بتـــــاريخ : 11/15/2008 7:23:11 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1852 0


    أيام ..من سفر العودة

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : سهيل نجيب مشوّح | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

     "الريح تذهب إلى الجنوب، وتدور إلى الشمال. تذهب دائرة دوراناً، وإلى مداراتها ترجع الريح.. كل الأنهار تجري إلى البحر، والبحر ليس بملآن.." ..مقطع من سفر الجامعة.

    نصف إغماضة، وبعض الصور القديمة تتقافز في رأسي أنتقي منها ما أشاء، وأرسم الخطوط العريضة لحلمٍ تمنيت ألاّ أفيق منه.‏

    الطريق طويل بين المطار والمدينة الآمنة، والخضرة على جانبي الطريق تبعث البهجة، وتهيّج الذكريات، و.. الجبل المارد ينتحي ركناً قصياً . يقف شامخاً بثباتٍ وصبر، يرقب الحركة الدائبة للمخلوقات، وفي الليل تتلألأ على ذراه الأنوار، كأن سفوحه تشتعل لتطهر ترابها من أدران المتسلقين. تطمئن المدينة ليقظته، فتغطّ في نومٍ عميق .‏

    شعرت بالزهو وأنا أختلس النظر لوجه ريم وهي تنقّل بصرها يميناً وشمالاً. تغمرها الدهشة إذ ترى اخضرار الشجر المتدفّق رغم إدبار الربيع منذ وقت ليس بالقصير، وأسراب الطيور تشكل غيمات صغيرة.. منخفضة، والنسيم الطري يقتحم النوافذ فيرجم وجوهنا بالندى.‏

    مرّات عديدة سلكت فيها هذا الطريق مرغماً، ولكني لم أشعر بالغبطة كتلك المرّة.. الحلم المشاكس يداهمني ثانية، ويلقي أمام عيني وجوهاً أعرفها، وأحداثاً مبعثرة، وأسماء أليفة تقرع أبواب الذاكرة.. تحفزّها لاقتناص صور أفلتت من مدارها، و.. الطريق يتلاشى، ويمّحي تحت عجلات السيارة اللاهثة، وسؤال ريم المباغت يمزّق الصمت، فيجفل الحلم مني.. يفرّ بعيداً ويندس في زحمة الضوء.‏

    -ما هذه البيوت الشاحبة؟!‏

    *إنها مكافأة رخيصة للذين أتوا من هناك...‏

    - وهذه الحقول الداكنة ؟‍‍!‏

    * إنها كابوس يؤرّق الهاربين‏

    كنت واثقاً من غموض إجابتي، ولكن أسئلتها المفاجئة، وخوفي من نظرات السائق المريبة، دفعاني إلى تلك الإجابة المبهمة. أعود إلى صمتي، وتطبق ريم أهدابها بحركات سريعة مستسلمة، وترسم على شفتيها ابتسامة صفراء .. مشفقة. حين رأت ذهولي، وسمعت ردّي المقتضب، وأدركـتْ خوفي، فعادت إلى صمتها بقية الطريق.‏

    ما إن وصلنا البيت حتى استلقت على كرسي قريب، وفتحت عينيها الصغيرتين على اتساعهما، وأرخت لنظراتها العنان تجوس أرجاء الغرفة بقلق.. تخترق الأطر الخشبية للوحات المعلقة على الجدران وتتسلّق أجساد التماثيل الصغيرة . تدخل تجاويفها المعتمة، وتتفحّص أجزاءها الدقيقة. تقرأ عناوين الكتب المكدّسه على أرفف المكتبة المكتظة .. تدخّن .. تصمت. وتتلفّت.. وتهرب من أسئلة الحضور . عيناي تطاردان ملامحها الذاهلة. أفتش في ذاكرتي عن الكلمات المناسبة لأفتتح الحديث، وعرقي المتصبب يفضح ارتباكي وفجأة... قلت :‏

    * الفرق شاسع بين هنا وهناك- حتماً -، ولكنك ستعتادين صخب شوارعنا وغبارها.‏

    رسمت ابتسامة باهتة، ونفثت دخان سيجارتها وردّت بحماس عفوي:‏

    -هه.. صدّقني إن هذا الصخب الذي يزعجكم أروع بكثير من موسيقاهم الماجنة، وأجمل من صمتهم اللئيم، وهذا الغبار الذي تتحدث عنه أطهر من ثلوجهم المسمومة.‏

    *كم أقمت هناك؟.‏

    -أقمت زمناً يكفي لأن تغرق دموعي رؤوس أبنيتهم الشاهقة‏

    * وكيف تقضين وقتك الصعب؟!‏

    - في الصباح، عندما تطلّ شمسهم المترددة أذوب مع الثلج، وعندما يأتي المساء يصيّرني الدفء طيراً أسطورياً، فأحلّق صوب الجهات النائية أدخل عبر أبوابها المشرعة - دوماً - فأبحث تحت سقوفها المنخفضة عن الحنان العائلي..‏

    * ألن تعودي ثانية يا ريم؟‏

    وأجهشت في بكاء مرير بعث فيّ الخجل والارتباك لفظاظة السؤال، وأشعرني بالخيبة والندم لاستعجالي الأمور. قالت لي عبر دموعها وكفّها المبسوطة تومئ إلى صدرها..‏

    - أعود.. ربّما... إذا زحف الثلج على رمالنا المتأججة وأطفأ بهجة النخيل عندئذٍ فقط أعود هناك كي لا أشهد نهاية الصحارى‏

