اشتعل الشارع بجمالها كما اشتعل أوارُ قلبهِ.. إلى جانبها ينتعشُ، يحسُّ بأنّ جيوبه تمتلئ بعد إملاقِ، وبأن العالم قد بدأ يظهر له الودَّ كلَّه، والصلح كلّه، ويفرش له الطريق بمنثور الرضا.
- هيفاء..
- نعم.. ماذا تريد؟..
دفعت إليه بإجابة متجهّمةٍ متبقّية من فيض قسوة...فمضى يمنيّ النفس بها، ومضت تشيّعه بنظره غير راضية تقول:
" أملك بي، أملُ إبليس في الجنّة..".
ساعة غادرت هيفاء المعمل، كان الأصيل في اكتماله، وحضور، الأفق بهيّاً ساحراً. درجت وزميلاتها كسرب من يمام يغطيّ فسحة الانصراف، تفوح من ثيابهنّ رائحةُ/ الغزل والنسيج/، وصخب الآلات، وتعب النهار الممزوج بعرق يسحّ، فتتلقفه أصابع مرهونة للشقاء.
قالتْ فاطمة:
- ليت يداً سحرية تحملني بغمضةِ عينٍ، وتنقلني إلى فراشي، فأغطُّ في نوم عميق.
عقّبت سعاد:
- هنيئاً لكِ، فأنتِ تستطيعين النومَ.. أمّا أنا، فهنالك خمسةُ أفواهٍ تنتظرني على أحرِّ من الجمرِ.
وحدها هيفاء، بقيت تتابّط الصمت، كما تتأبّط زوّادة عادت برفقتها، وبقايا ألق وحبورٍ يرافقانها، وهي لاتفتأ تنتقل من رصيفٍ إلى رصيف تستمع إلى أحاديث الصديقات بشرودٍ، وبفكرٍ لايرتاح إلاّ هناك... وهناك حيث محطّتها اليوميّة عند ذلك المفترش المسائي الجميل.
توقّفت، تريثّت، تأملت، بعد أن أسلمت الجميع إلى مفارق الطرق.. وبقيت كالعادة تمعن النظر في الواجهة الزجاجيّة ذاتها، توزّع فوق مساحتها نبضات قلبٍ تعلّق بها. والواجهةُ منبسطة كأنها راحة كفّ تلوّح أصابعها بشيء من التباين والاختلاف.
فوق شهقة الأثواب المعلّقة بفنيّة رائعة تغلغلت، ذابت مع الألوان والأزياء... ومن حالة الإدمان تلك، أتاها ترجيع قديم جديد، وذكريات حالكة، وفاقة وفقر، وبيت قاتم الأركان، وطفولةٌ دون أعياد.
" العيد ليس لنا"
كلمات أبيها تئن في ذهنها كناعورة أتعبتها مياه النهر.
" العيد ليس لنا"
تغزل أمّها لها ولإخوتها كلًّ ليلةٍ قمصاناً جديدة من خيوط الصبر، والصبر مفتاح الـ...
" سافر العيد". خرج من شقوق الأحذية، ومزق الأثواب التي كانت مزهرة في يوم من الأيام.
" سافر العيد"..
فكّرت بصوت مسموعٍ نبّه العابرينَ.
امرأةٌ مضمّخةٌ بالعطر والمواعيد أدارت رأسها معبّرة عن احتجاجٍ.
" لاتبالي.. إنّها صديقة المساء.. تمرُّ كلَّ يوم من هنا، تبحث عن ريشة رسّام، أو عن آلة تصويرٍ، أو ربّما عن شاعرٍ يريد ملهمةً..".
هذا ما حدّثتها به الدميةُ المصلوبةُ خلفَ الزجاج.
أدرك محمّد وقتها أنّ أيّاً كان لايستطيع انتزاع هيفاءَ من وقفتها.. خاف.. ارتعش، وهو يرى عينين ثعلبيتين تلتهمانها وتدعوانها للدخول:
- تفضّلي.. في الداخل ما هو أجمل..
تمرُّ الأيّام على محمّد ثقليةً كباقةٍ من غبارٍ تقبع فوق الصدور. يهاجر الهمُّ إلى قلبه صبح مساء، عبر مجامر ملتهبة تحرق ما بقي له من عزاء. يقلّب صوراً متلاحقة، فلا يجدُ لأمانيه واحة، ولا لحبّه متسعاً للحضور.
