جلس زين الدين في مكتبه الفخم، وتناول ملفاً كان موضوعاً أمامه، ونظر فيه فتجهم وجهه، ومد يده إلى جيب سترته، وأخرج سيكاراً طويلاً غليظاً، وقضم رأسه بأسنانه وتفل في سلة المهملات القريبة منه، وقد تراءت في ذهنه صورة أحد رعاة البقر، وأشعله ونفخ الدخان بقوة، فتطاير حول خديه الممتلئين، وأنفه القابع فوق فمه كمنقار النسر، وشاربه الكثيف، وجبهته الناتئة، وصلعته الملتمعة، التي تدلت على حوافيها شعرات سود، تقوست رؤوسها، فصارت صلعته هذه تبدو كقمة جبل جرداء، انحسرت عنها أشجار صغيرة داكنة كظلال أشعة الشمس الغاربة!
وعاد ينظر في الملف، ثم رفع رأسه عنه، وفكر قليلاً، وهو ينظر إلى سقف المكتب على عادته حين تتصل الأمور -وهو يفضل استعمال جموع الأسماء- به شخصياً ويفكر فيها بجدية، ثم دق الجرس، ولما دخلت عليه كاتبته، طلب منها أن تدعو إليه عبد الكريم، مقتصد الشركة، وعادت به أموره إلى التفكير الجاد ومخططاته العنيدة!
وحضر المقتصد عبد الكريم بعد حين، وهو شاب في حوالي الثامنة والعشرين من عمره، بني الشعر، أبيض البشرة، ذو شارب رقيق، ونظرة صافية هادئة، ووقف أمامه، فلم يدعه زين الدين إلى الجلوس، وقال له بغضب، اهتز له شاربه، وبصوت أجش، بدت به آثار ليلة ساهرة:
- لماذا لم تفعل الأمر، الذي أمرتك به؟
فتساءل عبد الكريم بهدوء، وكأنه لا يعرف شيئاً عن هذا الأمر الذي سأله عنه، وسأله هو بدوره:
- أي أمر تعني، أيها السيد المدير؟ أنت تأمر بأمور!
عض زين الدين على سيجاره، ومصه ثلاث مرات حتى امتلأ خداه بالدخان، ونفخه، وسحب الكرسي إلى الوراء قليلاً، ووضع رجلاً فوق أخرى، واتكأ وهو يرفع بيده السيكار إلى رأسه، وفي ذهنه يمثل عصابة فردية، ثم حدق فيه من خلال سحب الدخان، وقال:
- هناك أمر واحد مهم في هذه المرة، فلا مسوّغ لتجاهله!
فامتعضت ملامح عبد الكريم، وسأله:
- أتراك تعني السيارة؟
أغلق زين الدين الملف ووضعه جانباً، ونهض بعد ذلك وهو يحرك يده اليمنى، التي كانت أصابعها تنضم على السيكار بعصبية، وراح يتمشى في المكتب، وأراه ظهره لحظة، واقترب من النافذة، وألقى نظرة على البحر المنبسط على مسافة قريبة فبدا أمامه كمرآة رمادية اللون تعلوها بقع بيض كالسحب، لكنه لم يلبث أن استدار من جديد، وخطا بضع خطوات، وقد تصورها أيضاً شبيهة بخطوات المبارز استعداداً لإطلاق النار، ولكنه هو لا يطلق سوى كلمات تصحبها النار! وعاد يحرك يده، ووقف أمام المقتصد، ونظر إليه من أعلى إلى أسفل، ودَّ أن يختصره بها ويلصقه الأرض لو كان ذلك في استطاعته، وقال:
- ذلك ما أعنيه بالضبط، لقد لاحظت أنك لم تسجل سيارة من السيارات الخمس، التي اشترتها الشركة... لم تسجلها باسمي في قائمة خاصة مع أنني كنت أكدت عليك في ذلك.
رد عليه عبد الكريم، بهدوء كان يحسده عليه دوماً، قائلاً:
- قلت لك لن أفعل ذلك، أنا لا أتعامل بالكلام أولاً، كل معاملاتي تتم كتابة، ثم إن السيارات طلبت باسم شركة الصناعات الورقية، ويجب أن تبقى باسم الشركة، وليس من حقنا أن نتحول إلى شركة تبيع سياراتها الجديدة لموظفيها.
