بتـــــاريخ : 11/15/2008 7:42:53 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1401 0


    ساعة الذئب

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : خليل جاسم الحميدي | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

     

    السيارة تنهب الطريق.‏

    والطريق تفر من السيارة.‏

    سيارة وحيدة، رمادية اللون، تشق طريقها بعناد في الصحراء، لعجلاتها حسيس حاد، وفوقها، وخلفها ينعقد الغبار، وزوابع العجاج.‏

    داخل السيارة ثلاثة رجال.‏

    الأول: وجهه بلون الحنطة، وله عينا صقر، بيد واحدة كان يمسك مقود السيارة، وبالثانية كان يمسح العرق المتصبب عن وجهه.‏

    الثاني: كان طويلاً ونحيلاً، شديد السمرة، وعيناه ينبعث اللؤم منهما، وهو صامت مثل حجر، لم يكن صامتاً، كان يفكر، ويجتر ذكرياته بهدوء، ثمة أشياء تشغل باله، وتأخذه إليها.‏

    أشياء مرة، ورغم مرارتها، كان يصر على استحضارها والتمسك بها، وكانت مرارتها تؤذيه وتوتره، يظهر ذلك على ملامح وجهه، وفي حركات يديه التي لا تستقر على حال، وعيناه اللتان تنهبان الطريق مع السيارة.‏

    الثالث: كان يقبع في الكرسي الخلفي، له قامة فارعة وشاربان كثان، ويداه مقيدتان، وكان أكبر الرجال الثلاثة سناً، وأكثرهم حزناً وتفكيراً.‏

    كل ما فيه كان حزيناً، وينطق بالمرارة والاكتئاب، وكأنه يحمل على ظهره أثقال الأرض كلها، وكان فريسة لمشاعر مختلطة، وتصورات، وأفكار، وخواطر، عيناه الذئبيتان شاردتان، ذابلتان، كابيتان، مثل التراب تماماً، ويداه مربوطتان، لا ينبس بكلمة، يجتر أفكاره بهدوء، ربما بانتظار شيء ما، يحدث أو قد لا يحدث.‏

    في الخارج كانت الأرض وحدها تحيط بهم من كل الجهات.‏

    أرض قاسية، يابسة وعرة، مملوءة بالشوك والحجارة، جرداء لا نبت فيها، ولا زرع ولا ماء.‏

    مسكونة بوشوشة غريبة، هي خليط من حفيف اليابس، وصوت الطير، والريح، ودبيب الوحش. تمتد على طول النظر، لا حد لها ولانهاية، تكثر فيها الوديان، والتلال، والهضاب، وأشجار الشيح والقندريس.‏

    وكانت السيارة تكرج فوق الطريق الترابية، الممتدة، إلى ما لانهاية، طريق طويلة، وملتوية مثل أفعى أسطورية، وعلى جانبيها نمت بعض الحشائش، والنباتات الشوكية، وأشجار الشيح، والقندريس اليابسة.‏

    وكان الرجل الذي يقود السيارة. رغم معرفته الواضحة بالطريق والأرض، يبذل جهداً واضحاً لتفادي الندوب وأحجار الصوان المدببة كالسكاكين.‏

    وكانت الشمس في السماء، كرة من نار تلتهب.‏

    وكان حر نارها يشوي، ويقتحم السيارة، فيحولها إلى فرن حارق.‏

    وكان الصمت يخيم على المكان ببلاده.‏

    صمت ثقيل، حار، لزج. وخانق. موحش وقاس، يبعث على الرهبة والخوف والتوتر، له رائحة النحاس، وبرادة الحديد، ولذوعة القطران، والماء الآسن. وكان الرجال الثلاثة داخل السيارة، يتصببون عرقاً، وأفواههم يابسة مثل الخشب من الحر والعطش.‏

    التفت الرجل الذي يقود السيارة، باتجاه الرجل الجالس بجانبه صامتاً، فرآه على حالة غارقاً في تفكيره وأحلامه، وعيناه تنظران في البعيد، والعرق يرشح من كل جسده.‏

