قدماه النحيلتان تتشابكان مع أرجل الكرسي الخشبي الأصفر الذي يتأبطه معكوساً تاركاً رأسه يتدلى خلف المسند بذقنه الكثة، وشاربه المتدلي فوق الشفة السفلى بقليل.. إلى جواره وعلى مقربة من سريره الحديدي الصدئ تنفث المدفأة بفوضى تنذر بسقوطها في أية لحظة. أشياؤه المبعثرة في أركان الغرفة، وكتبه الممزقة، وثيابه الرثّة المعلقة على مسامير في الجدار إلى جانب الصور المبتذلة..، وحذاء قديم بالٍ، وبقايا ستارة مزركشة كانت بيضاء فيما مضى..
هذا المشهدـ، وتفاصيل أخرى لاأهمية لها تدلّ على بؤس الرجل، وفاقته.. عدا تلك النظرة الغنية المتوثبة، والتي تسهل ملاحظتها، فتمسح غبش الشفقة عن قلب جليسه،بل وتشغله بفكّ رموزها، وتحاصره بالأسئلة!!.
**
لم يكن كذلك من قبل !.
ولم تكن حالته بهذا السوء المتفاقم أبداً..!!.
كان مرحاً.. دؤوباُ .. مخلصاً لصحيفته التي قضى فيها أجمل أيامه، وسهر على تحريرها جلّ لياليه مع الأصدقاء بعيداً عن زوجه وولديه.. ظلّ لاهثاً وراء الخبر المفاجئ، واللقطة المدهشة، وعندما وقف عادل على مشارف الحقيقة لم يكتف بالنظر إليها من علٍ.. بل اقترب من أبوابها المغلقة.. وركض وراءها محاولاً التقاطها بفرح، كما يجري صبي وراء فراشات الحقول.. وكلما اقترب منها تعثّر (بشيء ما) لتفّر الفراشات بعيداً في فضاءات واسعة.
حاول أصدقاؤه أن يردعوه. أخبروه بأن هوايته هذه ستكلفه الكثير.. أفهموه بأن الـ..، ولكن عناده أكبر من رجائهم وحبهم له.. قال لهم ماألهو به من أجلي وأجلكم.. حاولوا ثانية .. وثالثة.. دون جدوى، ولم يعد بإمكانهم أن يفعلو أكثر من ذلك، فتركوه خلف وهمه مدركين عاقبة النهاية. هذا العناد، وتلك النزاهة أزعج الكثيرين ممن يطاردهم شبحه في كل مكان..
خطواته تكبر، ويعلو وقعها، وهم.. يتلفتون خلفهم بإرتباك، وكلابهم الطليقة خلفه تطارد شبحا ليس له أثر .
عادل لا يطلب شيئاً لنفسه... لايهمه إصرار الولدين على حقائب جديدة للمدرسة، ولارغبات زوجه الودود المتواضعة، ولا علاج أبيه الواهن جرّاء مرض السكري، إنه راضٍ بغرفته الوحيدة المتداعية في حي ( الفحّامة) المكتظّة بالأطفال، والباعة الجوالين، وورش التصليح، وأشياء أخرى.. إنه سعيد بأسرته المكوّمة في ركن من الغرفة، وحلمه الذي لاينتهي بإكتشافٍ يقوده للقضاء على تلك "الفيروسات" المعدية.
-( وأنا أيضاً سأشفى من سقمي وعوزي عندما ينقرضون) هكذا كان يقول لنفسه دائماً.
-هه..هه.. ضحك عادل وهمس لصديقه: أعرف ذلك منذ وقت طويل حتى قبل نبوءة هذا النطاسي الأنيق، فهذا الصداع اللعين ينهش رأسي بشراسة، فتتمّلكني رغبة في تفجيره طلباً للراحة .
-ولكنك تحتاجه الآن، ردّ صديقه مداعباً : هذا مرض آخر يضاف إلى رصيدي الصحي، ولكن لن آبه به:
-غداً سأشفى من سقمي، وانتصب مثل السنديان.
..خطوات قليلة تفصله عن جنونه اللذيذ، وتلك المتعة تسحره أكثر من أي شيء آخر كلما اقترب من فراشاته الملونة. وكلما اقترب أكثر يجدها تفرّ من بين أصابعه من جديد..