وجحظت عينا زين الدين، وهو يقول له:
- ستفعل ذلك رغماً عنك، فأنا مدير الشركة، وصاحب الحل والربط فيها.
قال عبد الكريم وقد علت فمه ابتسامة:
- قد يكون ذلك صحيحاً فيما يتصل بك شخصياً، فحُلّ واربط كما تشاء!
وجد المدير نفسه يصرخ:
- بل يخص كل من أنا مسؤول عنهم. هم تحت أوامري!
أسرع عبد الكريم يقول:
- لا تنسَ أيها السيد المدير أن الأوامر لها حدود أيضاً.
فرد المدير، وهو ينفض يديه معاً:
- أنا الذي يقرر هذه الأوامر.. ولو كان ذلك بالإرغام!
قال المقتصد:
- ليس بالنسبة إلي، أنا مقتصد الشركة، وليس هناك من شيء يرغمني على كتابة السيارة باسمك الشخصي، والعاقل لا يرغم أحداً على شيء لا يرتضيه لنفسه.
ابتعد زين الدين عنه، واتجه إلى مكتبه، وجلس فوق كرسيه وأعماقه تغلي. وقال:
- أتظنني مجنوناً؟
فأجابه عبد الكريم بهدوء:
- إنك لم ترغمني بعد!
ضرب عز الدين بيده على مكتبه، وقال:
- اطمئن! سأرغمك على ذلك. اطمئن!
بقي عبد الكريم على هدوئه وقال له:
- أنت مخطئ كل الخطأ، فليس في يدك أي شيء ترغمني به.
قال المدير، وقد زادته برودة أعصاب المقتصد ثورة:
- بل أنت المخطئ ففي يدي كل شيء فصلاحياتي كمدير تسمح لي بذلك.
تراجع عبد الكريم نحو الباب، وقال:
- في هذه الحالة ماعليك إلا أن تسجلها باسمك أنت شخصياً، وبذلك تحتفظ بصلاحياتك في يدك!
أسرع زين الدين يقول:
- لكنك أنت المقتصد، أتطلب مني أن أقوم بعملك؟
قال عبد الكريم:
- هذا صحيح، ولكن ماتطلبه مني لا يدخل في دائرة عملي، عملي أن أسجل السيارة وغيرها من صادر ووارد باسم الشركة، ولا أتجاوز ذلك.
التمع الغضب في عيني زين الدين، واحتقن وجهه، وأخذ يحك رأسه، وقد تكور في أعماقه حقد مرير، اكتنفه فجأة، وقال:
- ستعرف قوة يدي الضاربة بعد حين!
نظر إليه عبد الكريم مبتسماً، وهز رأسه، وقد شعر فجأة باحتقار له ممزوج بالشفقة عليه وسأله:
-ماذا تريد أن تفعل؟
- سترى كيف أدمرك تدميراً.
ركز عبد الكريم نظرته في وجهه، وقال له في ثقة مبتسمة:
- قد ينعكس الدمار على نفسه، إني لا أخشى أحداً ومابي حاجة إلى أحد. فلي حماية من ضميري.
وانصرف عنه، وتركه يغلي ويضرب بكلتا يديه على مكتبه، وراح يفكر كيف يعاقب المقتصد على وقاحته، فما من مقتصد عنده إلا وهو محتال، يعرف كيف يختلس الأموال ويحولها إلي حيث يريد، ومثله لا يعدم الشريك.. بل سلسلة من الشركاء، وها هو مقتصده يرفض أن يحقق له مصلحة خاصة وهو مديره.. وهو مايدل على احتياله! وهذا في الوقت، الذي لا ينفك فيه يخدم مصلحته الخاصة به، وهو لم يطلب منه الشيء الكثير.. سيارة تكتب باسمه لا أكثر ولا أقل! مادام الأمر هكذا، فإنه من السهل عليه الآن أن يكتشفه ويثبت عليه الاختلاس بالدليل القاطع، سيجلب مراقباً مالياً من وزارة ما، وبعد ثبوت الحجة عليه من خلال تقرير المراقب المالي سيوجه إليه ضربته المدمرة.. تهمة الاختلاس، ويدخله السجن، فذلك مايستحقه كل مقتصد يتسم بمثل هذا الهدوء وهذه البرودة.
