بتـــــاريخ : 11/15/2008 9:49:42 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1050 0


    آخر الليل آخر اللوحة!!

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : حسن حميد | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

     

    ما كان يخطر ببالي أبداً أن يحدث ما حدث!!!‏

    كان الأمر أشبه بأن يأتي إليك البحر بكل حورياته وأصدافه ، وعذوبته الرائعة، أو لكأن تعرّش بين يديك غابة من الخيزران الطري، أو أن تحطّ داخل غرف الروح أسراب من طيور السنونو النافرة.

    قد جاءت!!‏

    شقّت عتمة غرفتي مثل طيف من دخان الفضة الخفيف ودخلت ، تخطو حذرة كي لا تخرّب نسيج الهواء . أراها فزعة تجيل النظر في ما حولها ، ترى الأشياء، وتراني ملتفاً بلحافي الحائل اللون، تقترب مني، فأحسَّ بضجيج روحي يتعالى . أرتبك في مرقدي، وأودّ لو كان بمقدوري أن أهبَّ لتحيتها ؛ أو أن أحظى مواقفةً بهذا القبول النبيل. أراها تحاذيني. تطمئن إلى نومي . تقترب أكثر ، تنحني عليَّ كياسمينة، ما أجملها !! تنحني أكثر، يالانحناءتها الخجول . أحكم إغلاق عينيَّ كي لا تضبط يقظتي . أحسُّ بطراوة كفّها تفترش خدي ، تلمّس على شعر لحيتي ، فأشعر بحرارة وجهي تشويني . تسحب يدها برفق فوق أنفي وعينيَّ وجبهتي، تخلخل شعري الطويل بأصابعها أسمعها تتنهد بتوجع حميم وتشمّني، وأحسُّ بأنفاسها تتلاهث مضطربة محمومة قرب أنفي . تقبّلني فأشهق ، وتجفل هي مبعدة لفحة أنفاسها الحرّى. أختلس النظر إليها، أراها تلملم انحناءتها، وتسترد طولها، وتستدير .‏

    تصير غرفتي كلُّها حفيف ثوبها اللجوج، ووقع خطاها الآيبة. وبيدها تغلق الباب عليَّ كما تغلق فلاحة حجريْ الرحى عل حبَّها المنقوع . استوي في مفرشي. أدعك وجهي براحة يدي ، وأهزّ رأسي وأنا لا أصدق ما حدث!! أهي التي تأتي إليَّ في مكاني الوضيع هذا ؟!‏

    ياإلهي !! أما كان لها أن تخبرني لأتهيأ؟!‏

    حيرة تأخذني وتدور بي، فأنهض إلى النافذة ، أطلق البصر إلى دربها المؤدي إلى بيتها العالي، فأراها تنقّل الخطا مثل طير الدرج فوق درج الرَّخام وقد شمرت ثوبها الطويل بأطراف أصابعها ، فبانت فضتها مثل بطون الحمام. تدفع الباب برفق وتدخل ، وبعدها ينعتم المكان، وتنطفئ الرؤية، فلا أحسُّ إلا بكفي تموج فوق وجهي لتبدد حمّى قبلتها الكاوية. وأعود إلى مفرشي ، أنطوي على نفسي محترقاً بالأسئلة الدائرة!!‏

    **‏

    كنت قد رأيتها ، للمرة الأولى، قرب طرف حديقتها الواسعة، وهي في شرفة بيتها العالي . كانت تطلُّ عليَّ، بعدما ركنتُ دراجتي جانباً، وأخرجت بريدها ، ثلاث رسائل وعدة صحف ومجلات. رأتني وأنا أهمُّ بوضعها في صندوق بريدها الخشبي في أول المدخل، فأومأت إليَّ أن أصعد إليها . ترددت للحظات فقط، ثم مضيت.‏