المطاردة لاتنتهي!!..وجولاتها بين كرٍّ وفر، وتلك الأوبئة القذرة لن تدعني وشأني، بل ستطاردني إلى آخر الدنيا حتى أرفع رايتي مستسلماً ..أو أصمت قهراً، ولكن لا..لن يحدث هذا .ذات شتاء.. وفي مساء مثقل بالصمت والصقيع. كان عادل يجلس إلى جوار فاطمة. يغلّفان بعض الكتب لحفظها من الرطوبة والتلف.. الولدان نائمان، وفاطمة تتأملهما بحنان؛ تسترق النظر إلى زوجها لتطمئن إلى وجوده بجوارها .. إنها سهرة حميمة افتقدتها من زمان، وحتى تلك اللحظة لم يكن هناك ثمة ما يشير إلى احتمال حدوث أمرٍ ما، فالشتاء قارس، والليل قارب انتصافه.. ثوانٍ قليلة فقط وتعلن الساعة تمام الثانية عشرة، وتلفظ دقاتها الصاخبة المزعجة، والنعاس يتمكن من فاطمة، فتبدو حركاتها بطيئة متراخية، وعادل...رأسه مضطرب بالهواجس يفكر في أمور كثيرة، وعضلات وجهه تنقبض وتنبسط وسيجارته لا تنطفئ.. إنه يبحث عن شركٍ لفراشاته الرخوة / المتناسلة، بل يبحث للمدينة عن خلاصٍ من "فيروساتها"!!.(إيهٍ..أيها الخراب الموغل فينا لابّد أن نتطّهر منك، ونستلقي على ظهورنا آمنين.. نحلم كما نشاء.. سيحصل هذا.. من منا لايرغب في ذلك؟! أما أنا فلاشيء يشغلني في تلك الحقبة أكثر من ذلك!!)
ضجيج في الخارج، وهدير سيارات يمزّق هدوءهذا المساء الشتائي الجميل.. خطوات تقترب من باب البيت. بترك عادل ما بيديه، وينصت بعناية للصوت المداهم... طرقات على الباب.. يجفل عادل، وتنتفض فاطمة، ويتقلّب الولدان، و.. الطرقات تتسارع، وتشتد ، فيهب عادل واقفاً ويخف مسرعاً لفتح الباب خشية أن يهوي تحت قبضاتهم... يفتح الباب ليواجه مجموعة من الرجال يتقدمهم "فيروس" مكتنز.. غاضب... (هيئته تدلّ على ذلك).. يتمنى عادل أن يضحك من قلبه ويقهقه إذ يرى بعينيه أولى انتصاراته، ولكنّ الخوف والبرد يحولان دون ذلك. يتنبّه إلى صوت "المكتنز" يخاطبه:
-إسمع يا هذا .. أكاد أسمع صرير أسنانكم من البرد وأنا خارج بيتكم، وأسمع (وصوصة) بطونكم أيها الـ(..) دعونا وشأننا لنغمرك وأسرتك بالدفء والطيبات.. فماذا تقول:
-أنا لا أعرفك؛ ولم أزعجك أنا ضد المفسدين، والطحالب، والأوبئة،و..يقاطع:
- وهل أنت حارس الأمة..أنت لا تخيفنا. إنك تزعجنا بصخبك، وشعاراتك أيها البائس المنقرض؟!..
يتركونه، ويغادرون المكان. يصمت عادل .. يصحو في داخله هاجس طالما ساوره كلما أمعن في شقاء أسرته، وكلما رأى ما حاق بهم بسبب عناده وهو الذي لايني يصارع طواحين هواء؛ أو أخطبوطاً بآلاف الأطراف ينتفض عادل كمن أفاق من حلم مرعب.. يطرد هواجسه.. يمسح عن ذاكرته ما تسلل إليها في تلك اللحظة الواهنة، وصوت وحيد يتركه يدوّي في مسامعه. منادٍ يهتف به من وقت لأخر.. (اخلد إلى عنفوانك أيها البائس).
أَلِفَ عادل زياراتهم (الودّية)، ومطارداتهم (الغبية) . وهداياهم (السخية)، واعتاد كذلك رؤائحهم الغريبة.. رائحتهم ليست بالكريهة جداً، إنها تشبه العفونة التي يشمها في بيته الرطب، وهي أقرب ماتكون-تماماً- إلى تلك الروائح المنبعثة من ردهات المشافي الحكومية المكتظة بالمرضى الموبوئين..