وأخذ يدير الموضوع من جوانبه المختلفة، ويفكر في الطريقة المثلى لإتمام ذلك، فلا بد أن تكون التهمة محكمة لا تقبل الشك ولا تحتمل أية مراوغة.. ولا يعتريها الأخذ والرد. وطرأ على ذهنه سؤال محير... أين يجد المراقب المالي، الذي يستطيع الاطمئنان إليه؟
المواطن، أي مواطن في أيامنا هذه، عرضة للوقوع في فخ الاختلاس وقبول الرشوة.. والاشتراك في المآدب، ومن ثم خشي أن يؤثر مقتصده في أي مراقب محلي آخر، فيفوت عليه فرصة الانتقام منه، ولم يفكر في الأمر طويلاً، فقد قرر أن ينتدب مراقباً مالياً لمراجعة حسابات الشركة.. ويحضره من الخارج لهذا الأمر خاصة ، ففي الصدق الخارجي قضاء على المآدب وكشف لوسائله المستورة!
ودعا كاتبته في الحين وأملى عليها رسالة، وجهها إلى شركة فرنسية، كانت شركته تتعامل معها، يطلب منها فيها أن تمده بمراقب مالي لفترة من الزمن، قد تمتد إلى شهرين أو ثلاثة أشهر حسب ماتقتضيه مراجعة حسابات الشركة.. شركته! وأنهى رسالته بعبارات الود والتوسل والرجاء والتعبير عما في نفسه من إجلال لكل خبير فرنسي وثقته الكاملة فيه، فهذه المراجعة ضرورية بالنسبة إليه... وحضور المراقب سيعيد إلى نفسه طمأنينتها، وإلى قلبه هدوءه ورضاه.. فقد افتقد كل ذلك في الآونة الأخيرة، وسيرى مقتصده أنه ثابت في مركز إصدار الأوامر كصخرة المرجان، التي لا تحني رأسها للرياح والأمواج.
ولم يمضِ على ذلك أسبوع حتى حضر المراقب المالي، وذهب زين الدين بنفسه إلى المطار لاستقباله، وقد سره أن يجده رجلاً وسيماً رشيقاً، شعر بالغيرة من رشاقته منذ اللحظة الأولى، في نحو الثلاثين من عمره، من ذلك النوع الجنوبي الفرنسي، الذي عرف أمثاله في جنوب فرنسا أيام إقامته فيه في المرحلة الأخيرة من دراسته، وأحس بالقرابة المتوسطية، التي تشده إليه برباط وثيق! غير أن الفرنسي لم يبد اهتماماً كبيراً بما أبداه نحوه من لطف حفاوة، بل استغرب إلى حد ما أن يحضر المدير بنفسه لاستقباله، وفكر رأساً في الأهمية، التي يمكن أن يعلقها المدير على حضوره دون أن يعرف موضوعها، وحمله بسيارة الشركة إلى فندق من أرقى فنادق المدينة، ليقيم فيه إلى أن ينتهي من مهمته. وتركه فيه بعد أن تواعدا معه على أن يأتي بنفسه أيضاً في صبيحة الغد لمصاحبته إلى مكتبه. ونام عز الدين في ليلته تلك نوماً هادئاً، لم يعرفه منذ مده ، وتراءت له في نومه أحلام وردية: سيارة بيضاء، في داخلها قلب من أزهار، يطل منه وجه فتاة كالربيع! وشعر في الصباح بنشاط غريب لم يعهده في الآونة الأخيرة.
وحضر في الموعد المتفق عليه، وجلس معه في المطعم ليشاركه فطور الصباح، وشرح له الأمر في أثناء ذلك، وانطلق يحدثه حديث خبير يعرف معرفة جيدة مايشفي الغليل، ويحيل لحظات المعاناة إلى أضعافها من اللحظات السعيدة، وتجنب أن يطلب منه الدقة في المراجعة، والأمانة في التحري، والصدق في نقل كل مايسجله أو يلاحظه على المقتصد، فمثل هذه الأمور لا تطلب في نظره من أجنبي، يشغل وظيفة في شركة ذات سمعة عالمية، لأنه يعتبر الشركة شركته، سمعتها سمعته، وأمانتها أمانته، ومجدها مجده، يسعده أن يكون واجهتها في مكان من العالم، يؤدي فيه مهمة باسمها وباسمه الشخصي وباسم مديرها، الذي يطيعه كما ينبغي أن تكون الطاعة له! ثم إن الراتب الشهري الذي اقترحه عليه، يغنيه عن الطموح إلى الحصول على أي مبلغ آخر يعرض عليه للتغرير به وإخفاء الحقيقة عنه، وبعد الفطور ذهب به إلى الشركة، وقدمه للموظفين، ومن بينهم المقتصد، الذي لم يظهر عليه أنه يهتم كثيراً بهذا الأمر أو يبدي عناية كبيرة بهذا المراقب المالي الأجنبي، فالقضية تعد إلى هذا الحد قضية مديره! وأوضح لهم المدير المهمة، التي سيقوم بها هذا المراقب مدعياً أن مصادر معينة، لم يكشف عن حقيقتها، هي التي طلبت منه ذلك.
