أخيراً سأصبح معلمة أصيلة!.
قالت لينا لأمها، وهي تكاد تطير من الفرح..
قبلتها أمها... لم يكن لها في الدنيا غيرها. ثم رفعت الأم يديها إلى السماء تدعو لوحيدتها..
-حضّري الغداء يا أمي.. سأحضّر درساً لن يعطيه أحد قبلي ولن يعطيه أحد بعدي..
-الله يكون معك!..
تقف لينا أمام طالباتها. زهرات من كل لون، تؤدي الدرس بثقة وفرح. تصول وتجول على المنصة، تستشف نظرة رضىً في عيني موجه المادة.. و....
-مابك يا لينا!.... لِمَ لا تأكلين؟!.
تأكل بضع لقيمات، ثم تطير إلى غرفتها كالفراشة..
كتاب القراءة أمامها.. النص أمامها.. تتراقص الكلمات أمامها مثل شموع مضاءة في ليلة عيد الميلاد..
عصفور في قفص، هرم وهو محبوس، وفجأة قرر صاحب العصفور أن يمنحه حريته...
نظر العصفور إلى صاحبه وتساءل:
-" لماذا أعطيتني حريتي وأنا عجوز.. ومنعتها عني وأنا عصفور صغير قوي الجناحين أتنقل من شجرة إلى أخرى؟!.. تضع لينا أهداف الدرس..
تسطّر.. كل سطر بلون، ترسم. تكتب، تعتصر معلوماتها التربوية التي قرأتها والتي سمعتها...
كأنها تركب الآن صهوة جواد أبيض، يسبح بها في سهل فسيح، ينتظرها سمير وسط السهل مرحباً، ضاحكاً، يتلقفها بيديه القويتين، وتشم رائحته المميزة...
هذا الصيف موعد الزفاف..
-العرس، بعد أن أصبح معلمة أصيلة!.
ينظر سمير إليها. في نظرته عتب، وفي عينيه هيام..
-أمري لله!.
تدخل أمها..
لم تنتبه إليها إلا حين وضعت كأس الشاي أمامها..
-يكفيك سهراً يا لينا!.
-هذا الدرس هو حياتي يا أمي!.
حين تخرج أمها تغوص في حياة العصفور العجوز....
غداً، تخرج من القفص، يصبح لها كيان خاص، غداً.. تفتح باب القفص، فتطل الشمس، يطل سمير في بذلة عرسه ماداً لها يديه..
تفكر في كل كلمة تكتبها. تتمثل كلامها أمام تلميذاتها الصغيرات. ستتوقف في اللحظة المناسبة، وستسير حين يتوجب ذلك، ستضع لوحة أبرية هناك، وجيبية هنا، وقفصاً وصورة عصفور و....
تستقرئ في وجوه تلميذاتها الفهم والتجاوب..
تنظر إلى موجه المادة، ترى أباها يبتسم لها..
تتنهد..
مات أبوها وهي صغيرة، لم تعرف صورته إلا عبر غبار وغيوم..
دائماً، تراه ينظر إليها بصمت وحنان، في منامها، وفي يقظتها، أحياناً...
احتضنتها أمها.. ونذرت نفسها لها.. عملت خادمة في المنازل، وعملت في المعامل.. حتى كبرت ودخلت الوظيفة المؤقتة بعد الشهادة الثانوية..
صوت المنبه يعلن منتصف الليل..
تمسح غرفتها بنظرة سريعة.. الخزانة مغلقة!
ماذا ستلبس غداً؟!... أجمل ثوب عندها.. وحذاءَها الجديد.
لن تركب "الميكرو"، حتى لايدوس الناس على حذائها، ستأخذ سيارة أجرة، وتصل المدرسة في أبهى حلتها...
تسمع دقات قلبها، أهو الخوف أم الفرح؟!..
هكذا كان يدق قلبها قبل كل امتحان، وهكذا دق حين التقت سمير..
عادت إلى مكانها بعد أن حددت الثوب والحذاء.. أنصتت..
لابدَّ أن أمها الآن في سابع نومة...
طنين سكوت الليل جعل لينا تقف متأملة يومها وغدها..
راجعت مواد الدرس، والبطاقات الملونة، حاولت أن تزيد، لكن التعب غزا جسدها دفعة واحدة..
أخبرها المنبه أن الساعة هي الثانية صباحاً..
حينئذٍ، ربطت المنبه على السادسة صباحاً..
وما إن وضعت رأسها على الوسادة حتى غرقت في بئر النوم..
صباحاً..
قامت لينا بالخطوات نفسها التي رسمتها البارحة..
وصلت المدرسة، وكأنها تدخلها للمرة الأولى، الصف يرقص فرحاً، وجوه التلميذات ناضرة ناظرة..
تدخل، ترتب لينا أشياءها، وتنتظر بفارغ الصبر قرع الباب لتستقبل الموجه، وتعطي درساً ناجحاً مائة في المائة..
وفجأة..
يُقرع الباب، تسرع دقات قلبها، وهي تخف نحو الباب بكامل أناقتها..
تفتح الباب..
تقف المديرة بوجهها الصارم..
-أجّل الموجه حضوره!.
-لماذا؟!...
-لا أدري.. سيأتي في وقت آخر!..
وتختفي المديرة في الردهة..
تعود لينا، متراخية الأوصال.. تجلس على كرسيها منهكة، وتدخل قفص العصفور العجوز