صباح-1
ما الذي رمى بك في هذه البقعة النائية؟.. وأنت أجمل الصباحات، وإشراقة من الماس تسقط فوق خيامهم المتناثرة على التلال المتربة، وبين نفاياتهم.. تسرقين النعاس من أعين الجنود الكسالى، وتصدحين بأغنية المنافي.. (أرجميهم بطهرك يا صباح)، ولا تنتظري، فلا العشيرة انتفضت حين سبوك، ولا أبوك أحسن الاختيار.
تذرّعي بالقسوة الكاذبة. إنّ الليالي لم تعد واحة للسهرات الحميمة، والشعر والأغنيات، فالعشيات اختلفت، والنهارات كذلك!.
غداً.. ترين بأم عينك كيف تفسّخت الكائنات وأشباهها، وليس ثمّة مايميّزها عن بعضها سوى لون الشقاء، وطعم الندم، وحين ترين ذلك فلن يبقى من جموحك إلاّ الذهول.
حتى الذين عرفتيهم بالأمس ما عادوا كذلك!! فقد تراخت قبضاتهم، وتدلّت سواعدهم كالستائر المهترئة، ولن تجدي فيها سوى بقايا عزيمة تستجدي نثار المواسم، وألسنتهم قد أدمتها الهتافات.. فارجعي يا صباح، وأوغلي في تيه المنافي.. ارجعي، ففي المنافي فسحة للانعتاق، وفضاء شاسع تقرأين في سمائه أخبار الوطن.
صباح -2
لقد طال سجنك يا صباح، وأظلم، وشبّ الطفلان، واتسعت أحداقهما، فابسطي جناحيك عليهما، وأغلقوا النوافذ والأبواب دونكم. إنّ الأرض ازدحمت بسكانها، وتقاطعت الدروب، وتفرّق الأهل في الجهات الأربع، فلا تخرجوا إلى مساقط الشمس، كي لا تروا مالم ترونه من قبل..
السيارات الفارهة، والثياب الملوّنة، والعطور الزكية، والمطاعم، والفنادق، والقصور الفسيحة التي تضجّ بأسرارها، والأبراج الشاهقة محشوّة ببني البشر، الذين حين يطلّون من شرفاتها مثل السعادين فلا يفعلون ذلك ليروا الناس من تحتهم أقزاماً مضحكة فحسب، بل يخرجون -أيضاً- ليقذفوا ببصاقٍ تضخّم في حلوقهم، أو ليلقوا بأكياس نفاياتهم المباركة على رؤوس المارّة.
فلا تطلقي العنان لأحلامك يا صباح!!.. أغلقي شبّاك حجرتك، وتحصّني بين جدرانها جيداً، وأوصدي دونك الأبواب فهذه الشمس الزائفة لن تمنحك الدفء الذي تنشدينه في غياهب الصقيع الذي يلفّ العالم من حولك. عودي إلى غرفتك القصيّة، ولا تلقي بجسدك اليانع لقمة سائغة في الأحداق الجائعة، المراوغة... مهلاً يا صباح، فما يبدو لك من أطراف النخلة خير مما سترينه في فضاء الشوارع الملوّثة.. لا تخرجي، لأنّ ريحاً صرصراً ستحاصرك وتجلدك بسياط الغواية، ولن تدعك تعبرين إلى مرفأ أحلامك بسلام، فماذا ستفعلين؟!.. وأنت الوحيدة، الفريدة، المشتهاة.
صباح-3
ها أنت تلميّن نتف الذكريات، كمن يجمع أجزاء صورة ممزّقة، وتضحكين دون مناسبة وأنت في كامل صحوك، حين تمرّ بعينيك وجوه أطفالك وهم يتقافزون في باحة الدار.
-ماالذي بعثركم تحت نجوم اللّه البعيدة؟!.
بلى.. إنّ جناحيك كانت تظللّنا بحنان مازلنا نستشعر دفئهما كلما عصفت بنا رياح التغرب والإرتحال، ولكنّ صمتك العميق جعلنا نوغل في أعماق الكون لعلنا نظفر بصدى صوتك ليقصّ لنا ما تخبئه الذاكرة.. أوَلم تخبريني ذات زمن عندما سألتك أن تفضحي بعض طفولتي علّني في شقاوتها طعم الهناء كلما خلوت إلى نفسي في ليل المنافي. قلتِ:
بأن الفقراء يكرهون الحديث عن ذكرياتهم، ولكنهم يحلّقون بعيداً حين يأخذهم الحديث عن الأماني، ويغطّون في حلم عميق.
ليس بين ماتقولينه وما تفعلين ثمّة فرق يا أمي، فكلماتك المفخخة مثل شوك الصبّار تؤرّق ولا تدمي.
