إنسانك الحجري!
فأسرعت تقول وفي رموشها رعدة:
- ولكنك من مرمر!
وعاد رنين الفضة يتردد في الجو... فتَمْتَصّه المغارة وكأنه يختفي في فضاءات غير منظورة. فقلت ضاحكاً بدوري:
- مرمر زماني. لكم أودّ أن أرسم شيئاً على جدرانه لأخلّد يوم لقائنا في هذه المغارة كما كان يفعل الإنسان الأول.. لكن جدرانها مدبّبَة، ربّما حرصاً على نظافة المطعم.. فالنظافة تعيش منفاها في أيامنا المهتزّة.
لم يكن في الذي قلته مايدعو إلى الضحك، ومع ذلك فقد ضحكتُ من جديد وكشفت عن أسناني دون صوت، وقد خيّل إلي أنّ البسمة ترتسم في عيني كما ترتسم في عيني عازف الناي. وضحكتْ وهي تنظر إلى الصورة التي كان قد اتخذها عازف الناي في وجهي في جو المغارة! وطلبتُ مانأكله.. سلطة وشرائح مشوية. وكانت هي قد أحنت رأسها، والظاهر أنه كان قد ثقل عليها عندما كوتها سفافيد الأسعار. وتذكرت الورقة النقدية، التي كانت قد دستها في جيبي عند الباب. وأخذت أحدثها عن مراحل من حياتي، أردت أن تعرف تاريخي.. فالتاريخ اكتشاف ومودة، وربما.. حب! فكانت تنظر إلي وهي لا تبدي حراكاً، ثم تغرس نظرها في سفرة المائدة البيضاء، كما لو أنها تقرأ فيها شيئاً يخص رابطة مستقبلية، فيتراءى لي محياها بنصاعة ورقته كلوحة ضوئية في إطار أسود... يتعاورها الحزن حيناً والوقار حيناً آخر.
وعندما جاءنا -بعد دهر شعرنا بطوله على الرغم من كل شيء- طبق السلطة، أخذت الشوكة، وراحت تصطاد حبات الزيتون السوداء- وكنت أراها تصطاد عينيها - وتأكلها، ولم تهتم بالسلطة، فرحت أنا أصطادها - فقد كانت نحيفة رقيقة الحواشي والأطراف- بالشوكة وأقضمها.. فأنا من فصيلة الأرانب فيما يتصل بالخضروات النيئة. وقلت في نفسي... إنها تسارع في أكل الزيتونات السوداء لتفرغ بعد ذلك للنظر إلى زيتونتي.. إلى عيني في خضرة السلطة، ثم والحديث عنهما، لكنها لم تحدث، على العكس مما كنت أتوقعه، عن عيني، وإنما تحدثت عن شَعْري، الذي يخلع علي - في ظنها- طابعاً معدياً، فالشعرة تعدى ببياضها جاراتها السوداء. لم أكن أعرف قبل تلك اللحظة أنها كانت مهتمة بتاريخ الشيب في شعري! ثم قالت لي:
- كنت في السنة الثانية عندما وقع نظري عليك.. على شعرك لأول مرة، وقد تساءلت يومها... من هذا القادم من الضفة الأخرى؟ قد لا تتصوركم فرحت...
فأسرعت أقاطعها ضاحكاً:
- تصورت أنا أكثر مما تصورت أنت، من.. فرحي!
فواصلت حديثها قائلة:
- كم فرحت عندما أكد لي زميل أنك مواطن مثلي.. عمقاً وانتماء. وأنا الآن معك في المغارة.
وسكتت، فانتظرت أن تضيف شيئاً آخر، ولما لم تفعل ذلك، تسللت إلى فكرها، وإذا بي أجد شريط أفكارها يمتد على الصورة الموالية:.. منذ ذلك اليوم خطفت قلبي، ولكني لم أظهر ذلك لأحد أبداً.. كتمت حبي الدفين في حديقة الأعماق. وكم كانت نضرة - على حزنها- هي حديقة أعماقي.. وقد سرني أن أعرف اليوم أنني خطفت قلبك أيضاً فقدتني إلى هذه المغارة الواعدة، فما من مرة التقيتك فيها.. في أعماقي إلا نظرت إلي نظرة مبحرة.. من قلبك إلى حديقتي، وجهي يشدك إلي شداً عنيداً، وكم تجنبت أنا النظر إليك فراراً من شد وجهي لك. إلا أنني كنت أرى كل شيء، وإن فاتني شيء، كنت أدركه ببصيرتي اليقظة أبداً. فالحياء له بصيرة، قد يعجز الكثير عن إدراك طبيعتها.. وللقلب فضلاً عن ذلك أشعته الكاشفة. لكم فتح لي صفحات وصفحات عن حياة من أحب ومشاعره ونظراته وسرحات فكره ونبضات وجدانه الحي.. وفي أقصى حد ود الشفافية تصبح البصيرة قلباً مضيئاً كالقمر.. ياقمري!