    قال الرجل السائق: إننا نموت من الحر والعطش.‏

    فرد عليه الآخر: لن نموت قبل أن نبلغ ما نريد.‏

    ثم استدار إلى الخلف، وعلى فمه ابتسامة ماكرة، حاقدة وشامتة، في الخلف كان الرجل الثالث متكوراً على نفسه مثل قنفذ، وقد أسقط رأسه على ركبتيه، لم يكن نائماً، ولم يكن مستيقظاً، كان فريسة لمشاعر مضطربة ومتداخلة.‏

    كان يفكر.‏

    وكان يحلم، ويبحث عن مخرج، وكان يفعل ذلك بإحساس المحبط والمهزوم، وكانت مرارة هذا الإحساس تؤذيه، وتملؤه بالحزن والقهر.‏

    نهرته يد قاسية وعدوة.‏

    رفع رأسه بهدوء، كان وجهه مخضباً بالتعب، والحزن، والكوابيس، رأى اليد التي نهرته، ما زالت ممدودة نحوه بحقد ولؤم، وشماتة متحدية، لكنه لم يجرؤ على النظر في عيني الرجل، لأن النظر ليس في صالحه، وهو يتحاشى التحرش بالرجلين، ولهذا ظلت عيناه كابيتين، حزينتين، وفيهما يتلجلج القهر والحنق، والحزن.‏

    هو واحد.‏

    وهما اثنان.‏

    وهو أعزل، ويداه فارغتان، وهما مدججان بالسلاح والرصاص، وهو يعرف أنه الخاسر في أية مواجهة معهما.‏

    هو وحيد، ومخذول، ومهزوم.‏

    وهما الجماعة، والقوة، والقدرة، والجاهزية.‏

    هما قد استعدا لهذه المواجهة، ووضعا كل احتمالاتها، ووفرا لكل احتمال ما يردعه، وهو أهمل الأمر، ولم يستعد. فأخذ على حين غرة.‏

    مثل الذئاب الجائعة تسوروا داره، ونفذوا إليه، ثم اقتلعوه من فراشه، قبل صلاة الفجر نفذوا إليه، من حيث لا يدري، وأسلحتهم تنوشه من كل اتجاه، ألجمته المفاجئة والمباغتة، فلم يصرخ، أو يدافع عن نفسه، أوثقوا يديه، واقتادوه تحت السلاح إلى السيارة، وفروا به إلى الصحراء.‏

    امرأته قالت له: ستقع بأيديهم ذات يوم، ولن يرحموك.‏

    وها هو قد وقع.‏

    وحقيقة لن يرحموه.‏

    فالذي بينه وبينهم، هو ما بين السندان والمطرقة، وما بين السيل والأرض الواطئة، وما بين السكين والعنق، وما بين السيف والوردة من عداوة.‏

    بينه وبينهم: دم، وحقد، وعداوات، وثارات.‏

    لقد وقع على رأسه.‏

    ولن تنفع الندامة، أو التأنيب في شيء.‏

    قالت له المرأة الغجرية: سيخذلك أهلك، وسيضيع دمك هدراً، ولن يكون وراءه مطالب.‏

    فضربت أمه على صدرها، وقالت لها بانزعاج: فأل الله ولا فألك يا امرأة.‏

    حدث ذلك.‏

    منذ تاريخ بعيد، حتى قبل أن يفعل فعلته، وتكون بينه وبينهم عداوات وثارات، وقبل أن تهدر العشيرة دمه، ويتفرق أولادها في كل جهات الدنيا يطاردونه، ويبحثون عنه.‏

    أما هو فلم يعلق على ما قالته المرأة الغجرية، وتصوره مجرد تخريف، ومع هذا تسلل إلى داخله شيء يشبه الخوف.‏

    منذ ولادته كان ذئباً. أمه قالت ذلك. أكثر من مرة أراد أن يقطع حلمه ثديها، عندما كانت تتأخر عليه بالرضاعة، يكز عليها بأسنانه الحادة، وعندما تضربه بقسوة، وهي تصرخ من الألم، كان ينشب أظافره في صدرها حتى يدميه ويبكيها.‏