وبدأ المراقب المالي عمله في اليوم الموالي، وقد هيء له مكتب مجاور لمكتب المقتصد، وكان هذا يقدم له كل مايحتاج إليه من وسائل ومعلومات تتعلق بالدفاتر والملفات المختلفة. فكان يجلس إليه، ويطلعه على كل رقم وعلى كل مبلغ في جميع السجلات، ويناقش معه المبالغ المالية، ووجوه صرفها، فقد شعر أن مديره -هو بحجمه- يشكل المصادر المعينة، التي طلبت إجراء مراجعة جميع الحسابات، الوارد منها والصادر منذ إنشائها قبل بضع سنوات، ولذلك كان حريصاً على أن يثبت له أنه ليس مثله.. أنه لا يطمح إلى ماليس من حقه، ولا يتعدى حدود وظيفته بشكل من الأشكال، وهو لم يفعل ذلك منذ أن دخل الشركة.. وهو يؤمن كل الإيمان بأنها شركة حكومية كما هي في جوهر الأمر وواقعه، وكان يبتسم استغراباً كلما مرت بذهنه نماذج من الموظفين الذين يعتبرون ما للدولة ملكاً خاصاً لهم، يتصرفون فيه حسب الرغبة والمزاج!
وطال عمل المراقب المالي، وماكان يهمه أن يطول عمله، المهم أن يقوم بالمهمة كما ينبغي له أن يقوم بها، سواء تطلب منه ذلك شهرين أو امتدت الفترة إلى ثلاثة اشهر. ثم إنه لم يكن لديه مايدعو إلى السرعة، فالبلد رائع، والمدير لا يبخل عليه بشيء، بحيث لا يكاد يتركه يدفع شيئاً من جيبه كلما ذهب معه خارج الفندق، فهو يدعوه إلى الخروج معه، ويدعوه إلى بيته وإلى بيوت أصدقائه، من حين لآخر لحضور أنواع المآدب والسهرات، ويمكنه من كل مايرغب فيه، كان الجوهري بالنسبة إليه أن يحقق له مايطلبه منه.. أن يثبت له أن مقتصده مختلس وفيّ لطبيعة فيه. فقضية إثبات هذا الاختلاس تكدر صفو حياته، وتشغل فكره ليلاً ونهاراً، وكم تمنى وصول يوم يتم فيه الكشف عن المختلس المناور، الذي تحدى إرادته، ومنعه من تحقيق رغبة في الحصول.. في هذه الشركة بالذات.. على سيارة رابعة، تنضم إلى السيارات الثلاث وإلى القارب، الذي اشتراه لابنه البكر، يقدمها لابنته في عيد ميلادها المقبل! ألم يرها في حلمه وجهاً محفوفاً بقلب من الزهر وسط سيارة! إن أفضل الأمور عنده ليس ثلاثة، فعددها يخضع لعدد أطفاله، لذلك أخذ يلح على المراقب المالي في التحري واليقظة.. وحذره من أن يدع للمقتصد فرصة لإخفاء أي شيء أو محاولة التهرب من الأجوبة الصريحة أو القيام بأية مناورة كيفما كانت طبيعتها.. فبذلك فقط يشد قبضة يده عليه، الحصول على السيارة الرابعة أمر لابد منه، فهي تعني رؤية ابنته شمسا... تقود سيارة!