واستمرت تنظر إلي حين جاءتنا أخيراً شرائح اللحم المشوية، فشرعت أنا آكل، فقد كنت جائعاً، وكان لابد من دفن الجوع فوراً أو التخفيف من حدته على الأقل. وقد خيل إلي أن نظراتها تعكس أفكاراً تدور في رأسها المنتصب في شبه شموخ بجو المغارة. فتباطأت في الأكل وتسللت ثانية إلى أفكارها، فوجدت فيها ماراعني بعض الروعة! وجدت فيها:.. إني أنظر إليك وأنت تأكل، فأكتم ضحكتي... لأني أتصورك وَعْلاً على ظهر المغارة يقضم الحشائش الخضراء... وبينكما أساس مشترك في الدعة والهدوء. إنك صامت، وصمتك يحملني إلى تلك الفترة التي سبقت اختراع الإنسان للغة، ويجعلني إلى ذلك أتصور أنك تأكل وكأنك تؤدي طقساً من الطقوس الحضارية.. فالصمت لغة وممارسة كما أن الفكر لغة وممارسة. أنت كل هذا أمامي، ولكن..
وجلب انتباهي أنها لا تأكل، فتوقفت عن مواصلة قراءة أفكارها عن اللغة والصمت والفكر، وكنت قد شعرت مصادفة في تلك اللحظة أنه ليس من السهل علي أن أحرز مابعد كلمة لكن.. على أساس عاطفي أكيد من جانبها.
وطلبت منها أن تأكل، فأكدت لي أنها تأكل وتأكل. وتناولتْ قطعة لحم ملمومة كفمها، وراحت تنظر إلي، وفمها يلتم طوراً وينفرج طوراً آخر عن ابتسامة خاطفة يزيد السواك من قوتها على الجاذبية... نحو محطات الدفء الواسعة. ولما ألححت عليها في تناول الطعام، اعتذرت بأن مواعيد الدراسة قد قزمت شهيتها وقت الظهيرة بشكل دائم. فقلت لها ضاحكاً:
- ليس الأمر كذلك. وجودي معك أغناك عن الطعام، مع أني لست مطعماً!
فالتمعت شفتاها في شبه غضب -ولربما التمع السواك- لم يخل من تحد. ولما شرحت لها قولي. فأنا لم أكن أسخر منها، وإنما كنت أمزح، أكدت لي دون رنين فضي أنني على حق. ومرت فترة صمت دون أن تأكل، وخطر بذهني أن غلاء الوجبة نسبياً هو الذي دفن شهيتها. وأعدت إليها ورقتها النقدية، فقالت في خجل:
- أعرف أنها لا تكفي. لكني أعدك بأني سأدعوك مرة أخرى لتناول الطعام على حسابي.
فابتسمت وأنا أقول:
- عليك أن تدْعيني لتناول طعام العشاء حتى تأكلي معي، فأنا لا أحب العزلة في المطاعم، فهي تشعرني بالوحدة.. في مثل هذه المغارة!
وأعقب ذلك صمت طويل، تعانقت خلاله نظراتنا، وتلامست ابتساماتنا فوق بياض سفرة المائدة. وكانت في شفتيها الاختلاجة نفسها ، التي كنت أحس بها في شفتي. وخيل إلي أن الحزن يتوسط المائدة ويغرز عينيه في أعماقنا. كانت تبدو وكأن شوقاً مكتوماً يطبق على فمها.. وكنت أنا أيضاً أشعر بما يشبه ذلك، ولكن في فضاء آخر، بل في سماء أخرى أكثر حميمية وألفة. وتغلبنا أخيراً على جاذبية المغارة... على مايشدها إلى مائدتها وكراسيها المتجانسة، وقد كنا فوقها متجانسين أيضاً.. في قراءة الأفكار على أقل تقدير، وكان في ذهن كل منا أن هذه الدعوة آخر دعوة.
فهي ماضية إلى مدينتها.. قد لا تواصل الدروب معي.. ومن يدري ماوراء ذلك؟
وعندما وصلنا إلى باب المغارة، التفتنا في آن واحد، كما لو أننا كنا قد اتفقنا على ذلك، ونظرنا إلى المكان الذي كنا جالسين فيه بمفردنا، ولم نشعر بمن كان في المطعم من رواده، وكأنه أعد لنا وحدنا.. لوليمتنا الخاصة، التي كانت على نحو شاعرية غائمة.. من جانبها على الأقل. وكان كل منا يتساءل في عمق أعماقه أو في حديقة أعماقه.. ترى من ترك منا قلبه بلهفة أكبر ها هنا أم ترانا تركنا معاً قلباً واحداً في وليمة منسجمة؟. ومع ضياع القلب أضاع كل منا الآخر في قلب المغارة!