هيفاء لاتريده.. أحلامها أكبر منها.
قالت له أكثر من مرّة:
- محمّد.. أنت عامل مثلي، وأنا لاأحبُّ الانتقال من مقبرة إلى مقبرة.
في كلِّ يومّ تقف فيه هيفاء أمام الواجهة، كانت تستعيد النهار كيف مضى، وكيف تمّت مجريات الوقت. تجتر واقعاً كالح الألوان. تتزاحم ألأفكار في مخيّلتها، تتعانق، تتشابك، ثم تفترق، لتتسكّع في شوارع الرؤى....
وبعد تصارع الممكنِ واللاّ ممكن، تتهادى إلى سمعها ترجيعات الصدى شفيفة ...فقد تم الوئام على ناصية التصافي، وصارت إلى حقيقة اكتحلت بها عيناها المغمضتان أصولاً. وأعلنت الطاعة لرجل عرف كيف يقدّر حسنها، ويلوّن أعماقها الخديجة بالأمنيات، وينفذ إلى مسامات جلدها، فينتفخ الجلد فقاعات هنا، ونتوءات هناك.
حسمت الأمر، وذيّلت قرارها بتوقيع الموافقة المنقوشة في أعماقها....
تجاوزت عتبة المخزن الكبير..
ضحكت هيفاء..
وبكى محمّد...
للمجد الطارئ صفات حلم انتظرته، ولم تره إلاّ الآن. ترقبّته دهراً ثمّ أتى، وكانت تظنّه لن يجئ. فتحت عينيها على صباحات مزيّنة بثياب ملوّنة، وقهوة، وهيل. تسربلت في إهاب الوعود، ومضت إلى آفاق خالية من التجاعيد، وغابات بيضاء، بيضاء...
رمت بخيوط/ الغزل/، وبالرفيقات، وبمن أحبّها على قارعة الطريق، ثم مضت إلى فم الثعلب راضية صاغرة.
مات الماضي.. مات، مات.
ماتت هيفاء.... ماتت، ماتت.
لكنّ محمّداً لم يستسلم لفكرة الموت والولادة تلك، ولم يستطع أن يغيّب وجود أغلى الناس بالنسبة إليه. عبر من هناك.. من قرب المكان الذي اعتادت المرور فيه. أخذته الذكرى بعيداً إلى اتجاه ما يغافله من الرصيف. سحبته يد إلى المشهد القريب، انتحت به، فمضى متوّجاً بجروح الحالة.. وكلّما أوغل بالاقتراب، تلمّس قلبه خائفاً أن يغادر الضلوع، وخال أنّ راسه ليس له... هناك، خلع عليه المارّة نظرات مريبة قادته إلى يقين أكيد.
يوم.. يومان، شهر.. شهران، هيفاء لم تأت.
سأل عنها مرّات ومرّات، ولم يورق السؤال.
" أتراها مسافرة.. أتراها مريضة.. أتراها.. أتراها؟"
يسقط الشتاء. يهجع الخريف. يمور الربيع. ينضج الصيف.. تغيبه الفصول جميعها، وحاله كما هي في البحث.
وذات يوم...
ذات وقت..
ذات لحظة..
وبينما هو يسامر الشارع القديم، يسائله ويناجيه، ويمشّط ملامح عابريه، يفتّش بين الزحام عن وجه بعينه... نبتت في حلقه أشواك جرحته.
تلاشى مع حالة مواجهة غير طبيعيّة. تمزّقت المفاجأة عن صرخة مدوّية:
- يالّله.. ماذا ارى.. إنّها هي !..
كانت هيفاء تقف هناك، بشحمها ولحمها..
ليس أمام الواجهة الزجاجية كما هي العادة، ولكن خلفها.. ترتدي ثوباً بلون الشمع، وقفّازين بلون الأرجوان... وقد اختفى من عينيها البريق الذي اختطف محمّداً لسنوات من برودة الرصيف، لينتقل إلى برودة تجربة مرّة، تكتمل الآن..
باختناقه..
باختناقها..
لاأحد يدري...!...