    روحه في العراك والمشاجرة.‏

    تفرحه رؤية الدم، وإذلال أقرانه، وكسر شوكتهم، حتى هابته العشيرة، وخافته، وحقدت عليه، ورأت فيه شراً عليها، وحدها قلوب النساء تعلقت به.‏

    أما هو فتعلق قلبه بنخلة العشيرة، وموئل فصولها الوارفة بالعلو، وأنفاس العبير، الصبية منار المطلق، دون غيرها من النساء.‏

    كان ذئباً حقيقياً.‏

    كل العشيرة قالت ذلك.‏

    يكسر رأسه ولا يخاف، في قلبه قساوة الصوان، وفي عينيه ضراوة الذئب المحاصر، وفي يديه يكمن الدم، والموت، وهزائم الآخرين وإذلالهم.‏

    ومع هذا فقد وقع.‏

    والكل حذره من هذه الوقعة، لكن طول الزمن الذي مر على الحادثة خدعه، فأوهم نفسه: أن كل شيء صار في طي النسيان، مع أن زوجته كانت لا تشاركه رأيه، وتقول له:‏

    *البدوي يأخذ ثأره بعد أربعين عاماً، ويقول لقد بكرت.‏

    ومع أنه بدوي.‏

    ومع أنه يعرف أن ما تقوله زوجته هو الحق، ولا حق غيره، فقد كابر، وتجاهل تحذيراتها الدائمة له.‏

    وها هو قد وقع.‏

    وقوعاً مشيناً، ومذلاً.‏

    هو الذئب. وينقاد لهم كالنعجة، يسوقونه إلى الذبح، بدون مقاومة، وهذا ما يؤذيه، ويعذبه، ويمرمر روحه الباكية.‏

    منذ أن أصر الشيخ عبد الله الساري، على تزويج ولده متعب من منار المطلق، عوى الذئب في داخله، واجتاحته رائحة الدم، فعرف أن أشياء كثيرة ستحدث، وأن حياته ستتغير.‏

    في ليلة العرس.‏

    في ليلة الدخلة.‏

    والناس في هرج ومرج وغبطة، مشغولون بالغناء، والدبكة، وإطلاق الرصاص والزغاريد، اقتحم خيمة العروسين، بجرأة الذئب الرمادي، الذي قادته رائحة الدم، ووقف وجهاً لوجه أمام العريس، الذي أذهلته المفاجأة وأدهشته، وقبل أن يفيق من ذهوله واندهاشه، وحتى لا يعطيه فرصة للصياح، أو الصراخ، أو استخدام سلاحه، أطبق على فمه بيده، وبالثانية دفع خنجره في صدره، فتأوه الرجل، وأن من الألم، دفعه بكل ما يملك من قوة وعزيمة، فغاص الخنجر في اللحم الطري حتى المقبض، خضخضه في الجرح، جحظت عينا الرجل، تأوه ثانية بصوت مكتوم، شخر مثل ثور ذبيح، ثم تكوم في أرض الخيمة بدون حراك.‏

    من وقتها بدأت المطاردة.‏

    ومن وقتها صار رأسه على كف عفريت. أمسك بالمرأة من يدها، ثم انطلقا معاً يخوضان في الظلمة. قطعا أراضي كثيرة، وودياناً كثيرة، تجاوزا قرى ومدناً، ثم استقرا في مكان بعيد بعيد، لا يعرفهم فيه أحد، ولا يعرفون فيه أحداً، وظل سنوات طويلة لا يعرف النوم طريقاً إلى عينيه، في كل مساء يجرح إصبعه، ويحشوه بالملح، والفلفل، والكبريت، حتى لا يأخذه النوم، ويتآمر عليه مع أعدائه فيقع.‏

    لكن المدة طالت.‏

    وشيئاً فشيئاً راح يقل حذره.‏

    وها هم يعثرون عليه.‏

    بعد كل هذه السنين الطويلة، من الخوف، والغربة، والاختباء، والحذر، والاستعداد، والانتظار، والترقب، يعثرون عليه لكنه لم يكن مهيأً لهذه المواجهة.‏