    صعدت درجات سلّمها الرخامي العريض دون أن أفكر بها كثيراً.‏

    قلت: ربما كافأتني بقطعة شوكولا أو ورقة نقدية، أو ربما سأعود من عندها بكلمة شكر باردة. في صعودي ، رأيت مظاهر النعمة موزّعة هنا وهناك ؛ رأيتُ النباتات المدهشة قرب حواف الدرج، واللوحات العريضة والمرايا المعلقة على الحيطان . رأيت الأبواب والنوافذ المغلقة، والسقوف العالية، ورأيتها هي تجالس طاولتها ذات الغطاء المخملي البرّاق. ولم تقف حين صرت في شرفتها ، ولم أسمع صوتها، بل سمعت موسيقاها الخافتة، ورأيتها تعيد إيماءاتها لي لكي أدنو، فتقدمت منها. كانت تسيّج وجهي بنظراتها النافذة . واقتربتُ، فبدا لي ثوبها النيلي الشفيف واسعاً كشراع ، وطويلاً كجذور دالية. كانت تدخن، وأمامها كتاب صغير سميك مشقوق على قلم رصاص ، وقربه كأس ماء كبيرة، وصينية عليها ركوة قهوة وفنجان واسع أبيض اللون، وخلفها لوحة رسم غير مكتملة مثبتة على حامل . ورأيت يدها معلّقة على إيماءتها ، ونظرها مشدوداً إليّ ، ولم أنتظر أكثر، فدفعت الرسائل والصحف والمجلات نحوها، فأخذتها بأطراف أصابعها ، وأسبلت عليها أجفانها، وراحت تقرأ عناوينها ببطء شديد، كأنها نسيتني. وظللت على وقوفي لا أدري ماذا أفعل ! كنت أملّي النظر من كلّ هذا الجمال المربك، امرأة كأنها صورة هاربة لتوها من إحدى لوحات حيطانها العالية؛ امرأة مثل ضحوة النهار وأبهى، ولم تقل شيئاً . لم تشكرني. رمت الرسائل فوق المجلات ونظرت إليَّ ثانية وابتسمت ، وهزّت رأسها، فابتسمت لها واستدرت هابطاً كالمطرود. لم أر الدرج الذي كان منذ لحظات فقط عجينة من الضباب، ولم أنتبه لزخارف النوافذ والأبواب ، ولا لجمال قناديل الإضاءة ، ولا لروعة النباتات وخضرتها اللامعة، واندفعت نحو دراجتي حالفاً الأيمان أن لا أصعد إليها في يوم من الأيام. ضبطت أحزمة الدراجة وعلوتها، وهممت بالرحيل لولا صوتها الذي شلَّ حركتي مرة ثانية؛ رفعت بصري إليها فلم أر سوى إيماءتها الساحرة التي أعادتني إليها قسراً، صعدت وفي رأسي تدور ورشة من الأسئلة. وهناك ، في شرفتها ، واقفتني فبدا طولها الريان ممتلئاً مثل حبة الكستناء، وسألتني، فدوّى رنين الكلام. أجبتها عن كل أسئلتها كالمنوّم دون أن أعرف لماذا. وبعد لحظات صمتٍ تهدّج صوتها، وراحت تبكي وتتنهد، وأسقط في يدي . لفّتني الحيرة ، وأخذني المشهد ، فلم أدر ماذا أفعل. لكن نحيبها الذي علا جعلني اقترب منها لأواسيها، فهمهمتُ وغمغمت، غير أنها ظلّت تبكي وتنتفض . بدت مصبوغة بألوانها مثل مرود في مكحلة، فتجرأت واقتربت منها حتى حففت بها، ففاجأتني أنها أمالت عنقها نحوي، فأخذتها إلى صدري، وأجلستني قربها، ورويداً رويداً راحت تمحو البكاء بحديثها المتقطع الحزين. حدّثتني، كأنها تعرفني منذ زمن بعيد، عن وحدتها القاتلة بعدما مات أخوها في البحر منذ سنين ، فورثت ما ورث ، وظلت تقول هذا لا، وذاك لا.. حتى بقيت هكذا لا زوج لها ولا حبيب؛ تبدد الوقت الطويل بالقراءة والرسم والسفر، تضيق الدنيا عليها حتى لتغدو بلا ناس، فتصير قهوتها بلا مذاق ، وصباحاتها بلا بهجة ، وتغرق في وحدتها الظالمة.‏