عادل يكره تلك الرائحة، وما شابهها، ويكره مصدرها، وقد حاول ذات مرة أن يغيّر منزله ليبتعد عنها فسقط في شركٍ متقن مزق كرامته، حتى تمكّن -بعدها- أن يفلت بصعوبة، وعاهد نفسه أن لا يعيد الكرّةَ، وأن ينتقم لغوايته، فاندلعت حروفه الأولى على صفحات الجريدة حرباً ضروساً على الطحالب والأوبئة، ومازال يؤججها يوماً بعد يوم منتشياً بانتصاراته الصغيرة على تخوم جشعهم وفسادهم، حتى نسي نفسه ومن حوله تماماً..!!.
تسأله زوجه أحياناً : لم تفعل هذا دون الآخرين؟! دعنا نعيش بسلام.. يقاطعها: أنا أفعل هذا لأنني أملك (الأداة والفعل)، وسأرشقهم بحروفي حتى يندثروا.
-سوف لن تجني من عنادك هذا إلاّ البؤس والتعب.
-لايهم .. أعرف إنني أعاقبكم بقسوة، ولكن لن أعيد سقطتي الأولى، فمازالت تؤرقني، وهم العارفون ببواطن الأمور.. سيحاصرونني حتى أصمت، أو أستكين تاركاً لهم حرية الحركة. يسبحون في دماء الضعفاء.. يفتكون بكريّاتهم الحمراء والبيضاء والسوداء كذلك، حتى ينالون منهم، فيخرّون صرعى..لن أدعهم يفعلون هذا.سأشهر قلمي في وجوههم، وأرجمهم بالكلمات المرّة حتى ينقرضوا؛ أو يفروا.
(هذه الحرب اللعينة ترهقني، ولكنني سأخوضها!!)
-تباً لهذا الصراع اللعين .. المطارق تنهال على جمجمتي من كل صوب.
-أرح نفسك يا عادل. أتصارع من أجلنا؟ أم تسعى إلى مجدٍ يخلدك!؟.
-اصمتي يا امرأة.. أخالك منهم عندما تكلمينني هكذا!.
-سآخذ الولدين وأرحل..
إلى الجحيم، إلى جهنم أيتها الرخويات الدبقة، سأخوضها وحدي، وليكن مايكون.
هذا سقوط آخر.. لا.. بل هي هزيمة مباغته، فالهزيمة أخفّ وطأة من مرارة السقوط، فقد أتمكن بعدها من الثأر لنفسي.. وسأفعل
آه..ياللمرارة.أرى بي ضعفاً لم أعهده من قبل. أسرتي، وصحتي، وأبي، وحروفي، وأشياء أخرى كثيرة.. لا أذكرها جيداً ولكني أراها تتبددّ مثل حلمي، وهذا الصراع اللعين ينهش رأسي، ويباعد بيني وبين الأوبئة القذرة، وأنا وحدي أصارع كل هؤلاء بسلاحٍ أوشك أن يستنفد كل ذخيرته، وجسدي تنهار عزيمته، ووجهي الأصفر الشاحب يفضح ضعفي، ويزداد شحوباً ..حتى نسيه الأصدقاء، فغدوا يمّرون بي دون تحية .
نعم !!.. هذا الذي ترونه وجهي، وليس (شيئاً آخر) كما تظنون. السنون هي التي فعلت به ما ترونه، وحفرت عليه تاريخ هزائمي المتلاحقة، وانتصارات الأوبئة.. أشعر بحزن ثقيل، وقلق يستبد بي، وأتذكر قول فاطمة:
(لن تجني من عنادك إلاّ الفاقة والتعب)..أوشك على الانهيار..أتمالك نفسي.. أعود لسنين خلت، تلك الأزمنة السحيقة الغابرة التي عبرتها بصبر، أشعر بالزهو، ويمسني الغرور إذ أتذكر كيف اختارتني فاطمة من بين الآلاف؛ وأتذكر صدى حروفي الأولى، ووقعها بين الناس،و..
إذن .. هيا إلى مملكة شبابي، وعنادي، وحروفي الأولى.إلى خيلي، وليلي، وأوراقي البيضاء الطاهرة، النقية.. إلى نهاية الأوبئة، وبداية الكلمات...
أبدأ الكتابة.. أكتب..(أنا أكتب..إذن.. أنا عدو الطحالب، والأوبئة!!).