    توالت الليالي، ومرّت الأيام، وفي ذات صباح وحين خرجت من غرفتي لقيتها في الصالة تحتسي قهوتها- كعادتها- وتستمع إلى المذياع، حيّيتها..ردّت بإيماءة من رأسها دون أن تلتفت وتابعت الأخبار.....‏

    ... نفَّذ رجال المقاومة في الجنوب.../ أحبط جنودنا البواسل في القاطع الشمالي../ خرج أهالي الضفة الغربية.../ في بيروت الشرقية‏

    -تباً .. الجهات تشتعل !! قالت بصوت حزين كأنها تحدّث نفسها وتابعت بصوت جعلته أعلى قليلاً لتشاركني الحديث:‏

    - لابّد من دورة ماكرة لكوكب الأرض حتى نتبادل الأمكنة، وتتغير الجهات الموبوءة، أو تعود إلى رشدها.‏

    *ولم كل هذا؟!‏

    -تصوّر.. إنهم يحسدوننا على معاركنا اليومية هذه، ويتوقون لميتة مدوّية تنشر صوّر ضحاياهم على صدر الصفحات اليومية..‏

    وقاطعتها لكبح انفعالاتها، ومنحها قسطاً من الهدوء..‏

    * الحقّ معهم.. يجب أن يكون لموتهم معنى يليق بحياتهم الصاخبة.‏

    -صخب ماجن لابدّ أن ينتهي.‏

    قلت : فلنتقايض إذاً.‏

    أجابت: سنخسر الكثير.. نحن نتعب، ونقاوم، ونحلم بالأسرة الدافئة والأطفال السمان المتوردين.. نحن نمشي، ونتقدم خطوات إلى الأمام وأخرى إلى الخلف ... نموت عندما تحين آجالنا..هم جاهزون، مبرمجون كل شيء حواليهم. لا يتسنى لهم الحلم إلاّ نادراً، ولم تمرّغ جباههم بغبار التعب.. وكالمرّات السابقة شعرت بعبث محاولتي لاقناعها بالعودة.. تململت في جلستي.. أحسّت بضجري فأحجمت عن الكلام، واتجهت نحو المغسلة بتثاقل كي أبدأ يومي المتكرر.‏

    مرّت الأيام الأولى بطيئة، إذ دخل الصيف منازلنا الضيقة دون استئذان، وغزا الشوارع والأسواق. تسلّل وسط الحشود الآدمية على مواقف السيارات، ودور السينما، وقاعات الدرس، ومراكز التموين المكتظّة بالمتسوقين، فعلا الغبار وتكاثف، وفاحت الأجساد برائحة العرق، والتهبت الأمزجة، وبدا الضجر على الوجوه المتعبة.. كلّ ذلك جعلني عصبياً نزقاً، أميل إلى العزلة، وأتحصّن بالصمت، وأكتفي بملاحظة ريم من بعيد... انتظر قرارها بصبر.. عليك أن ترجعي يا ريم!!‏

    بينك وبين المجد خطوة أخرى.‏

    صار أملي يتلاشى يوماً بعد آخر حين غدت تخرج طوال النهار لترجع في المساء محملة بالفرح والحكايات الغريبة عن يومها المنصرم.‏

    هذه البهجة المباغتة تخيفني، وتبعدها عن القرار . صرت ألمس هذا وأنا أستمع إلى حديثها المتأجج عن طيبة الخلق، ولذة التعب، والأحداث التي تشهدها، وأسألها أن تكف عن ذلك وتفكّر بهدوء لتصل إلى القرار المناسب. تجيبني : لا.. لن أستريح إلاّ الوقت الذي يمنحني القوة لأغوص في أعماق الثواني. أبحث بين أجزائها الدقيقة عن السعادة التي ضيّعتها بين ثلوج البلاد الباردة.‏

    *ألم تكوني سعيدة هناك؟!‏

    -بلى.. ولكن سعادتهم جرعة تستطيع تناولها وقتما تشاء لتمنحك فرحاً واهياً سرعان ما يتبدد.. وقالت لي أيضاً: الفرح عندهم لا يأتي بحق إلاّ في الأيام المشمسة، وفي العطلات، لذا تراهم يتسابقون إلينا لانتزاع شموسنا وقالت لي... وقالت .. وتزداد عصبيتها كلما أمعنت في الحديث، وأنا مشغول بربط الأحداث، وتفسير الأشياء، وأمور أخرى .. أسألها فجأة: ماذا تعنين بهذا يا ريم. ؟‏

    -سأبقى هنا‏

    *بين القلق والغبار!!‏

    -نعم .. وبين طوابير التموين، وزحام السيارات، وصراخ الباعة الجوالين و....نهضت مسرعة إلى غرفتها. ثم عادت تحمل جواز سفرها، وراحت تمزّق صفحاته بعصبية وتبعثرها بقدميها في حالة جنونية، ثم أردفت بصوت متحشرج زرعت فيه كل أحزانها الدفينة.. قالت : أسمع.. هنا أهلي وشمسي .. ومجدي. هنا فرحي وحزني، هنا يكبر أملي كما أريد.. لذا لن أرحل ثانية حتى تنطفئ الشمس، وتجفّ الأنهار، وينقرض النخيل.. لن أرحل ثانية .. لن.. أر... حل... أبداً

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()