    كانت ذاهبة في الحديث المرّ كأنها تودّ أن تقول كلَّ شيء دفعة واحدة ،وقد انهالت عليها المواجع والذكريات ، فأواري نظري عنها، وأتشاغل بالهمهمة والتلفت هنا وهناك . رأيت دمعها الركوض يزيد وجهها الناحل جمالاً. فأتجرأ وأمدّ يدي لأطفئ دموعها بأصابعي الراجفة، فتجفل كأنني كشفتها!! وبلحظة واحدة ينتهي كل شيء ، يشرق وجهها ويشفُّ، ، وترامقني وهي تبتسم، وتسألني مرة أخرى ، ترجوني أن أحدثها عني، أين أعيش، وكيف؟! فأرجوها أن تعذرني فقد تأخرتُ، وأن تنتبه إلى نفسها هي فقط بعدما أقلقتني ، لكنها تلحّ عليَّ ، فأحدثها بكلام برقي عن قريتي الفاخورة التي تركتها منذ سنتين بعد موت أمي وزواج أبي، ومجيء إلى المدينة لأدرس في الجامعة. وأخبرها ، تحت إلحاحها أيضاً، أنني في أيامي الأولى عملت في المطاعم والفنادق، وأعمال البلدية ليلاً ، لكنني تركتها جميعاً حين عملت في البريد كما ترى ، وأنني أسكن وحيداً في الطرف البعيد من المدينة؛ في غرفة كالجحر!!‏

    كانت تصغي إليَّ بانتباه شديد ، وقد تورّد وجهها، وتلامعت عيناها، وفجأة سألتني ماذا أدرس؟! فقلت : التاريخ!! وهزّت رأسها وصمتت، لماذا ؟! لا أدري !! وكي أبدد الصمت شكوت لها قسوة المدينة، وقلة المال وأولاد الحلال، ولا أدري ماذا قلت أيضاً . كانت تستمع بشغف وأنا أحكي ، ودونما إمهال باغتتني:‏

    * " أتعمل عندي"؟!‏

    فلم أجب ، وقد فاجأتني ، وأنا لا أعرفها إلا منذ لحظات فقط!!‏

    بدوت أمامها أشبه بمن أخطأه عيار ناري . وطال سكوتي ، وهي ترنو إليَّ، فأربكتني. وجمجمت من دون كلام، وتاهت نظراتي، فأنجدتني بقولها:‏

    " فكر، وتعال"!!‏

    **‏

    ولم يطل الوقت!‏

    قد استجبتُ لطلبها.‏

    جئت إليها بعد عشرة أيام. أنهيتُ عملي في البريد، وأخذت راتبي وجئت. قالت لي:‏

    * " تأخرت"!‏

    قلت:‏

    * " لكنني جئت"!!‏

    فهزّت رأسها بالموافقة .‏

    فأدركت أنها كانت تنتظر عودتي. أعطتني غرفة وسيعة في طرف حديقتها بعيداً عن عمارتها. نقلت إليها ثيابي وكتبي، ومنحتني راتباً أرضاني، وأعدّت لي قائمة بأعمالي.لم أكن أكثر من مدبر لشؤون البيت والحديقة. وعاملتني بحنان ولطف. فبدأت أشعر أن الحياة راقت لي بعد أن عذّبتني طويلاً ، وأن عكر المدينة ابتعد عني ونأى، وقد حزت على إعجاب السيدة. لقد ضبطتها مرات عديدة وهي تتأملني وتبتسم، وأنا بثيابي الرَّثة، وشعري الطويل ، ولحيتي الكثّة. كما ضبطتني هي وأنا أديم النظر إليها كالمشدوه. وبتُّ مع الأيام أرى كما لو أن خيطاً من الودّ يشدني إليها ويشدّها إليَّ. كانت تهمُّ، وفي مرات عديدة أن تحدّثني كلما سمعتني أثني على ثيابها وموسيقاها ورسومها المدهشة، لكنها- وفي اللحظة الأخيرة- تلجم نفسها بقسوة بادية وكأنها لم تسمع شيئاً!!.‏

    حين أخلو لنفسي أتخيلها ، وقد جاءت إليَّ مفاتحة بأنها تريد الارتباط بي، أوأنها ما عادت تطيق صبراً ، وهي تراني أمامها مثل الفاكهة المحرّمة ، وأمضي في خيالاتي التي أبددها جميعاً حين أقارن نفسي بها، فهي فوق، وأنا تحت، وكي لا يؤرقني التفكير بها كثيراً أطوي طيفها بين ذراعي وأنام.‏