وتوالت الأيام والمراقب المالي يواصل عمله ببطء، ولكن بتحر شديد. وكاد يطير من شدة الفرح عندما أخبرته كاتبته أن هناك إشاعة.. تناهت إليها. فقد سمعت الموظفين يتحدثون عن قضية تتصل بالمقتصد، هي أنه اشترى سيارة بأموال اختلسها من الشركة، وأن المراقب المالي على وشك إثبات ذلك عليه، وأنه قد يطرد من الشركة ليحاكم ويزج به في السجن لتجاوزه القوانين الرسمية والداخلية للشراكة. واستغرب زين الدين أن يسمع الموظفين بذلك قبل أن يسمع بهذا الأمر من المراقب المالي، مع أنه كان هو الذي استدعاه بنفسه من فرنسا. وتساءل كيف سمح لنفسه بالحديث عما كان بينهما معاً وأباح له أن يوسع دائرته إلى غيرهما.
وقبل أن يستدعي المراقب المالي، حضر هذا إليه شخصياً، وأخبره أنه على وشك الانتهاء من عمله.. قد يكون ذلك مع تمام الشهرين تماماً، وأنه سيقدم له التقرير قبل نهاية الأسبوع الجاري، فانزعج المدير قليلاً، دون أن يظهر انزعاجه أو يعبر عنه صراحة. كان قد شعر أن عمل المراقب المالي قد طال، وأخشى ماكان يخشاه فوق ذلك أن تكون النتيجة سلبية، على أنه لم يفقد الأمل، كان يدفعه إليه اقتناعه باختلاس عبد الكريم لأموال الشركة تحايلاً وتزويراً، وأخذ ينتظر التقرير على أحر من الجمر كما يقال. فقد تصور أنه سيحتوي على تفاصيل دقيقة، تؤكد ظنونه وتزيدها ثباتاً، وسيعرف منه عمليات الاحتيال السابقة والراهنة بأعدادها وتواريخها.. فيصبح المقتصد ناضجاً لدخول السجن ومحاكمته بجريمة اقتصادية وتدميره في النهاية تدميراً كاملاً.
ودخل عليه المراقب المالي في آخر يوم، فقام يرحب به مبتسماً ضحوكاً، ولكن وجهه عبس إلى حد ما عندما دخل عبد الكريم بعده بلحظات، وازداد عبوساً حين رأى بريق الانتصار وفرحته يلوحان على وجهه، وتمنى لو أنه لم يحضر معه ليدور الحديث بينه وبين المراقب المالي على انفراد. وحاول أن يصرف عبد الكريم، فقد شعر أن حضوره يزعجه، ولكن المراقب أفهمه أن من حقه أن يبقى، فالأمر يتصل به في النهاية، ومع ذلك فقد نظر عبد الكريم إلى مديره نظرة منتصرة، واتجه نحو الباب بخطى ثابتة، وغادر المكتب، وبعدئذ سأل المدير المراقب المالي:
- هل توصلت إلى نتيجة؟
وعوض أن يجيبه المراقب المالي، قدم له تقريرين، أحدهما مختصر جداً، والآخر مفصل إلى حد ما، فقرأ المختصر بسرعة، ولم يلبث أن شحب وجهه، وأحس بحرارة تجتاح جسمه، وتفصد العرق من جبينه، ووضع التقرير فوق المكتب أمامه، دون أن يحول نظره عنه، ورفع يديه كلتيهما، ومسح بهما على صلعته، وقد بدا عليه أنه نسي وجود المراقب المالي. كان ماورد في التقرير بمثابة شهادة على صحة حسابات الشركة. المصبوبات في حسابها والمدفوعات على حد سواء، وبمثابة دليل على نزاهة عبد الكريم، لم يصدق ذلك، وماكان باستطاعته أن يفعل ذلك... ألم تحدثه كاتبته عن إشاعة؟ أيكون المقتصد نفسه مصدر تلك الإشاعة التي تحدثت عن شرائه لسيارة بأموال مختلسة.. بثها بين الموظفين نكاية به وسخرية منه؟ وسأل المراقب المالي وهو ينظر إليه في ضراعة:
- هل تأكدت من كل شيء؟
فابتسم المراقب المالي وقال:
- بكل تأكيد، ياسيدي المدير! لم أترك قائمة واحدة.. ولا رقماً واحداً من الأرقام، التي تضمنتها السجلات العديدة المتنوعة.
وشرع بعد ذلك يطري النظام الممتاز، الذي اتبعه عبد الكريم في تصريف شؤون الشركة المالية وما تجلى في ذلك من براعة وفطنة ونظام ممتاز، ثم قال له:
- ليس للسيد عبد الكريم مايؤخذ عليه في سلوكه، شخص من الدرجة الأولى. يعرف مهنته تمام المعرفة.