ففي شتاءات الطفولة، وعندما أفوز بإغفاءة على ركبتك المكتنزة، كان جلّ ما يشغلني حينها أن أطيل النظر في ملامح وجهك، وأغرس أحداقي في تضاريسه لأعرف منها سرّ صمتك وترقبك.. ولن أنسى ذلك اليوم البعيد.. البعيد، حين قرأت في زرقة عينيك المتوجهة أسفاراً من الحزن، والنبوءات الخائبة.. كنت ساهمةً، شاردةً، تبحثين عن صقور شامخة تحوّم فوق طرائدها، وعندما أسرّ لك والدي بخبرٍ عاجلٍ، ووجهه مزرق من الغضب. رأيتك تنتفضين كلبوةٍ جريحة، ورأيت عينيك الزرقاوين تشتعل بالحمرة المرعبة، فأدركت -وقتئذٍ- بأنّ بروق الفاجعة قد خطفت من ناظريك جنون اليقين.
ها هوذا حلمك يتبدد أيتها الأم الطيبة، فماذا أنت فاعلة بأحزانك؟!. لقد طلعت شمس النهار، وسار الأطفال خلف حقائبهم يبحثون في كتب المدرسة عن نشيد يجمعهم قبل أن يكبروا على أرضٍ تبعثرهم ذات اليمين وذات الشمال.
.. صباح مختلف!!..
تلك التي تتعرى أمامي في البيت المواجه لبيتنا لم تثر غرائزي حتى وهي تتخلّص من آخر ما يسترها. كانت قريبة مني بمقدار يسمح لي برؤية تفاصيل جسدها تماماً. لقد شتمتني ذات يوم وأنا أنظر إليها جهراً وهي تتلوى راقصةً، شبه عارية، ومفاتنها مشرعة للناظرين.
الآن.. أنظر إليها بلا اكتراث، فقد كنت مأخوذاً بروعة الياسمين، وزقزقة العصافير التي تتقافز على عرائش العنب، وشقاوة الشمس التي تطأ الغيمات المنخفضة وتختبئ خلفها قليلاً ثمّ تعاود الظهور، وكتل الثلج الطازج فوق سفح الجبل الصغير المجاور لبيتنا.
قلت: بيدي لا بيد المصادفة.. سأبحث عمّا يبهجني في هذا اليوم المشرق.
-هذا صباح مختلف!..
سأحتضن الشمس ولتغرز نصال أشعتها الدافئة في أحشائي.. تمزقها، أو تمنحني بعض الدفء لأبدأ نهاري بحيوية تتيح لي معرفة الأشياء من جديد.
مثل هذا الصباح لا أراه دائماً، وأنا أقضي سحابة عامي في الركض المحموم خلف أماني صغيرة قلّما تدع لي فسحة للتأمل لاكتشاف جزيئات الطبيعة المدهشة، وثلّة من أقراني تفعل هذا مثلي.. العمر قصير، وثمّة أشياء أخرى في هذا الكون تستحقّ أن نحيا من أجلها!!.
تدغدغني رائحة الياسمين، وزقزقة العصافير المرحة تبدّد برودة الصباح من حولي، وتلك الفتاة التي تتمادى في عريها تشحذ في رأسي جرأة الأسئلة..
-لمَ تتهاوى هذه الأجساد، وتُقبل على مذابحها طائعةً منقادةً؟!.
أي جثث فاسدة تلك؟!.. وأية رائحة تلك التي تشبه رائحة الروث؟!.
هذه الأسئلة المشاغبة ظلّت تحيّرني طويلاً. أمضيت بعض الوقت في البحث عن جواب شافٍ لأريح رأسي من دويّها المتصاعد. وجدت ثمّة فرقاً بين رائحة العرق ورائحة الحرائق، و.. عرفت أن لكل جسدٍ رصاصته الممتعة.
-آه.. لو كانت حصاناً لأطلقت عليها النار.
تمنيت في تلك اللحظة أن توصد تلك النافذة اللعينة، أو يحول ذلك الجبل الصغير بيننا، فيخلّصني من خطيئةٍ تطاردني، وتفسد عليّ لذة الصباح الشهي الذي يحوطني بحفاوةٍ..
هذه بذور وصاياك يا أمي، لقد أينعت حَملاً يخشى خطوات الأطفال الشقيّة، وهبوب الرياح، ويتفرج على صبح يستباح على الملأ فلا يحرّك ساكناً، حتى بأطراف أصابعه..
كنت أعرف أن فجراً يتمطى في العراء يفقد نصاعته على التلال المتربة حين تهاجمه الفصول، ونظرات الجنود الجائعة على مخافر الحدود تلتهم وثائق العائدين، وأن عيوناً زائغة خلف نافذة ضيقة في غرفة قصية تتوق للانعتاق من ظلمة تحاصرها إلى أفق شاسع بعيد، وتحلّق عالياً مثل نسر قبل أن ينقضّ على طريدته، وأعرف أيضاً أن حكايات أمي وأنا أغفو على ركبتها المكتنزة بالحنان واللحم والشحم هي التي أوقعتني في حبائل عشق محموم لخارطة تتباهى بزواياها الحادة.. وفي طوافي بين الحلم والأمنية شعرت بقشعريرة تستنفر مسامات جسدي، وتجبرني أن أترك الشرفة وحلماً يلفه الصقيع، وأعود إلى غرفتي الدافئة لأرسم غيمة بيضاء محملة بالياسمين