    في النهار ، لا تبدي لي سوى نظراتها الحائمة، ولا تسمعني سوى بحة صوتها التي تجرحني، ومع كل صباح أطوي زمناً وأنشر آخر لعل ما يشغل البال يدنو مع اقتراب المساء. أتمنى لو أن القدر يسوقها إلى غرفتي مرة أخرى لأشمَّ أنفاسها ، وأرى خطوها يجول قرب مفرشي؛ وأحسُّ بحرارة كفها مرة ثانية؛ لحظتئذٍ، لن أغمض عينيّ، ولن أوقف ضجيج القلب، ولن أتناوم. سأقف وأصارحها بأنها أغلقت عليَّ حياتي، وإن ابتسمت راضية، سأضمّها إلى قلبي، وأطوي أحزان الليالي الماضية، لكنها لا تأتي!! ومع مضي الأيام ، رحت أشك بأنها جاءت إليَّ أصلاً، وأن ما حدث لم يكن سوى حلم ليس إلا. وبتُّ أعزو انصرافها عني لسوء مظهري، وإلا لماذا تدقق النظر إليَّ وأنا أعمل داخل بيتها، وفي الحديقة. كنت أراها وهي ترامقني وتبتسم. معها حق، فأنا على الدوام أشعث الشعر، مبلول الثياب ، لا رونق لي ولا زينة. لذلك نويت أن أغيّر من سلوكي فرُحتُ أقف أمام المرآة طويلاً بعدما اقتنعت بأنني بحاجة إلى قيافة تشدُّ انتباهها إليَّ. فاشتريت ثياباً جديدة وحذاء لا معاً، وصممت أن أقصَّ شعري الطويل، وأن أحلق لحيتي لتبدو وسامتي ، وأن أخرج من هذه الفوضى واللامبالاة في هندامي وقيافتي، ورحتُ أتحين الفرصة لمفاجأتها بعدما قرنتها بقولها إنها ستخبرني بأمر هام وخاص حالما تنتهي من لوحتها الجديدة.‏

    تفرغت لغرفتي ساعات ورتّبتها، وهي تراني من شرفتها وتبتسم . شعرت كأن السعادة تدنو، وما عاد بيني وبينها سوى خط واحد أو خطين في لوحتها الأخيرة. ولم يبق عليَّ سوى أن أبدو أمامها بمظهري الجديد لكي استميل قلبها تماماً!!‏

    كنتُ، وفي كلِّ مساء، أتوقع مجيئها ، فأقوم بإعادة ترتيب الغرفة وتنظيفها. أرشّها بماء الكالونيا، وأوقد الشموع فوق الطاولة الصغيرة، وأوزّع الكتب حسب حجومها، وأخفي ثيابي المعلقة تحت طرف ستارة الشباك، وأضع زهرتين من ورود الحديقة في كأس الماء الكبيرة. كنتُ أراها وسط الأضواء الخافتة في شرفتها وهي تراقبني وترسم، تدنو من اللوحة وتبتعد عنها مثل طيور البحر وقت المغيب. وأظل أراقبها، وتظلُّ هي تحاور لوحتها وتراقبني أيضاً . فلا أنام إلا وقد هدّني الانتظار الطويل!!‏

    **‏

    هذا المساء، انتهت من اللوحة ووقّعتها!!‏

    جلستْ قبالتها تحدق فيها طويلاً. كنتُ قد واقفت اللوحة من قبل، مرات عديدة، وفي غفلة منها، فلا أتركها إلا وأنا على قناعة بأنها منتهية تماماً، هنا أشجار وناس، وبيوت متآخية، وهناك وجهان لامرأة ورجل، الامرأة جميلة جداً، والرجل طويل متعب، أشعث الشعر، وأحدهما يودّ لو يذوب في الآخر أو ينتهي فيه!!‏

    إنني أراها، ها هي توزّع بصرها على اللوحة وعليَّ!!‏

    وتمضي في صمتها وتدخينها المتواصل، وأنا أحدق فيها، أكاد لا أرى سواها؛ أصير عيناً واحدة راقبة لكل حركاتها ؛ أراها كأنها أومأت إليَّ بأن أصعد إليها، إيماءة ذكرتني بسحر إيماءتها الأولى.‏