    نحره الرجل هذه المرة في صدره.‏

    انتبه.‏

    فهربت ذكرياته دفعة واحدة، حاول أن يتمسك بها، لكنها غادرته وفرت مثل عصافير مذعورة، وتركته وحيداً يواجه مصيره، بيدين مقيدتين.‏

    فتعاظم القهر في داخله، تعاظم حتى اختنق به، وراح يركض مع دمه في الشرايين، ويجتاحه مثل سيل جارف.‏

    تحرك الذئب في داخله.‏

    تحرك بعنف شرس، تحرك، ثم عوى، فعوت معه ذئاب كثيرة، ونفرت خيول كثيرة، حمحمت، ضربت الأرض بحوافرها، فتاوهت الأرض، ازداد عواء الذئب وحشية وشراسة، صهلت الخيل، فاختلط عواء الذئب بصهيل الخيل، ثم انطلقت الخيل تعدو في كل الجهات.‏

    أحس بقشعريرة حادة تسري في جسده.‏

    تململ في مكانه، وفكر بأن يقوم بعمل ما، استمر الذئب يعوي والخيل تعدو، فازدادت حركته المريبة في الخلف، شعر الرجلان بحركته، فعرفا بم كان يفكر، نظر كل منهما إلى الآخر، اتفقا، هزا رأسيهما، ثم ابتسما بلؤم وحقد، دون أن ينطقا بكلمة واحدة.‏

    توقفت السيارة عن المسير، قبل أن ينهي ما نوى عليه، فانكمش في مكانه، نزلا من السيارة، وجراه إلى الخارج.‏

    دارت عيناه في كل الجهات، تبحث عن مخلوق واحد، يقف معه ويسانده، كل الجهات كانت فارغة، الصمت والشمس كل ما فيها، وبينه وبين الرجلين المسلحين، وقف الماضي كل الماضي، وقف عارياً، يرشح بالدم، والحقد، والعداوة، والموت، ويشوه وجه الحاضر، ويسحق أي شعور بالمصالحة أو الرحمة، أو الغفران، فأيقن أن الرحلة قد انتهت، وأنه يدخل في مواجهة اللحظة الفاصلة.‏

    ركضت عيناه باتجاه داره.‏

    ركض معها دمه، ثم ركضت وراء الاثنين روحه، وانطلق القلب يسابق الروح، والدم، والعينين، ركضوا جميعاً، ركض كل ما فيه إلى الزوجة والأولاد، تجاوزوا الأرض الحماد، تجاوزوا الوديان والهضاب والتلال، وأشجار الشيح، وأحجار الصوان، وهم يركضون تجاوزوا القرى، والمدن، والرجال المدججين بالسلاح، ما شعروا بتعب أو إرهاق، أو عطش، كانوا يركضون بعزم الذئب الأغبر، وسرعة الطيور الهاربة إلى أعشاشها.‏

    وعندما وصل.‏

    ضم زوجته إلى صدره.‏

    ضم أولاده أيضاً، عانقهم، وقبلهم، ولم تنزل له دمعة واحدة، تحجر الدمع في عينيه.‏

    حملهم في داخله وعاد.‏

    كان الرجلان يقفان في انتظاره، وأيديهم على السلاح، وفي عيونهما لؤم، وحقد، وشماتة، مزق ثوبه فظهر عارياً كما ولدته أمه، ثم عوى كالذئب، فعوت ذئاب كثيرة، واندفعت خيل ترمح في البراري، قطع وثاق يديه، دق على صدره بقوة، ثم عوى، سرى عواؤه في الهضاب، والسهول، والوديان، ونفذ حتى إلى قلب الحجر، فنفرت طيور، وحمحمت خيل، وارتعش قلب زوجته وبكى، وبخفة الذئب المحاصر وضراوته، اقتحم المسافة، والتحم بالرجلين والرصاص.‏

    السيارة الرمادية اللون كانت تقف محايدة.‏

    وحدها الأرض شرعت ذراعيها، وراحت تنتظر بفارغ الصبر، الرجل الذي سيسقط لتتلقاه

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()