وشعر المدير بنظرات عبد الكريم تسحقه في مكانه مع أنه لم يكن موجوداً في المكتب، واعتراه ارتباك كبير، حاول أن يخفيه أو يخفف من حدته على الأقل بقوله، وكأنه نسي أو تناسى ماقاله له في السابق عند مجيئه:
- إني لم أتهمه.. وإنما دعوتك لمراجعة الحسابات حتى أعرف إلى أي حد يمكنني أن أثق به وأعتمد عليه في المستقبل.
قال المراقب المالي:
- هذا أمر غريب في الحقيقة، عمل معك ثلاث سنوات ولم يكسب ثقتك حتى اليوم!
فاحمر وجه زين الدين، وقال له: وهو يضحك:
- نحن نؤمن بأن الإنسان يتطور، ومغريات الحياة المعاصرة كثيرة.
ضحك المراقب المالي بدوره، وقال:
- أنتم تؤمنون إذن بأن طبيعة الإنسان خيرة، وإذا ما تطور، فإنه يتطور تطوراً عكسياً!
وقال المراقب المالي:
- هذا صحيح أيضاً، غير أن الطبائع تختلف من شخص لآخر.
أصابته كلمة المراقب الأخيرة في الصميم، وقد خيل إليه أنها تهمة له، وقال مردداً، وفي حلقه جفاف حارق:
- مافي ذلك شك! مافي ذلك شك!
ونهض عن مكتبه، فنهض المراقب المالي معه، وهو يمد يده إليه:
- علي أن أسافر يوم غد، لك مني ألف شكر، ياسيدي! وأتمنى لك حظاً سعيداً في المستقبل. إذا ما احتجت إلى خدماتي في فرصة أخرى، فأنت تعرف عنوان الشركة، وهي في خدمتك في أي وقت تشاء!
اكتفى المدير بهز رأسه، وصافحه بفتور، وهو يقاوم رغبة في حك صلعته بيسراه! وسافر المراقب المالي في اليوم الموالي، ولم يذهب إلى المطار لتوديعه في هذه المرة، مدعياً - وقد أخبره بذلك هاتفياً بدافع العاطفة المتوسطية!- أن كثرة أشغاله لا تسمح له بمغادرة المكتب في صباح الغد، وكلف السائق مرافقته إلى المطار، ولم يرافقه السائق في حقيقة الأمر، إنما رافقه المقتصد نفسه، وكان قد دفع إليه في اليوم السابق -بموافقة مديره- ما تبقى من مستحقاته على الشركة بالعملة الصعبة، واتفق معه على مرافقته، وما أن عرف ذلك زين الدين، حتى أخذت أعماقه تغلي من جديد، ورفضت أن تقتنع بعبث مسعاه، وبدأ الشك يساوره في صحة مانقله إليه المراقب المالي، أيكون المقتصد قد صادقه؟ أيكون قد رشاه دون أن يعلم؟ إنه خبيث لا يستبعد ذلك منه على الإطلاق.. ليس في طبيعته خير! أيحضر مراقباً مالياً آخر نزيهاً! وسألته أعماقه.. وأين تعثر اليوم على نزيه تطمئن إليه كل الاطمئنان؟ الخبث يستقطب كل نزاهة! لابد أن يجد طريقة أخرى لطرده... لابد من إدانته بصورة من الصور، وإذا لم تكن الإدانة فلتكن الإهانة، فقد تكون الطريقة الوحيدة لتحرير نفسه منه.. لطرده قبل أن يهيء له شركاً يوقعه فيه، وهو ما لم يفكر فيه حتى الآن. ولكن تفكيره هذا جاء متأخراً إلى حد كبير، فبعد أيام قليلة تلقى هاتفاً من وزارته، كان فيه الكثير من الإهانة، التي كان ينوي إعدادها للمقتصد. وليس هناك من إهانة تعادل إقالة موظف سام بالهاتف! لكنها لم تترك أثراً كبيراً في نفسه.. فقد تبعه هاتف آخر بعد حين فوجد نفسه يعتدل في كرسيه، ويبتسم عبر السماعة ومن خلال الصوت المرح.. للمساعي الخفية، ويفكر في الطريقة المثلى، التي سيتبعها مع مقتصده في منصبه الجديد.. في حالة ما إذا هو تجرأ....!