    أشكّ في ذلك للحظات فقط، لكنني أراها الآن تومي لي ثانية؛ بل إن صوتها يملأ سمعي منادياً لكي أصعد إليها. أجل إنها تنادي!!‏

    رجفة تأخذني فتهزّني، وقد تاقت الروح إلى لحظة اللقاء. أنفر إلى ثيابي الجديدة، ألبسها ، وألبس حذائي اللامع، وأمشط شعري الذي قصصته في غفلة منها، وألحق لحيتي، وأغسل يديَّ ووجهي مرات عدة. أرى بياض خدّيَّ، فتبهج روحي بهذا المرأى الجميل. وقبل أن أخرج ، ألقي نظرة فاحصة على محتويات غرفتي، أطمئن إلى ترتيبها ورائحتها ، ثم أمضي إليها. من بعيد ، كان يبدو لي ظهرها الأجمل من اللوحة، وشعرها الطويل الأسود الذي يلفُّ عنقها. أصعد الدرج بخفة لم أعهدها فيَّ من قبل . كنت سعيداً بمفاجأتي التي أعددتها لها. لا بدّ أنها ستفرح كثيراً بهيئتي الجديدة، وستعترف لي بأننا نحن أولاد القرى حين نتقيف يعني نتقيف. أعبر إلى الشرفة ، فتتلقاني رائحتها. يا إلهي ما أطيبها. أراها لا تزال مستغرقة في صمتها ، مأخوذة بألوانها.‏

    أصل إلى مقربة من الطاولة التي وزّعت عليها الفراشي والألوان، فلا تشعر بي. كان السكون مطبقاً حتى أنه بدا لي جزءاً من نسيج اللوحة. أتجرأ وأزحزح الطاولة قليلاً، فتنتبه ، تلتفت إليَّ ، تراني على عجل، ثم تستدير نحوي بكامل جسدها. تدهشها قيافتي بلا شك . تفتح عينيها على وسعهما كالمذعورة، فأبتسم لها، وأخطو نحوها وأنا ممتلئ بالثقة ، لكنني أراها تغطي وجهها بكفيها وتصرخ بي بوحشية كأنها رأت عفريتاً. يبدو أن مفاجأتي لها كبيرة حقّاً لذلك لم يكن أمامي إلا أن أقترب منها، وقد علا صراخها واتسع . لمست يديها بتهيّب لكي أرفعهما عن وجهها، فصرخت بي ثانيةً وانتفض جسدها وارتعش، فوقفت حائراً مذهولاً لا أدري ماذا أفعل !! وحين أرخت يديها رأيت الألوان تصبغ وجهها ، فبدت - رغم انفعالها وصخبها- أجمل وأحلى. وعاد صراخها الوحشي يتعالى بشدّة لكي أخرج، لكنني ظللت على تسمري بعدما لفّتني لحظات من البلاهة، وازداد صراخها، فبدت كما لو أنها امرأة أخرى لا أعرفها أبداً. فجأة ، نهضتْ واندفعت نحوي كذئب جريح، أخذتني من صدري وهزّتني بعنف، وراحت تسألني كطفلة ساذجة عن ثيابي القديمة، وشعر رأسي الطويل، ولحيتي الكثّة. كانت في حالة من الهستيريا الواضحة وهي تبحث عن شكلي القديم في شكلي الجديد، فقد تأكدت من ذلك لأنها كانت تردد مفجوعة:‏

    * " يا مجنون، ماذا فعلت؟‍‏

    ماذا فعلت"؟!‏

    ولم أقل لها شيئاً، شعرت بأنها أهانتني، فخرجتُ يطردني غضبي، ووقع قدميَّ، وهيئتها الشرسة، وحين صرت تحت شرفتها تماماً راحت ترميني بفراشيها، وكتبها، وعلب ألوانها ، وكأس الماء، وحذائها، وأصابع الشمع الموقدة، وهي تهمهم بحزن شديد:‏

    * " خرّبتَ اللوحة، خرّبت اللوحة"‍‍!!‏

    ولم أدرك بالضبط ماذا قصدت تماماً، فمضيتُ، وقد علا نشيجُ بكائها وامتدَّ!!‏

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()